القلق الإسباني من المغرب ما علاقته بوصية الملكة إيزابيلا؟

29
القلق الإسباني من المغرب ما علاقته بوصية الملكة إيزابيلا؟
القلق الإسباني من المغرب ما علاقته بوصية الملكة إيزابيلا؟

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. في تحليل مطول حذرت صحيفة “لاراثون” الإسبانية الواسعة الانتشار، من أن حصول المغرب على راجمات “هيمارس” وما يرافقها من صواريخ أمريكية متطورة جدا، يجعل جزءا واسعا من جنوب إسبانيا (وحتى من البرتغال) مكشوفا في مرمى النيران المغربية. واستغربت الصحيفة المعروفة بقربها من الاستخبارات العسكرية الإسبانية، أن تبيع واشنطن للمغرب ضمن تلك الصفقة صواريخ دقيقة مرعبة مداها 300 كلم، بعد أن رفضت منحها لأوكرانيا.

إن مقال “لاراثون” هو حلقة صغيرة فقط، في حملة إعلامية متواصلة منذ حوالي عقد من الزمن، تُوَجه إما لغرض الاستهلاك السياسي الداخلي (انتخابات، ضغط لرفع ميزانية الدفاع…)، أو لاستدرار التعاطف الغربي مع إسبانيا في ملف سبتة ومليلية المحتلتين، في مواجهة “عدو متخلف ومتغطرس”. وقد اعتدنا كمتتبعين للشأن الإسباني ذي العلاقة بالمغرب، على مقالات وحملات إعلامية منسقة في صحف مثل “الكوفدنثيال” وإل موندو” والإسبانيول” وغيرها، كلما أبرم المغرب صفقة سلاح متطور جديدة، خصوصا مع الولايات المتحدة أو فرنسا أو إسرائيل.

في وقت تبالغ الحكومة الإسبانية في إبداء مشاعر “المودة” و”الاحترام” —بمناسبة وبدونها— لجارها الجنوبي المغرب، لا تتوقف الصحافة ووسائل الإعلام المسؤولون السابقون في الدولة والأحزاب (بما فيها تلك المشاركة في التحالف الحاكم)، في التهجم على المغرب والتشكيك الدائم في نواياه.

وفي الواقع ليس المغرب جارا “عاديا” بالنسبة لإسبانيا بكل تأكيد. فثقل الماضي المشترك الطويل ما يزال حاضرا في وعي ولاوعي شعبي البلدين، بحيث يؤثر بالضرورة وبقوة في حاضرهما وعلى مستقبلهما كذلك. وتأسيسا على ذلك، لا عجب في أن يشكل المغرب على الدوام رهانا مركزيا في الحملات الانتخابية لجارته الشمالية، ومادة للسجال السياسي والعسكري والإعلامي اليومي. فقد اعتدنا من الجارة الشمالية على التقارير والحملات الإعلامية التي لا تتوقف، والموجهة أساسا للمستوى السياسي الإسباني بتحريض وتحفيز من المستوى العسكري والأمني أو بإيعاز منه. والهدف طبعا هو الضغط على صناع القرار في مدريد، الذين يتوجسون من سطوة الرأي العام الإسباني ويتصرفون بهاجس انتخابي.

لكن ما يدهشنا أكثر فأكثر كمتتبعين للشأن الإسباني في علاقته بالمغرب، في السنين الأخيرة، هو انخراط “مراكز أبحاث” و”مراكز تفكيرthink tank ” إسبانية في حملات الضغط، التي تحركها جهات المستوى العسكري والمخابراتي الإسباني على المستوى السياسي، والتي تتمحور حصريا حول المغرب كتحدي متعدد الأبعاد والجبهات تواجهه إسبانيا على الدوام.

فما هي مبررات هذا “القلق” والأصح “التوجس” الإسباني المُعلن والدائم من تطور المغرب لمقدراته العسكرية والاقتصادية؟ وما علاقته بثقل أحقاد التاريخ، وتحديدا بوصية “إيزابيلا الكاثوليكية”؟

“قلق” إسباني لا يهدأ !

منذ شرع المغرب في تطوير قدراته العسكرية خلال العقد الماضي، اعتاد الإعلام والنخب السياسية وحتى مسؤولين عسكريين سابقين أو ما زالوا في الخدمة، على مهاجمته، أو في حد أدنى التعبير عن “قلقهم”. إن مقال “لاراثون” هو حلقة صغيرة فقط، في حملة إعلامية متواصلة منذ حوالي عقد من الزمن، تُوَجه إما لغرض الاستهلاك السياسي الداخلي (انتخابات، ضغط لرفع ميزانية الدفاع…)، أو لاستدرار التعاطف الغربي مع إسبانيا في ملف سبتة ومليلية المحتلتين، في مواجهة “عدو متخلف ومتغطرس”. وقد اعتدنا كمتتبعين للشأن الإسباني ذي العلاقة بالمغرب، على مقالات وحملات إعلامية منسقة في صحف مثل “الكوفدنثيال” وإل موندو” والإسبانيول” وغيرها، كلما أبرم المغرب صفقة سلاح متطور جديدة، خصوصا مع الولايات المتحدة أو فرنسا أو إسرائيل.

أما صحيفة “الإسبانيول” كتبت بدورها، تحذر من أنه “يمكن للمغرب أن يهاجم إشبيلية أو غرناطة من طنجة بواسطة راجمات الصواريخ الجديدة “هيمارس”، وأضافت: “تواصل الرباط تصعيدها العسكري من خلال تعزيز ترسانتها بـ 18 مركبة محملة براجمات متطورة، تم شراؤها من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى صواريخ ATACMS التكتيكية والقنابل المجنحة JSOW. لقد نما الإنفاق الدفاعي للمغرب بشكل مطرد في السنوات الأخيرة، بزيادة أكثر من 50% عن العقد الماضى.

وتضيف الصحيفة الإسبانية قائلة: “يُترجَم ذلك من خلال تخصيصه ميزانية كانت في العام الماضي تعادل 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي الوطني للمغرب. وهو ما يسمح له بتعزيز جميع قطاعات جيشه بصواريخ متطورة جدا، مثل دليلة أو المروحيات العسكرية الجديدة أو الدرع المضاد للطائرات الذي يقضي على أي تهديد في مدى يصل إلى 150 كيلومترا. إن هذا التجديد لترسانة المغرب هو جزء من سعيه إلى فرض هيمنة إقليمية على جارته الجزائر. لكن يمكن تفسيره أيضا على أنه تحذير مع التركيز على إسبانيا”.

وبحسب “لاراثون”، فقد “سبق أن حثت أوكرانيا الولايات المتحدة على أن تمدها بصواريخ M57 (ATACMS)، بسبب مداها البعيد، حيث تدرك حكومتها أن هذه الصواريخ من شأنها أن تغير مسار الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ 14 شهرا، بشكل جذري إذا استخدمت ضد خطوط الإمداد الروسية. لكن إدارة بايدن ردت بأن تلك الصواريخ التكتيكية ليست ضرورية، وأنه إذا تم توفيرها لأوكرانيا، فيمكن أن تستخدمها مباشرة لضرب روسيا”. وتقصد “لاراثون” القول بشكل غير مباشر أن الإدارة الأمريكية وافقت على بيع المغرب تلك الصواريخ رغم أنها تشكل تهديدا محتملا للأمن القومي الإسباني، في الوقت الذي رفضت منحها لأوكرانيا التي تخوض حربا بالوكالة عن واشنطن والغرب.

وعلى نفس المنوال من التهويل والتحذير المبالغ فيه، سار الإعلام المرئي والمسموع. فقنوات التلفزيون والإذاعات خصصت برامج خاصة استدعت لها خبراء عسكريين ومحللين على نفس الموجة المتوجسة من نوايا المغرب. فالمعروف أن الصحافة والإعلام والأحزاب السياسية في إسبانيا، تنسى خلافاتها الداخلية لتتوحد كلما تعلق الأمر بمعاداة المغرب.

لماذا يتسلح المغرب؟

جرت العادة أنه كلما اقتنى المغرب سلاحا جديدا إلا وتتوجه الأنظار نحو الجزائر، باعتبارها “العدو” الذي لا يتوقف عن التلويح بإعلان الحرب على المغرب منذ 2019. لكن الواقع أن المغاربة يتوقعون الدخول في حرب مع إسبانيا أكثر —ربما—مما يتوقعونها من الجزائر. فالأيام أكدت أن تلويحات الجزائر بالحرب على المغرب تفتقد الجدية، فهي موجهة للاستهلاك السياسي الداخلي فقط. فخلال النصف قرن الأخير، عاش المغرب مرة واحدة أزمة خطرة وقف خلالها على أعتاب مواجهة عسكرية مع إسبانيا. وكان ذلك في صيف 2003، حول جزيرة ليلي..

كان رئيس الوزراء الإسباني حينها خوسي ماريا أزنار ينتمي إلى “الحزب الشعبي”. هذا السياسي الكاثوليكي المتطرف في حقده على المغرب والإسلام، والمدافع المتشدد عن الغرب وإسرائيل، لم يعتل رئاسة الوزراء في الجارة الشمالية شبيه له منذ عودة الديمقراطية في منتصف سبعينيات القرن العشرين. والمعروف عن أزنار أنه التحق خلال سنوات شبابه المبكرة إلى الشبيبة اليمينية الكاثوليكية (ذات الميول الفاشية). ولذلك كشفت تصريحاته ومواقفه، قبل توليه السلطة وبعدها، عن عدائه الشديد للمغرب، كجزء من كراهيته للإسلام والمسلمين وللماضي العربي بالأندلس. ولعل حصوله على وسام الملكة “إيزابيلا الكاثوليكية” في العام 2004 اعتراف له بهذا الاتجاه.

من جانب آخر، كشفت الأزمة التي فجرها أزنار ومعه الجيش الإسباني حول جزيرة ليلى المغربية، عن وجود مخطط إسباني للتحكم في مضيق جبل طارق من كلا الضفتين، بما يؤهل مدريد لفرض تحكم استراتيجي في غرب المتوسط. بالإضافة إلى الاستفادة الاستراتيجية التي ستحققها من وراء سيطرتها على ضفتي الممر المائي بين جنوب أوروبا وشمال أفريقيا.

في ظل هذه الظروف، كان المغرب قد قرر الاستعانة بالموقع الاستراتيجي لجزيرة ليلى غير المأهولة على مرمى بصر من شواطئه الشمالية، لمراقبة الهجرة السرية وتهريب المخدرات. فنزلت فوق الجزيرة قوة مغربية في 11 يوليو/تموز من سنة 2002، ورفعت العلم الوطني على الجزيرة.

وتقع جزيرة ليلى ضمن حدود المياه المغربية، على بعد مئتي متر أو أقل بقليل من الشاطئ المغربي. وتبعد عن مدينة طنجة بـ 40 كيلومترا، وعن سبتة المحتلة بأقل من 9 كيلومترات، بينما يبعد عنها أقرب شاطئ إسباني بنحو 14 كيلومترا. ولذلك كانت صدمة المغاربة وشعورهم بالإهانة فوق الوصف، عندما تدخل الجيش الاسباني في صيف 2002، لاعتقال القوة المغربية التي أقامت مركز مراقبة أمني فوق الجزيرة الصغيرة، التي تبلغ مساحتها حوالي 11 هكتارا.

لكن ما إن بلغ الخبر سلطات سبتة المحتلة القريبة من جزيرة ليلى، حتى ثارت ثائرة إسبانيا التي فجرت أزمة متصاعدة بسرعة. فاعتبرت الخطوة المغربية “غزوا” للجزيرة، وطالبت القوات المغربية بالانسحاب، إلا أن المغرب رفض ذلك. ومساء الخميس 11 يوليو/تموز نزلت مجموعة من الدرك والبحرية المغربية لا يتعدى عددهم 12 فردا فوق جزيرة ليلى. ومساء نفس اليوم توصلت رئاسة الحكومة الاسبانية في مدريد بمكالمة عاجلة من طرف حاكم سبتة الإسباني، مفادها أن المغرب قام باحتلال جزيرة تبعد بكيلومترات عن هذه المدينة المحتلة، فدقت نواقيس الخطر في مدريد، حيث اعتقد بعض كبار المسؤولين بأن المغرب مقبل على “احتلال” سبتة. وطلبت رئاسة الحكومة الاسبانية من الجيش معلومات حول جزيرة ليلى، لتفاجأ بأنه لا توجد أي وثيقة حولها في الأرشيف الوطني. وفي التقرير الأولي الذي توصلت به رئاسة الحكومة من المخابرات، ورد بأن العملية معزولة عن أي نشاطات أخرى قد تهدد سبتة، وأن القمر الاصطناعي وطائرات التجسس لم ترصد أي تحركات غير عادية في شمال المغرب.

وتلا ذلك تصاعد للتوتر بين البلدين. وبعد شد وجذب لبضعة أيام، قررت إسبانيا التدخل بقوة فأرسلت فرقة من القوات الخاصة، في إطار عملية عسكرية أطلقت عليها “روميو سيرا” مدعومة بغواصة وفرقاطة بحرية ومقاتلات ومروحيات. فنزلت الفرقة بالجزيرة وألقت القبض على القوة المغربية ونقلت أفرادها إلى سبتة، ثم سلمتهم فيما بعد للسلطات المغربية. وقامت القوات الإسبانية بإزالة العلم المغربي من الجزيرة، ورفع العلم الإسباني في 18 يوليو/تموز 2002، وظلت القوات الإسبانية بالجزيرة لمدة يومين، قبل أن تضطر إلى الانسحاب منها بعد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم أن أزمة جزيرة ليلى انتهت دون إطلاق أي رصاصة من الجانبين المغربي والإسباني، إلا أنها تركت شوكة في حلق المغرب إذ كشفت عن وجود فوارق كبيرة في ميزان القوى (حينها) لصالح الطرف الإسباني. فقد استنتج المغرب أنه مطالب بتطوير نفسه في كل المجالات. كما كشفت الأزمة بأن العلاقات المغربية الإسبانية تعاني من مشكل مزمن، تمتد جذوره عميقا في التاريخ المشترك بين البلدين ويلقي بثقله على حاضر ومستقبل البلدين. فإسبانيا تعتبر المغرب عدوا استراتيجيا يحتمل أن تتكرر معه حروب الأندلس، وما تلاها من نزاعات مسلحة لم تتوقف بين الجانبين على مدى القرون الماضية. والمغرب من جانبه لا يفهم كيف أن إسبانيا تستمر في التعامل معه بعقلية المستعمر السابق، وترفض القطع مع ماضيها الاستعماري بإرجاع سبتة ومليلية والجزر المتوسطية التي تحتلها، في وقت تفاوض بريطانيا لاسترجاع صخرة جبل طارق منها.

لكن الدرس الأكبر الذي علمته أزمة جزيرة ليلى للمغرب فوق كل ذلك، هو أن اعتماده بعد الله لاستكمال ما تبقى منقوصا من وحدته الترابية، لا يمكن أن يكون إلا على نفسه وعلى حلفاء كشفتهم الأيام والأزمات وهم في حكم الندرة. بينما خذله العرب وفي مقدمتهم الجزائر التي وقفت بجانب إسبانيا في تلك الأزمة التاريخية!

إجراءات لإعادة الثقة

إن لدى إسبانيا رؤية خاصة بها لتعزيز نفوذها الإقليمي في غرب البحر الأبيض المتوسط و ووسط أوروبا. ولذلك تخصص كل حكومة موارد سياسية وأمنية وعسكرية لتحقيق هذه الأجندة. وبدوره يسعى المغرب إلى تحقيق مكانة خاصة به كدولة صاعدة ويصبح محاورا رئيسيا في المنطقة. وفي ضوء ذلك، يعتبر اعتماد الحوار في العلاقات بين البلدين أداة عاقلة لتفادي الاصطدام بين طموحات البلدين مستقبلا.

ويرى المحلل المغربي المتخصص في العلاقات بين البلدين د. حسين مجدوبي، بأن “العلاقات المغربية-الإسبانية تحتاج إلى خريطة طريق واضحة المعالم، غير مقيدة بالهاجس السياسي، ولا ترتبط بالزمن الآني، بل تتطلب حرية التفكير والاقتراح في معالجة كل المواضيع، بما فيها التي اكتسبت صفة طابو. والعمل المستمر زمنيا لتطوير صمام آمان يقلص من منسوب هيمنة غياب الثقة. ويمكن ترجمة خريطة الطريق هذه في تطوير عدد من إجراءات الثقة المتبادلة، للتخفيض من حدة التوتر ومحاربة الأحكام المسبقة، نحو بناء فضاء ثقافي وسياسي عام مشترك بين الدولتين والشعبين. مع ضرورة أن تشمل إجراءات الثقة مختلف القطاعات والمجالات، ومنها الأحكام المسبقة وإجراءات سياسية وكذلك اقتصادية، ويبقى المجال البعيد عن البحث هو الرؤية العسكرية بين البلدين عبر التاريخ وكيف يمكن تطويرها من المواجهة الى التعاون”.

لقد سبق أن تواجه المغرب وإسبانيا في عدة حروب خلال القرون الخمسة الأخيرة، وامتدت حتى الخمسيينات من القرن الماضي. وكادت حروب أخرى أن تندلع خلال العقود الأخيرة، خلال السبعينيات حول الصحراء، وخلال الأزمة الخطيرة حول جزيرة ليلى سنة 2002. ولذلك فإن القول بأن مواجهات عسكرية مستبعدة بين البلدين مستقبلا هو قول غير صحيح. وتذهب بعض مراكز التفكير الإستراتيجي الدولية إلى اعتبار النزاعات الترابية بين البلدين (خصوصا حول سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المتوسطية التي تحتلها إسبانيا) هي بمثابة قنبلة صامتة قد تفجر حربا جديدة بين إسبانيا والمغرب. فالمعروف أن إسبانيا أسست عقيدتها العسكرية على ما تعتبره “العدو الجنوبي”، أي المغرب. ومن جانبه، لا يستبعد المغرب احتمال اندلاع حرب مع الجارة الشمالية، لاسيما بعدما أبانت مدريد خلال أزمة جزيرة ليلى صيف 2002، عن استعدادها للجوء إلى للقوة العسكرية إذا اقتضت الضرورة، وهددت المغرب بذلك، وتبنت حكومة خوسي ماريا أزنار اليمينية المحافظة حينها مفهوم “الحرب الاستباقية”.

كانت أزمة جزيرة ليلى منعطفا مقلقا، فقد قرر المغرب الرفع من مستوى تسليح جيشه حتى لا يبقى بين فكي دولتين، الجزائر شرقا وإسبانيا شمالا. وخلال الأربعة قرون الماضية، ضمنت إسبانيا تفوقا عسكريا على المغرب، وهو ما يفسر احتلالها لعدد من المناطق الساحلية المغربية، ثم الانتصار في حرب تطوان سنة 1860 واحتلال شمال المغرب ما بين 1912-1956، مستغلة في ذلك ضعف الدولة المغربية.

لكن بعد قرون، تمكن المغرب ابتداء من سنة 2021 من تقليص الفجوة العسكرية بين البلدين، إلى مستوى تَقارب نسبي في ميزان القوة العسكري. ولم تعد إسبانيا بالتالي متفوقة بشكل كبير، ولم تعد تمتلك ميزة الردع العسكري الكبير التي تمتعت بها سابقا في مواجهة جارها الجنوبي. يحصل هذا التطور بعد قرابة أربعة قرون من التفوق الإسباني المطلق. وهو ما من شأنه أن يخلق وضعا جيوسياسيا جديدا في ضفتي مضيق جبل طارق.

ووفقا للمحلل د. مجدوبي، فإن “عملية تعزيز إجراءات الثقة العسكرية بين المغرب وإسبانيا لتفادي النزاعات الحربية، بات أمرا ضروريا. وقد يكون منطلق هذا المسلسل هو الرفع من المناورات العسكرية المشتركة بين جيشي البلدين، ثم المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية، والانضمام إلى منتديات متعددة مثل مجموعة خمسة زائد خمس التي تضم دول ضفتي غرب البحر الأبيض المتوسط. وعلاوة على كل هذا، تفادي تأثر العلاقات العسكرية بالأزمات السياسية التي تندلع بين الحين والآخر. فالتجارب التاريخية تؤكد سهولة تجاوز الأزمات الشائكة مهما كانت حدتها، مقابل صعوبة تجاوز الحروب نظرا لانعكاساتها ومخلفاتها من خسائر نفسية وبشرية على جيل وأحيانا جيلين. لاسيما إذا حدثت بين شعبين لهما مرجعية دينية وثقافية مختلفة مثل الشعبين المغربي والإسباني”.

المغرب في وصية إيزابيلا

تُمثِّل الأندلس في مخيلة العرب اليوم، فردوسهم المفقود والجنة التي بناها العرب والمسلمون، وازدهرت ثقافتهم وعلومهم وإسلامهم فيها، ثم انتزعت منهم. ولن نستفيض في الحديث ثقل الحضور الموجع للأندلس في المتخيل العربي والإسلامي، لكون المغاربة أقرب الناس إلى الأندلس وأقدرهم على إدراك ذلك. لكن كيف يتذكر الإسبان فترة الثمانية قرون التي حكم بلادهم العرب؟

من ضمن الاحتفالات الإسبانية الشعبية التي تنظم سنويا بإسبانيا، تشهد بعض المناطق منذ قرون احتفالات كرنفالية تسمى (fiesta de moros y cristianos)، أي احتفال الموروس والمسيحيين. والموروس (مفردها مورو Moro) كلمة إسبانية عامية تطلق، بحسب السياق الذي وردت فيه على المغاربة، أو المغاربيين، أو المسلمين عموما. ويعتقد أن أصلها هو كلمة ماوروس mauros التي تعني باليونانية الشخص “القمحي” أو “الحنطي” أي الداكن البشرة. ورغم أن قاموس اللغة الإسبانية لا يورد أي معنى تحقيري واضح لكلمة مورو، إلا أنها تأخذ لدى عوام الإسبان معنى قدحيا حين يُنعت بها مغربي.

وتكون احتفالات “مرورس وكريستيانوس” التي تنظم سنويا بمختلف مدن وقرى شرق الأندلس، في 2 يناير (يوم تسليم مفاتيح مدينة غرناطة في عام 1492 من طرف آخر ملوك بني الأحمر أبي عبيد الله الصغير، إلى الملكة إيزابيلا الكاثوليكية وزوجها). ويشارك فيها آلاف الإسبان من جميع الأعمار، في الكثير من الحالات سببا في تهييج مشاعر التعصب وعدم التسامح. فالأمر يتعلق بتحول “الجرح الأندلسي” لدى الإسبان إلى إيديولوجيا راسخة.

وبرأي عبدالواحد أكمير أستاذ الحضارة الأندلسية جامعة محمد الخامس، فإن «الخطاب الذي أخضع تاريخ الأندلس للإديولوجيا وبجانب استفادته من المخيال الجماعي، قد استفاد من الأطروحة الرافضة للحضارة الأندلسية، التي روج لها منذ خمسينات القرن العشرين سياسي ومؤرخ بارز هو كلاوديو سانشيث ألبورنوث، من خلال كتابه المشهور “إسبانيا لغز تاريخي”، الذي يرى بأن إسبانيا رفضت دائما الإسلام، وأنها تعتبر نفسها غير مدينة بشيء للحضارة العربية الإسلامية، وأنها بسبب ذلك الرفض حافظت على هويتها المسيحية».

لقد بدأت حقبة التعصب الاستئصالي ضد الإسلام واليهودية، في الواقع، مع زواج ملكة قشتالة إيزابيلا الأولى (1451 -1504) من ملك أراغون فرناندو (1452- 1516)، قشتالة وأراغون هما مقاطعتان في إسبانيا. ففي عهد هذين الزوجين انتهى وجود الحكم الإسلامي في إسبانيا بالاستيلاء على غرناطة التي دُفنا فيها، تعبيرا عن اعتزاز الزوجين الملكين بانتصارهما فيها على أبي عبد الله الصغير الذي سلمهما مفاتيح المدينة، قبل يرحل إلى المغرب حيث سيموت ذليلا. وفي عهدهما أيضا، تم إجبار المسلمين واليهود على حد سواء، إما على اعتناق الديانة الكاثوليكية بالإكراه أو القتل أو الرحيل.

لم تكن للملكة إيزابيلا هذه المعروفة في التاريخ باسم “إيزابيلا الكاثوليكية”، مهووسة سوى بفكرة واحدة هي مُحاربة الإسلام بكل وسيلة، والعمل على تخليص إسبانيا من الوجود العربي – الإسلامي نهائيا. ويُحسب عليها أنها هي التي أنشأت أبشع صور اللاإنسانية الأفظع، متمثلة في محاكم التفتيش التي طردت ثلاثة ملايين مسلم من موطنهم الأندلسي، بعد أن استولت مع زوجها على ممالك الأندلس واحدة بعد الأخرى. فأنهت فترة حكم عربي إسلامي للأندلس دامت قرابة ثمانية قرون.

على فراش موتها، كتبت إيزابيلا الكاثوليكية في 12 أكتوبر سنة 1504م وصيتها التي ستصبح هي الأخرى شهيرة، وقالت فيها: «أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية، بالدفاع عنها دائما وأبدا بكل غال ونفيس من الأموال والأرواح. وآمركم بعدم التردد في التخطيط لتنصير المغرب وأفريقيا، ونشر المسيحية فيهما ضمانا حقيقيا لكل استمرار كاثوليكي في جزيرة إيبيريا الصامدة. ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب مشتتا جاهلا فقيرا ومريضا على الدوام والاستمرار»!

واليوم بعد مرور أزيد من خمسة قرون على تلك الوصية التي تقطر حقدا وكراهية، ما زالت تصدر بين وقت وآخر عن المسؤولين الإسبان (والأوروبيين)، قرارات ومواقف توحي بأنهم ينفذون في الواقع ما أوصتهم به إيزابيلا الكاثوليكية ضد المغرب. وإذا كانت إسبانيا الرسمية تُخفي لدواعي تفرضها قواعد السياسة الدولية حقيقة مشاعرها، فإن إسبانيا الشعبية لا تتردد في التعبير عن إرث الكراهية ضد “الموروس” بأكثر من طريقة وفي أكثر من مناسبة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس