أزمة صناعة السيارات المغربية.. “ظرفية” أم سببها المنافسة الصينية؟

2
أزمة صناعة السيارات المغربية..
أزمة صناعة السيارات المغربية.. "ظرفية" أم سببها المنافسة الصينية؟

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. خلال عقد من الزمن فقط، استطاع المغرب إنشاء وتوسيع قاعدة متطورة لتصنيع السيارات وأجزائها، بحيث تمكن من تبوأ المرتبة الأولى إفريقيا منذ 2019. وفي غمرة هذا النجاح الذي تحاول دول أفريقية استنساخه، تصدرت منتجات هذا القطاع إلى أكثر من 70 دولة في العالم، صادرات المغرب وأصبحت عائداتها تشكل جزءا هاما من مداخيل البلاد.

لكن خلال النصف الأول من العام الجاري، سجل القطاع تراجعا مفاجئا ومثيرا للقلق دفع الخبراء والمحليين مذاهب شتى في محاولاتهم فهم ما يجري. والمقال التالي يحاول تقليب أوراق الأزمة المقلقة.

قطاع استراتيجي

وجهت العديد من الشركات المصنعة أنظارها إلى المغرب في السنوات الأخيرة، حيث تحول خلال العقد الأخير لاعبا رئيسيا في قطاع صناعة السيارات، بعدما نجح في جذب أسماء عالمية كبيرة مثل “رينو” و”ستيلانتس”، وآخرها الشركات الصينية العملاقة.

ومنذ عام 2012، تمتلك شركة رينو مصنعا كبيرا يغطي مساحة 300 هكتار في طنجة، ينتج العديد من المركبات بما في ذلك سيارة “داسيا سانديرو” الاقتصادية الشعبية، التي تعتبر حاليا السيارة الأكثر مبيعا في أوروبا. وفي المجموع، تم تصنيع 312 ألف مركبة في هذا المصنع العام الماضي، وهو أكبر مصنع للمجموعة الفرنسية في العالم (7000 موظف)، مخصص بالكامل لعلامتها التجارية “داسيا” منخفضة التكلفة.

بالموازاة مع ذلك، تتواجد شركة “ستيلانتس” الفرنسية الإيطالية الأمريكية منذ عام 2019 بالمغرب، حيث فتحت الشركة مصنعها في القنيطرة. والعام الماضي تم إنتاج 175 ألف مركبة هناك، بما في ذلك سيارات بيجو 208 التي يكثر عليها الإقبال في أوروبا، كما ينتج المصنع في القنيطرة أيضا السيارات الكهربائية. وترغب هذه المجموعة الفرنسية الإيطالية الأمريكية في الذهاب إلى أبعد من ذلك، حيث تخطط لاستثمار 350 مليون دولار لزيادة قدرتها الإنتاجية إلى 400 ألف مركبة سنويا بحلول عام 2027.

وبحسب مكاتب استشارات دولية متخصصة في قطاع تصنيع السيارات، فإن جاذبية المغرب تفسرها بالأساس تدني تكلفة العمالة، والتي تمثل 65% من إجمالي تكلفة السيارة. ومن ذلك أن تكلفة العامل في مصانع السيارات بالمغرب تقل بخمسة أضعاف عن تكلفة نظيرة في الصين.

على هذا النحو، وفي خضم التحولات الاقتصادية العالمية، يراهن المغرب بكل ثقله على توطين صناعة السيارات باعتبارها رافعة للتنمية ومصدرا رئيسيا لخلق فرص الشغل وجلب العملة الصعبة. وبالفعل، أصبح قطاع السيارات يحتل الصدارة بين القطاعات المصدرة. وبحسب معطيات وزارة الصناعة والتجارة، بلغ حجم صادرات قطاع السيارات المغربي سنة 2023 حوالي 140 مليار درهم(14 مليار دولار. وخلال عام 2024 حوالي 157 مليار درهم (15,7 مليار دولار)، بزيادة 6.3% مقارنة بعام 2023. وبذلك باتت صادرات السيارات تحتل المرتبة الأولى بين كل الصادرات المغربية، متقدمة على الفوسفاط والمنتجات الزراعية. كما أن المغرب يحتل حالياً المرتبة الأولى إفريقيا في إنتاج السيارات، بطاقة إنتاجية تقارب 700 ألف وحدة سنوياً بين مصنعي “رونو” بطنجة والدار البيضاء، و”ستيلانتيس” بالقنيطرة.

شبح الأزمة

لكن قطاع السيارات المغربي يواجه أزمة مع بداية عام 2025. فحسب بيانات محدثة لمكتب الصرف، سجلت صادرات المركبات المنتجة محليا انخفاضا بنسبة 7,8% في الربع الأول من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. وهو ما أدى إلى خسارة أكثر من 3 مليارات درهم (حوالي 300 مليون دولار). وخلال ذلك، بلغ العجز التجاري للمغرب 133,1 مليار درهم (14,8 مليار دولار) بنهاية مايو 2025، بحسب نشرة صدرت قبل أسبوعين عن مكتب الصرف المغربي. وهو تراجع يسجل للسنة الخامسة على التوالي، متأثرا خلال النصف الأول من العام الجاري بتراجع قطاعات اقتصادية مهمة. فعلى مستوى الصادرات، تراجعت صادرات قطاع السيارات بنسبة 4% (من بداية العام إلى غاية نهاية مايو 2025) مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، إلى 64,7 مليار درهم (حوالي 7,2 مليار دولار). وهو تراجع يثقل كاهل الصادرات المغربية.

وبالتدقيق في تفاصيل الأرقام، فقد صدرت مصانع مجموعة “رونو” في طنجة والدار البيضاء 132 ألف مركبة بين يناير ونهاية أبريل 2025، بانخفاض طفيف بلغت نسبته 3,6% مقارنة بنفس الفترة من العام 2024. بينما شهدت شركة “ستيلانتيس المغرب” بالقنيطرة انخفاضا أكثر أهمية في صادراتها، حيث أدت الأعطال التي تم تسجيلها في أنواع معينة من المحركات إلى استرجاع سياراتها من الأسواق الأوروبية. كما أدت جدولة عمليات الصيانة لتلك المركبات إلى خفض معدل إنتاج مصانع الشركة وبالتالي صادراتها.

ومع ذلك، يأمل مسؤولو قطاع صناعة السيارات في العودة إلى الوضع الطبيعي بحلول نهاية العام. وبدوره، ينحو الخطاب الرسمي نحو التهوين من شأن الأزمة التي باتت تطل برأسها. ويرى عبد اللطيف الجواهري، والي (الرئيس التنفيذي) لبنك المغرب، أن هذا التباطؤ مؤقت. بناءً على مناقشاتنا مع رينو وستيلانتس، لا توجد لدينا أيو مخاوف كبيرة. فمعدلات استخدام الطاقة الإنتاجية لديهما من بين أعلى المعدلات في القطاع الصناعي بالمغرب، حيث تتراوح بين 97 و98.%ويحدد الجواهري عدة أسباب دورية لهذا التباطؤ، أبرزها الأزمة في أوروبا والدخول المكثف للسيارات الكهربائية الصينية إلى السوق، وهي “ظاهرة تُعيد تعريف قواعد المنافسة”، برأيه.

أكد الرئيس التنفيذي لبنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، ثقته في مرونة النظام البيئي المغربي، وتوقع انتعاشا ابتداء من عام 2026، والذي من المتوقع أن يكون مدفوعا بإطلاق نماذج جديدة أكثر انسجاما مع تطور السوق العالمية. ويؤكد عبد اللطيف الجواهري قائلا: “لا ينبغي لنا أن ننسى أن هذه صناعة حساسة للغاية لدورات تجديد الإمدادات وجودة الإدارة والقدرة التنافسية في الأسعار”. لكن التحدي الحالي يكمن في التحول في مجال الطاقة، بحسب الخبراء. ويوضحون أن صناعة السيارات المغربية يجب أن تتكيف بسرعة مع الطاقة الكهربائية والهجينة، وهو ما يتطلب مهارات تقنية جديدة، واستثمارات في البحث والتطوير، وتحديث المكونات (البطاريات، والإلكترونيات الموجودة على متن السيارة، وما إلى ذلك) وتنويع الأسواق خارج أوروبا.

المنافسة الصينية

يجذب المغرب منذ عام 2023 وبشكل، متزايد شركات تصنيع السيارات الصينية. فخلال أقل من عامين، تمكنت حوالي عشر من هذه الشركات من ترسيخ وجودها في المملكة، وهي تتطور بسرعة بفضل استراتيجياتها التجارية الشرسة وشراكاتها القوية مع شبكات الاستثمار والتصنيع المحلية. وتعمل الشركات المصنعة الصينية على تعزيز صناعة السيارات الكهربائية في المغرب، إذ يتوقع أن ينتج مصنع COBCO العملاق الذي قيد الإنشاء في الجرف الأصفر، والذي يعد نتيجة شراكة بين مجموعة CNGR الصينية وصندوق المدى الاستثماري، مواد لصنع مليون بطارية للسيارات الكهربائية سنويا. ويتطلب المشروع استثمارا يتجاوز 20 مليار درهم (أزيد قليلا من 2 مليار دولار). وفي الموقع نفسه، تقوم شركة Tinci Materials بتطوير مصنع إلكتروليت لبطاريات الليثيوم أيون، باستثمار يبلغ نحو 280 مليون دولار. وأعلنت شركات BTR وGotion وShinzoom أيضا عن استثمارات تزيد عن 10 مليارات يورو (11,6 حوالي مليار دولار) منذ عام 2024. وهذه آفاق جيدة للمغرب، الذي يهدف إلى إنتاج مركبات كهربائية تحمل علامة “صنع في المغرب”.

لقد شهدت الاستثمارات الصينية في المغرب في مجال الطاقة والمركبات الكهربائية والبطاريات نموا كبيرا في السنوات الأخيرة، حيث وصلت إلى 10 مليارات دولار في هذا القطاع، حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية. وفي يوليو 2024، أعلنت ثماني شركات تصنيع صينية عن خطط لإنشاء مصانع جديدة لإنتاج أجزاء السيارات الكهربائية بالقرب من طنجة وفي المناطق الصناعية بالقرب من المحيط الأطلسي.

ويمكن تفسير هذه الاستثمارات الصينية الضخمة في المصانع المغربية بحقيقة أن المغرب يقع على بوابة أوروبا وأفريقيا ويقوم ببناء “نظام بيئي صناعي للسيارات” هناك منذ 20 عامًا، كما تتمتع المملكة بشبكة نقل متطورة، بما في ذلك موانئ مثل ميناء طنجة المتوسطي، واحتياطيات كبيرة من الفوسفات المستخدم في إنتاج بطاريات السيارات.

ومن بين المزايا الرئيسية الأخرى، يتمتع المغرب باتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، والتي تعمل بمثابة نقاط اتصال في نظام تجاري عالمي يتم إعادة تشكيله حول مسار مليء بالعقبات، من التعريفات الجمركية المرتفعة، والقيود التجارية، والمنافسات الجيوسياسية.

في سياق ذلك، وفي وقت يسعى المغرب إلى تعزيز مكانته كمنصة صناعية تنافسية لصناع السيارات وقطع غيارها، وكحلقة وصل رئيسة ضمن سلاسل الإنتاج والتوريد العالمية، يرى خبراء دوليون أنه على السلطات المغربية ضبط هذا التدفق الكبير للمستثمرين الصينيين على قطاع السيارات المغربي، حفاظا على علاقات المغرب القديمة والمتعددة مع المصنعين الأوروبيين، الذين يعتبرون الشركاء التاريخيين للمملكة. بعبارة أخرى، يتوجب على المغرب أن يضمن الحفاظ على مناخ الثقة مع الشركاء الأوروبيين، دون إبطاء ديناميكية الاستثمار.

أسئلة المستقبل

ثمة سؤال كبير يطرح نفسه بإلحاح في سياق الأزمة الحالية: هل يبني المغرب اقتصادا متوازنا ومستداما، أم إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد فقاعة فقط، ستنتهي بقطاع تصنيع السيارات المغربي نحو مصير شبيه بما حدث لمدينة ديترويت الأمريكية؟

للتذكير، فقد عاشت مدينة ديترويت الأمريكية أمجادها خلال منتصف القرن العشرين، كعاصمة عالمية لصناعة السيارات، قبل أن تنهار بشكل مفاجئ بعدما فقدت قاعدة صناعتها الأساسية أمام منافسة شرسة من الشركات الآسيوية. فانسحبت كبريات شركات صناعة السيارات منها، متسببة في إفلاس المدينة سنة 2013. وهو ما اعتُبر أكبر إفلاس بلدي في تاريخ الولايات المتحدة. السبب لم يكن فقط تراجع صناعة السيارات، بل أيضاً هشاشة النسيج الاقتصادي الذي تمحور حول قطاع واحد دونما قدرة على التكيف مع التغيرات.

ويرى خبراء أنه على الرغم من نجاح المغرب في جذب شركات عالمية كبرى، يظل الخوف قائما من أن يتحول الاعتماد المفرط على قطاع السيارات إلى نقطة ضعف قاتلة مستقبلا. فالصناعة المغربية على الرغم من تطورها، لا تزال مرتبطة بشكل مصيري بالمراكز الأوروبية لصناعة السيارات، خصوصا فرنسا وإسبانيا، ومعتمدة بشكل أساسي على صادرات موجهة نحو الاتحاد الأوروبي، الذي يستقبل أكثر من 86% من صادرات السيارات المغربية وفق إحصائيات مكتب الصرف.

من جانب آخر، يعتمد المغرب بشدة على تصنيع السيارات الاقتصادية منخفضة الكلفة مثل “رونو داسيا”، التي تواجه مستقبلا غامضا مع تغير تفضيلات المستهلكين نحو نماذج أكثر تطوراً وأقل تلويثا. وبالتالي، فإن أي تراجع في الطلب الأوروبي على هذا النوع من السيارات قد يضرب مباشرة قاعدة الإنتاج الوطني. ومع الانتقال المتسارع نحو السيارات الكهربائية في أفق تعميمها ابتداء من 2030، يعيش قطاع السيارات العالمي تحولات عميقة تطرح تحديات مثيرة لقلق مشروع، حول قدرة المغرب على التأقلم معها بنجاح. فحسب تقرير سابق لوكالة بلومبرغ الأمريكية المتخصصة في الاقتصاد والأعمال، من المتوقع أن تمثل السيارات الكهربائية 60% من المبيعات العالمية بحلول 2030. ورغم أن المغرب بدأ يشجع الاستثمار في مكونات السيارات الكهربائية، مثل البطاريات وأنظمة الدفع، إلا أن بنيته التحتية ما زالت في بداياتها مقارنة بالمنافسين العالميين، وفي مقمتهم الصين.

وعلى مستوى آخر، تثير مسألة تأهيل العنصر البشري تساؤلات مقلقة. فمع تسارع الثورة الصناعية الرابعة ودخول تكنولوجيات جديدة، مثل الذكاء الاصطناعي وأنظمة التصنيع الذاتية في قطاع السيارات، تبرز الحاجة إلى عمالة عالية التخصص في مجالات التصميم الإلكتروني والبرمجيات الصناعية. وهي مجالات لا يزال فيها العرض التكويني الوطني محدودا، مقارنة بحجم الطلب المتوقع. فحسب تقرير للمجلس الأعلى للتربية والتكوين لسنة 2023، فإن أقل من 3% فقط من بين خريجي الجامعات والمعاهد العليا بالمغرب، يتخصصون في مجالات تكنولوجية متقدمة ترتبط مباشرة بالصناعة المستقبلية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس