الجزائر – المغرب إلى أين؟ حرب السياسة على الاقتصاد (3/4)

10
الجزائر - المغرب إلى أين؟ حرب السياسة على الاقتصاد 3/4
الجزائر - المغرب إلى أين؟ حرب السياسة على الاقتصاد 3/4

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. لا نكاد نجد شبيها للقطيعة الحالية وغير المسبوقة في تاريخ المغرب والجزائر، إلا في الحالة بين الكوريتين ربما. فقد دخل البَلدان منذ 2019 في نفق قطيعة مظلم تتجذر أكثر فأكثر بين الشعبين، يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، ضدا على منطق التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة.

يقول المفكر الصيني القديم كونفوشيوس: بدل إعلان الظلام اشعل شمعة.. ولذلك بدل الغوص المتكرر في تفاصيل الأزمة وجذورها، دعونا نتكلم بلغة الاقتصاد الذي يحكم واقع الناس اليومي، ونحاول البحث في ثنايا السؤال المُحرج: ما الذي تخسره الجزائر والمغرب معا، بسبب القطيعة المستفحلة بينهما؟ وعطفا على ذلك، ما الذي سيتغير لو انتقل البَلدان من العداء إلى التعاون والشراكة؟

تُمثل 2019 سنة مفصلية في تاريخ العلاقات الجزائرية المغربية، فخلالها شهدت الجزائر أحداثا جسيمة أثرت على علاقاتها بجارها الغربي على نحو غير مسبوق. كان الجزائريون قد خرجوا في احتجاجات شعبية واسعة النطاق استمرت لأسابيع، عُرفت باسم “ثورة الابتسامة” أو “الحراك الشعبي”، احتجاجا على ترشح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة (الذي كان مريضا جدا) لعهدة رئاسية خامسة. ولعبت قيادة الأركان، خاصة رئيس الأركان آنذاك الفريق أحمد قايد صالح، دورا مهما في دفع بوتفليقة نحو الاستقالة في 2 أبريل 2019، بحيث شكّل هذا التاريخ نقطة تحول كبرى في تاريخ البلاد. فقد كان من نتائجه البارزة توتر علاقات الجزائر مع الجار الغربي المغرب على نحو متصاعد، وصولا إلى قطع العلاقات بين البلدين في صيف 2021، وما تلاه من إجراءات خطرة وغير مسبوقة.

حرب السياسة على الاقتصاد

في 24 أغسطس 2021، أعلنت الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، بسبب “الاستفزازات المتكررة والممارسات المعادية التي يقوم بها المغرب”. وفي أكتوبر 2021، أعلنت قرارها بغلق أجوائها أمام الطيران المغربي. وفي نفس الشهر، أصدر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أوامر بإلغاء أي عقود تجارية تجمع شركات جزائرية بنظيراتها المغربية. وقد أدى هذا القرار المباغت إلى تأثيرات اقتصادية ملحوظة على كلا البلدين. من الجانب الجزائري، واجهت الشركات الجزائرية صعوبات في العثور على بدائل للأسواق المغربية في قطاعات مهمة كالتأمينات وتجارة التمور، بينما من الجانب المغربي، فقدت العديد من الشركات المغربية فرصا تجارية في السوق الجزائرية. لكم القرار أيضا شمل عدم تجديد عقد أنبوب الغاز الذي كان ينقل الغاز الطبيعي من الجزائر بالمغرب ومنه بإسبانيا، والذي انتهى العمل به في منتصف ليل 31 أكتوبر 2021. وكان مبرر قرار الرئيس الجزائري هو “الممارسات ذات الطابع العدواني من المملكة المغربية”، وفقا لبيان صدر عن الرئاسة الجزائرية.

وفي يناير 2024، أصدرت الجزائر قرارا يقضي بمنع استيراد السلع عبر الموانئ المغربية، وذلك من خلال منع أي عملية توطين لعقود النقل التي تنص على إعادة الشحن أو العبور عبر الموانئ المغربية. هذا القرار الذي جاء بناء على تعليمة من الأمين العام لوزارة النقل، وتم تطبيقه بشكل رسمي في 10 يناير 2024، أثر بشكل كبير على العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين، بعدما قامت الجزائر بمنع شركاتها من استيراد أو تصدير أي منتج يمر عبر الموانئ المغربية، وأصدرت الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية في الجزائر تعليمات صارمة بهذا الشأن.

أثر هذا القرار بشكل كبير على العلاقات التجارية بين الجزائر والمغرب، حيث أدى إلى تعقيدات في سلسلة التوريد وزيادة التكاليف اللوجستية للشركات الجزائرية المستوردة. وبحسب تقرير نشرته مجلة “جون أفريك” الفرنسية، فإن هذا القرار كان تقديرا سياسيا خاطئا من الجانب الجزائري، حيث كلف المتعاملين الجزائريين تكاليف مالية مرتفعة ولم يحقق الأهداف المرجوة منه. ووفقا لتقرير المجلة الفرنسية، فإن الجزائر تراجعت عن هذا القرار بشكل سريع بعد مرور شهر واحد فقط على تاريخ إصداره، بعدما تبين للسلطات الجزائرية بأن التكلفة الاقتصادية لهذا القرار السياسي كانت باهظة. فأصدرت جمعية البنوك والمؤسسات المالية الجزائرية في 29 يناير 2024، قرارا جديدا يقضي بإعفاء الصادرات التي يتم شحنها على البواخر، أو المبرمجة لإعادة شحنها في ميناء طنجة المتوسط في المغرب قبل تاريخ التعليمة الأولى.

تراجع التبادل بين البلدين

كنتيجة طبيعية للعلاقات المتوترة بين البلدين، تراجع حجم التبادل التجاري والبشري بينهما بشكل مهول خلال الخمس سنوات الأخيرة. من الضروري التنويه إلى أنه لا يمكن حصر الخسائر التي يتكبدها البلدان في رقم أو قطاع وحيد، بسبب واقع شبه الإفلاس الذي انتهت إليه أغلب القطاعات التي كانت تنشط في المعاملات بين البلدين، وكذا تضارب التقديرات المتوفرة وغياب الكثير من المعطيات نتيجة لواقع القطيعة. ولذلك سوف نقصر اهتمامنا أساسا بالخسائر في التبادل التجاري والبشري والمشاريع الاستثمارية المشتركة.

قبل اندلاع الأزمة الحالية في 2019، كانت الجزائر تصدّر إلى المغرب بشكل أساسي الغاز الطبيعي والمواد الكيميائية والتمور. بينما كان المغرب يصدّر إلى الجزائر منتجات مثل: الأدوية، والأغذية، والمواد الكيميائية، والنسيج (الملابس)، والحديد والصلب. وقبل قطع العلاقات، كان حوالي 150,000 جزائري يزورون المغرب سنويا، معظمهم في الأشهر الصيفية. هذه الزيارات كانت تساهم بشكل كبير في الاقتصاد المغربي، خاصة في القطاعات السياحية والتجارية والخدمات (المقاهي والفنادق والمطاعم). وبالمقابل، كان حوالي 100,000 مغربي يزورون الجزائر سنويا، أساسا في إطار زيارات للعائلة (العائلات المختلطة) والرحلات الثقافية.

لكن واعتبارا من العام 2021، توقفت العديد من المشاريع الاستثمارية المشتركة بين البلدين بسبب التوترات السياسية، حيث تشير تقديرات إلى أن الخسائر السنوية في الاستثمارات المشتركة يمكن أن تصل إلى 100 مليون دولار. بينما تشير بعض التقديرات إلى أن الخسائر السنوية في قطاع السياحة يمكن أن تصل في حدها الأدنى إلى 50 مليون دولار. والذي زار المناطق الحدودية بين البلدين، لا شك لاحظ الشلل التام الذي تعاني منه الفنادق والمطاعم والفنادق واللوجستيك (وسائل النقل خصوصا سيارات الأجرة والحافلات)، وهي قطاعات خدماتية عرفت فورة انتعاشتها خلال الفترة القصيرة (1990-1994) التي تم تطبيع العلاقات وكانت الحدود مفتوحة بين الجزائر والمغرب.

وفي هذا الصدد، تروج على شبكات التواصل أشرطة فيديو مغربية وجزائرية يستنجد فيها سكان الجانبين من الحدود بسلطات بلديهم أن تفتح الحدود من أجل خلق رواج ينعش اقتصاد المنطقة الذي يختنق منذ ثلاثة عقود.

كان ارتفاع حجم التجارة في عام 2021 جزئيا بسبب بعض المشاريع التعاونية المؤقتة بين البلدين، لكن هذه المشاريع لم تستمر إلى عام 2022 حيث توقفت نتيجة لقرار الرئيس الجزائري وقف أية تعاملات لشركات بلاده مع نظيراتها المغربية. وهكذا تراجع حجم التبادل التجاري بين المغرب والجزائر خلال العام 2022 إلى حوالي 2,5 مليار درهم مغربي (حوالي 246 مليون دولار)، ما يمثل انخفاضا بنسبة 64% مقارنة بالعام 2021، ويعكس التصاعد الكبير وغير المسبوق للتوترات السياسية والاقتصادية بين البلدين، (قطع العلاقات وإغلاق المجال الجوي في وجه الطيران المغربي ابتداء من أغسطس 2021).

وبناء على التقديرات المتوفرة، يرى خبراء من البلدين أن المغرب والجزائر يخسران مجتمعين ما يتراوح بين 500 مليون و700 مليون دولار سنويا بسبب سياسة القطيعة. لكن دراسات دولية تتوقع أن تكون الخسار أكبر بكثير من ذلك، وتحسب بالمليارات.

اقتصاد الفرص المهدورة

بدل تكريس خطاب التشاؤم، لنفتح نافذة صغيرة على الأمل ونتساءل: ماذا سيتغير لو انتقلت الجزائر والمغرب من العداء إلى التعاون والشراكة؟

يشير تقرير للبنك الدولي أيضا إلى أنه في حال حدوث تكامل حقيقي بين البلدين، فإن الناتج المحلي الإجمالي PIB للجزائر سيرتفع بنسبة 35%، والمغرب بنسبة 30% خلال عشر سنوات. وبحسب العديد من الدراسات وتحليلات الخبراء الاقتصاديين، ففي حال أخذت العلاقات بين الجزائر والمغرب مجراها الطبيعي، يمكن أن يحقق البلدان فوائد اقتصادية وسياسية كبيرة. فإذا انتقلت الجزائر والمغرب من العداوة إلى التعاون، يمكن أن يحقق البلدان فوائد ملموسة على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهذا التعاون يمكن أن يعزز النمو الاقتصادي، ويحسن الاستقرار الإقليمي، ويرفع من مستوى المعيشة للسكان في البلدين. كيف ذلك؟

فمن شأن إعادة فتح الحدود البرية بين البلدين التي يفترضها أي تطبيع للعلاقات بين الجزائر والمغرب، يمكن أن يخلق حركة كبيرة للبضائع والمسافرين بين البلدين، ما سيعزز سريعا النشاط الاقتصادي وينعش المدن والقرى المهمشة على جانبي الحدود. فالتقديرات تشير إلى أن البلدين سوف يكسبان على الأقل ما بين 100 مليون و200 مليون دولار، هي الخسائر السنوية الحالية بسبب إغلاق الحدود البرية. ويمكن أن تزداد التجارة البينية بشكل كبير، ما يعزز النمو الاقتصادي لكلا البلدين من خلال تبادل السلع والخدمات بشكل أكثر فعالية، في مجالات حيوية مثل الطاقة، والزراعة، والصناعات التحويلية (الفوسفاط الذي يمكن أن تستفيد فيه الجزائر من التجربة الكبيرة للمغرب). والتعاون الثنائي في استثمارات في مشاريع مشتركة، بحيث يمكن للشركات الجزائرية والمغربية التعاون في مشاريع مشتركة، وخلق مناخ من المنافسة بدل العداء في مجالات تطوير البنية التحتية مثل الطرق، الموانئ، والسكك الحديدية، مما يسهل حركة البضائع والخدمات. كما يمكن أن تسهم المنافسة الصحية بشكل كبير في تحسين جودة المنتجات والخدمات وزيادة الكفاءة الإنتاجية؛ بما من شأنه أن يساعد التعاون بين الجزائر والمغرب في تعزيز المصالح الإقليمية، مثل تحسين الأمن الغذائي، والتنمية المستدامة في البلدين.

ومن شأن حركية تبادل السياح بين البلدين أن تزيد من الإيرادات، فإغلاق الحدود وعدم وجود رحلات جوية مباشرة أدى إلى تراجع في عدد السياح بشكل شبه تام. وقد قال الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة ذات مرة إنه “في حال فُتحت الحدود البرية مع المغرب، فإن مليون جزائري سيعبرون إليه بقصد السياحة”. وهو ما سيضخ طبعا ميزانية كبيرة (مليار دولار على الأقل) لصالح الاقتصاد المغربي، هو في أحوج الحاجة إليها.

إذا كانت العلاقات بين المغرب والجزائر طبيعية، فإن هناك العديد من القطاعات التي يمكن أن يتعاونا فيها لتحقيق فوائد مشتركة. هذه أبرزها:

في مجال الطاقة: الجزائر هي من أكبر مصدري الغاز الطبيعي في العالم، بينما المغرب لديه احتياجات متزايدة للطاقة. بينما المغرب يعتبر رائدا في مجال الطاقة المتجددة، التي تسعى الجزائر إلى تطويرها. ويمكن بالتالي التعاون في تطوير مشاريع مشتركة في الطاقة الشمسية والريحية. ومنه، يمكن التعاون بين البلدين في تطوير خطوط أنابيب نقل الغاز ومشاريع الطاقة مشتركة للطاقات المتجددة.

وفي مجال الزراعة: يمكن تبادل المنتجات الزراعية مثل الفواكه والخضروات والحبوب، مما يساعد في تلبية احتياجات السوق المحلية في كل من البلدين. ومن شأن التعاون في تطوير سلاسل الإمداد الزراعية، والعناية بالمحاصيل أن يزيد من الإنتاجية ويرفع من الصادرات الزراعية الجزائرية إلى الأسواق الإقليمية والدولية.

وفي مجال الصناعة التحويلية: يمكن التعاون في تطوير الصناعات التحويلية مثل الصناعات الكيميائية والصناعات الغذائية والصناعات النسيجية.وتطوير مشاريع تصنيع مشتركة يمكن أن يزيد من القدرة التنافسية للمنتجات في الأسواق الإقليمية والدولية.

وأخيرا وليس آخرا، سوف يعود أي تطبيع للعلاقات بين الجزائر والمغرب بمنفعة كبرى طال انتظارها على مجمل المنطقة المغاربية. فعودة الدفء بين أكبر دولتين في المنطقة سيسمح بإحياء “اتحاد المغرب العربي”، المشلول حاليا ومنذ 36 عاما، وبالتالي ظهور قطب جهوي يكون له وزن وإشعاع عالميَين.

المصادر:

1. الموقع الرسمي للمركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة (CMESR)، تقارير حول العلاقات المغربية-الجزائرية والتبادل التجاري.

2. الموقع الرسمي للبنك الدولي، تقارير حول الاقتصاد المغربي والجزائري والتجارة الإقليمية.

3. الموقع الرسمي لجامعة الدول العربية، تقارير ودراسات حول التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول العربية.

4. الموقع الرسمي للاتحاد الأفريقي، تقارير حول التعاون الاقتصادي والتجاري في أفريقيا.

5. الموقع الرسمي لمنظمة التعاون الإسلامي، تقارير ودراسات حول التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية.

6. الموقع الرسمي للمندوبية (المغربية) السامية للتخطيط، تقارير إحصائية حول التبادل التجاري والاقتصادي.

7. الموقع الرسمي للديوان الوطني (الجزائري) للإحصائيات، تقارير إحصائية حول التبادل التجاري والاقتصادي.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس