أفريقيا برس – المغرب. بعد ست سنوات من المعاناة بين المدرجات والمستشفيات الجامعية، يتخرج الطبيب المغربي العام. ثم تبدأ المرحلة الثانية أي مرحلة التخصص فيختار بين طريقين لا ثالث لهما إما أن يختار وضعية “متعاقد” ويصبح موظفا لدى وزارة الصحة والحماية الاجتماعية ويحصل بذلك على أجر شهري، أو أن يعلن الانحلال من أي تعهد باختيار وضعية “غير متعاقد”، ويحصل على 3500 درهم، رفعتها الحكومة في عز الاحتجاجات إلى 5000 درهم.
ويكمن الخلل في المعادلة التي تنتج عن هذا النظام المزدوج. إذ تشير المعطيات إلى أن أكثر من 80 في المائة من الطلبة الأطباء يختارون وضعية “غير متعاقد”، أي أنهم يتلقون تكوينهم داخل كليات عمومية تمولها الدولة وتتحمل كلفة تجهيزها وتأطيرها، ثم يتجهون مباشرة بعد تخرجهم نحو العمل في القطاع الخاص، ببساطة يدرسون بمال الدولة، ويخدمون في المصحات الخاصة.
الدولة تدربهم تكونهم، تدفع لهم التعويضات، ثم تهديهم للقطاع الخاص على طبق من “المال العام”، فيما تظل المستشفيات العمومية تعاني خصاصاً مزمنا في الموارد البشرية الطبية. وفي الجهة الأخرى، طلبة الكليات الخاصة يدفعون عشرة آلاف درهم شهريا على الأقل لتكوين أنفسهم، ويعملون بعد التخرج في نفس المصحات التي تعج بزملائهم “المكونين مجاناً” في كليات الدولة.
أما الفئة القليلة التي تختار وضعية “متعاقد”، فإن كثيرا منها لا تلتزم فعليا بمواصلة العمل داخل القطاع العام، إذ يسعى العديد من الأطباء بعد التخرج إلى إنهاء تعاقدهم بغرض الالتحاق بالقطاع الخاص. غير أن الدولة تفرض عليهم في هذه الحالة أداء ضعف المبالغ التي حصلوا عليها من أجور أثناء فترة التكوين.
مؤسسات توظيف بديلة
وهنا تظهر المصحات الخاصة كـ”الملاك المنقذ”، تعرض عليهم التكفل بالمبلغ مقابل العمل لديها بأجور سمينة، لتستعيده منهم بالتقسيط المريح. وهكذا يتحول الطبيب المتعاقد إلى موظف فعلي لدى المصحة الخاصة، بينما يخسر القطاع العام كفاءاته. وهنا تتحول المصحات الخاصة إلى مؤسسات “توظيف بديلة”، تخرج الأطباء من حضن الدولة إلى حضن المستثمرين.
هذا الوضع الصامت الذي لم يناقشه لا الوزير ولا غيره، هو في الحقيقة أحد المفاتيح الأساسية لإصلاح المنظومة الصحية بالمغرب. لذلك يجب أن يعاد النظر في أولويات التوزيع بين القطاعين. فالمستشفيات العمومية، التي تمثل الدعامة الأساسية للخدمة الصحية، ينبغي أن تكون المستفيد الأول من الأطر التي تخرجها الجامعات العمومية.
اليوم، تتوسع شبكة المصحات الخاصة في مختلف الجهات والأقاليم، حتى في المدن الصغيرة، ولم تعد هذه المصحات تكتفي بالمتخرجين حديثا فالواقع يظهر أنها تعتمد أيضا على أطباء يزاولون في القطاع العمومي، وهو ما يؤدي إلى استنزاف أكبر للطاقات البشرية داخل المستشفيات العمومية.
لقد تحول القطاع العام، الذي يفترض أن يكون دعامة المنظومة الصحية، إلى ضحية مزدوجة، ضحية سوء تدبير السياسات العمومية من جهة، وضحية هيمنة القطاع الخاص من جهة أخرى، إذ بات يخدم مصالح المصحات الخاصة أكثر مما يخدم مصلحته. فبدلاً من أن يكون القطاع الخاص مكملا للعمومي، أصبح وحشا طاغيا يستفيد من موارده البشرية وتكوينه وتمويله.
مشاكل قطاع الصحة كثيرة ومتشعبة، لكن جوهرها هو الخصاص في الأطر. ومع ذلك، فإن معالجة هذا الخصاص لا تتطلب عقدا ونصفا كما يصرح بعض المسؤولين، بل تتطلب قرارات شجاعة وقوانين رادعة، تفرض على الطبيب الذي تَكَوّن بالمال العام أداء واجبه داخل مؤسسات الدولة، وتؤطر بوضوح علاقة الممارسين بالقطاع الخاص.
لكن المسؤولين، بدل اتخاذ القرارات، يطلون علينا في نشرات الأخبار ليخبرونا بما نعرفه أصلا وبما يردده محتجو جيل زد في الشوارع “القطاع يعاني خصاصا في الأطر”. جزء كبير من الحل يكمن في إعادة الاعتبار للمستشفى العمومي كمرفق حيوي يخدم الصالح العام.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس