مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. بالنسبة إلى الأستاذ عبد الصمد فتحي، فإن معركة الـ 12 يومًا قد أظهرت أن إيران تملك من عناصر القوة والجرأة ما يؤهّلها لتلقين العدو الصهيوني درسًا مؤلمًا، بل وإرباك حساباته وحسابات حلفائه، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.
ويضيف منسق الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة، في مقابلة أجراها معه “أفريقيا بريس”، بأن هذه المواجهة قدمت رسالة واضحة للعالم الإسلامي مفادها أن العزّة لا تُستجدى، والكرامة لا تُمنح، وإنما تُنتزع بامتلاك القوة وبالتحرر من التبعية.
ويحذر فتحي من أن المغرب الذي كان مطروحا، مثل فلسطين، في مشاريع الاستيطان الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين، يشهد اليوم بوادر عودة هذا التهديد من جديد في سياق اتفاقية التطبيع، لا عبر الجيوش، بل من خلال آليات قانونية واقتصادية وإدارية، تُهيّئ الأرض المغربية لاستيطان صهيوني ناعم وصامت.
يعيش الشعب الفلسطيني مأساة تستعصي على الوصف، وتفوق في بشاعتها نكبة 1948. بالمقابل، يصمت الشارع العربي- الإسلامي عدا بعض الاستثناءات.. لماذا خذل العرب والمسلمون فلسطين؟
بالفعل. ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم يجاوز كل وصف، ويشكّل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان تُرتكب ضد الإنسانية جمعاء، وعلى مرأى ومسمع من العالم. والأسوأ من ذلك، أنه يجري وسط تواطؤ بعض الأنظمة، وتخاذل رسمي عربي–إسلامي يكاد يكون شاملاً، إلا من بعض الاستثناءات النادرة.
أما عن أسباب هذا الخذلان العربي والإسلامي لفلسطين، فيمكن إجمالها في عاملين رئيسيين: أولاً: الغثائية العامة التي طغت على الأمة، بفعل سياسات التجهيل والتدجين التي مارستها أنظمة التبعية بعد الاستعمار. غثائية لا تقتصر على الشعوب، بل أصابت النخب الفكرية والسياسية والمؤسساتية كذلك، حتى ضعفت إرادتها، وتآكل دورها، وانقطع تأثيرها. وقد تعمق هذا الضعف بتمزق النسيج المجتمعي للأمة، بفعل النزاعات الطائفية والعرقية والتجاذبات السياسية، التي مزّقت الصف وأشعلت الفتن الداخلية على حساب القضايا الكبرى.
وثانيًا: الاختراق الصهيوني العميق لمفاصل القرار في عدد من الدول العربية والإسلامية، من خلال أدوات الترغيب والترهيب التي تمارسها الصهيونية العالمية عبر حلفائها الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. وهو اختراق جعل من كثير من الأنظمة أدوات معطَّلة أو متواطئة، رهينة للإملاءات الخارجية، لا تملك استقلال قرار ولا شجاعة موقف.
إن هذا الواقع المختل، بين شعوب مغيبة، ونخب ضعيفة، وأنظمة مخترقة، جعل أمتنا عاجزة – حتى إشعار آخر – عن القيام بواجبها في مناصرة فلسطين، وعن التصدي الفعلي للعدوان الصهيوني وجرائمه المتواصلة.
من بين الاستثناءات، يبدو الشعب المغربي رافضا للصمت منذ أكثر من 85 أسبوعا.. هل لاحتجاجاته تأثير على ما يجري في غزة من جرائم؟
عندما يتحرك الشعب المغربي، منذ بداية هذا العدوان الهمجي، لأكثر من 85 أسبوعًا دون كلل، فإن دافعه في ذلك الواجب الأخلاقي والديني والإنساني، وأساسه الروابط التاريخية والعاطفية العميقة التي تربطه بقضية فلسطين. فليس الحراك الشعبي المغربي نابعًا من مجرد ردّ فعل عاطفي عابر، بل هو فعلٌ واعٍ يسعى إلى كسر جدار الصمت، والتعبير عن وحدة المصير، ومواجهة آلة التطبيع والخذلان التي تحاصر القضية في محيطها العربي والإسلامي.
الاحتجاجات الشعبية – بما تحمله من رسائل قوية – تشكّل أحد أشكال النُصرة الميدانية، وقد عبّر عنها المغاربة مرارًا بوسائل متنوعة: من المسيرات المليونية، إلى حملات المقاطعة، إلى المبادرات التضامنية والإغاثية… وهي كلها أفعال أغاضت الاحتلال وأحرجت المتواطئين، وفرضت حضور القضية في الوجدان الجمعي رغم كل محاولات التمييع والتعتيم.
لكن، لا يمكن قياس جدوى هذا الفعل الشعبي فقط بنتائج مباشرة أو آنية على أرض المعركة في غزة، فالمعركة هناك أعقد من أن تُختزل في ميزان ردّ الفعل الشعبي في بلد واحد، في ظل غياب هبّة شاملة تغطي الفضاء العربي والإسلامي.
ومع ذلك، فإن لهذا الحراك أثرًا بالغًا: أثر نفسي ومعنوي على الفلسطينيين، مقاومةً وشعبًا، حيث يشعرون بأنهم ليسوا وحدهم، وأن الأمة لا تزال تنبض بالوفاء.
وأثر مزعج لأعداء فلسطين، الذين يسعون لعزل القضية وعزل المقاومين، فيفاجئهم أن الشعوب لا تزال عصية على التطويع. لذلك، فإن استمرار هذا الحراك ليس مرهونًا بالنتائج الآنية، بل هو جزء من معركة الوعي والممانعة، ومقدمة لهبّة أوسع تتشكل في رحم الأمة، وتُهيّئ لمرحلة يكون فيها للشعوب كلمتها الفاصلة.
وماذا عن الدعم المادي؟ هل يتضامن المغاربة مع أهلنا في فلسطين ماديا؟
لا شك أن الشعب المغربي يتضامن مع إخوانه في فلسطين بكل ما أمكن من أشكال الدعم والنصرة، ماديًا ومعنويًا، وبالوسائل المتاحة والمشروعة. لكن الواقع أن هناك عوائق قانونية وتشريعية تحدّ من حجم هذا الدعم، وتمنعه من أن يأخذ صورته الطبيعية، التي تليق بمعدن المغاربة المعروفين بكرمهم ونخوتهم وسخائهم حين تناديهم قضايا الأمة.
ورغم هذه القيود، فإننا نسمع عن أرقام محترمة جمعتها بعض الإطارات التي سُمح لها بالتحرك في هذا المجال، خاصة في مشاريع إعمار غزة. وهو ما يؤكد أن الأرضية الشعبية مهيئة للبذل والعطاء متى ما فُتح لها الباب، ومُنحت الثقة.
ولو أُتيحت الفرصة أمام الهيئات المدنية ذات المصداقية، ومُكّنت من تنظيم حملات التبرع وقوافل الإغاثة، لرأى العالم من المغاربة ما يُدهشه ويُبهره، كما رأى ذلك في الهبّة الشعبية العظيمة بعد زلزال الحوز [ضرب مناطق بوسط المغرب في في 8 سبتمبر 2023]، حين تدافعت القلوب قبل الجيوب، وارتقى الشعب المغربي إلى أرقى صور التكافل والعطاء.
إن الدعم المادي المغربي لفلسطين قائمٌ بالقَدَر الممكن والمسموح به، لكنه مرشّح لأن يكون أعظم وأشمل إن رُفعت القيود وأُفسح المجال للمجتمع المدني كي يؤدي دوره الكامل. وفاءً لأهلنا في فلسطين، الذين يُقتّلون ويُجوَّعون على مرأى من العالم.
برأيكم، هل تستطيع احتجاجات الشارع المغربي إسقاط اتفاقية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؟
تمثل الاحتجاجات الشعبية في الشارع المغربي أداة مزدوجة: فهي من جهة تعبّر بوضوح عن الرفض الشعبي الجارف للتطبيع مع الكيان الصهيوني. ومن جهة أخرى، تشكل وسيلة ضغط مستمرة على الدولة من أجل التراجع عن هذا المسار المشؤوم.
ونحن نؤمن أن استمرار هذا الحراك، وتراكم النضال الشعبي المغربي ضد التطبيع، لا بد أن يُثمر. سواء بإسقاط الاتفاقيات كليًّا، أو على الأقل بكبح تمددها وإبطاء وتيرتها، إلى حين تحقّق الشروط التاريخية والسياسية المناسبة لإلغاء هذه الاتفاقيات بالكامل، وإسقاط كل ما علق بها من خزي وعار.
وحتى في ظل غياب التأثير المباشر الآني، فإن هذا الحراك ينجح في عزل التطبيع رسميًا، ويمنعه من اختراق النسيج المجتمعي المغربي، بحيث يبقى خيارًا مفروضًا من فوق، مرفوضًا من تحت، لا سند له في ضمير الشعب، ولا مكان له في وجدانه.
ولا يخفى أن الجهات الداعمة للتطبيع – وهي قلّة لكنها نافذة – تعمد بين الحين والآخر إلى اتخاذ خطوات استفزازية، الهدف منها ليس فقط تمرير التطبيع، بل إرسال رسائل ولاء لأساتذتهم الصهاينة؛ تؤكد أن الدولة ماضية في هذا المسار، وأن الاحتجاجات الشعبية لا أثر لها، حتى يواصلوا الاسترزاق السياسي والاقتصادي من هذا الخيار المرفوض.
لكن الحقيقة أن استمرار هذه الاحتجاجات وتراكمها يُربك حسابات المطبعين، ويهزّ شرعية مسارهم، ويُفقدهم الغطاء المجتمعي الذي يتطلعون إليه. فالتاريخ علمنا أن الشعوب حين تصبر وتراكم وتصرّ، تنتصر. وأن معارك التحرر ليست رهينة اللحظة، بل تُخاض بالنَّفَس الطويل، والثبات الواعي، والإرادة التي لا تنكسر.
يبدو أن الأطماع الصهيونية لم تعد تكتفي باحتلال فلسطين والتنكيل بأهلها وتشريدهم. ففي المغرب، أطلقت اتفاقية التطبيع موجات عودة ليهود “من أصل مغربي” يطالبون بـ “استرجاع” الممتلكات التي تركها أهلهم وراءهم في المغرب عندما هاجروا إلى فلسطين المحتلة… هل نحن أمام استيطان صامت؟
حين نرفض التطبيع، فإننا لا نرفضه فقط لأنه يخون القضية الفلسطينية، بل لأنه يشكّل أيضًا خطرًا داهمًا على السيادة الوطنية المغربية، وعلى نسيجنا الاجتماعي، وأمننا الثقافي والاقتصادي.. بل وحتى الديمغرافي. فالصهيونية ليست مجرد حركة سياسية داعمة لكيان محتل، بل هي رمز للفساد وعقلية استعمارية توسعية بطبيعتها، واستيطانية في جوهرها، لا تُخفي أطماعها ولا تحدّ من تمددها. ولنتذكّر أن المغرب، كما فلسطين، كان مطروحًا في مشاريع الاستيطان الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين، ولم تكن فلسطين وحدها هدفًا لهذه الأطماع.
واليوم، نرى بوادر هذا التهديد تعود إلينا، لا عبر الجيوش، بل من خلال آليات قانونية واقتصادية وإدارية، تُهيّئ الأرض لاستيطان ناعم وصامت. فقد بدأت تظهر حالات متزايدة لشراء الأراضي من طرف جهات صهيونية أو مرتبطة بها، بل وتم تعديل بعض القوانين العقارية والإدارية لتسهيل هذا النوع من التملك والاختراق. الأخطر من ذلك، ما يُسجّل من حالات انتزاعٍ لملكياتٍ خاصة من أصحابها المغاربة، وتسليمها لأشخاص يحملون الجنسية الإسرائيلية أو يهود من أصل مغربي، تحت ذرائع “الاسترجاع”، وهو أمر يفزع ولا يبعث على الاطمئنان، ويؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الأطماع الصهيونية لم تعد نظرية، بل تتحرك على الأرض، وبوسائل ناعمة ولكن خطيرة. وهذا يُبرز أن التطبيع ليس “اتفاقًا دبلوماسيًا عابرًا”، بل هو باب مفتوح أمام مشروع اختراق شامل، يستغل الأرض والقانون والإدارة، ويُلبس الأطماع الاستيطانية لباس “الحقوق” و”الاستثمارات”.
والمقلق أن في المغرب عوامل اجتماعية وتاريخية قد يُستغل بعضها لتيسير هذا التوغل، مثل: غياب العداء لليهودية كدين، الذي تحوّله الصهيونية إلى غطاء لتمرير أجندتها، بخلط اليهودي المغربي مع الصهيوني المحتل. ووجود إرث تاريخي لحضور اليهود في المغرب، يُستثمر لتبرير امتدادات لا علاقة لها بالتعايش، بل بإعادة تدوير مشروع الاحتلال بأساليب جديدة، كالترويج لمفهوم المكون العبري الذي لم يكن له وجود من الأساس داخل المغرب.
نعم، نحن أمام استيطان صامت، يبدأ بالممتلكات، ويمتد عبر القوانين والعلاقات. وقد لا نُدرك مخاطره إلا وقد استفحل. من هنا، فإن مقاومة التطبيع بالنسبة للمغاربة لم تعد مجرد تضامن مع فلسطين، بل دفاعًا عن الوطن، وصونًا للسيادة، ووقاية من اختراق قد يُعيد إنتاج النكبة من الداخل، في غفلة أو تغافل..
كشفت معركة الـ 12 يوما أن إيران قادرة فعلا على وضع حد للغطرسة الصهيونية نيابة عن المسلمين.. ما هو تقييمكم لمستوى تضامن الشعب المغربي مع إيران؟
حين يعتدي الكيان الصهيوني على أي دولة مسلمة، فإن موقف المغاربة يظل واضحًا وثابتًا: في صفّ المعتدى عليه، وضد المعتدي الصهيوني الغاصب. وهذا ما تجسّد عمليًا في ردود الفعل الشعبية التي رافقت معركة إيران مع الكيان الصهيوني، حيث خرجت فعاليات احتجاجية وتضامنية، تعبّر عن هذا الموقف المبدئي، الرافض للعدوان، والمناصر لكل من يقاوم الاحتلال.
وقد أظهرت معركة الـ 12 يومًا أن إيران تملك من عناصر القوة والجرأة ما يؤهّلها لتلقين العدو الصهيوني درسًا مؤلمًا، بل وإرباك حساباته وحسابات حلفائه، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، من خلال ما كبدته من خسائر عسكرية ومعنوية.
هذه المواجهة قدمت رسالة واضحة للعالم الإسلامي: أن العزّة لا تُستجدى، والكرامة لا تُمنح، وإنما تُنتزع بامتلاك القوة وبالتحرر من التبعية. فمن لا يملك القوة، لا خيار له إلا الخضوع والخنوع لإرادة الأقوياء، وخدمةً لمصالحهم على حساب قضاياه ومصالح أمته.
ومع ذلك، فإن تضامننا مع من يواجه العدو الصهيوني، لا يمنحه صك براءة من الأخطاء التي قد يكون ارتكبها، في ساحات داخلية أو إقليمية أخرى. لكن الخطأ الفادح أن يُحجبنا هذا الأمر عن رؤية حقيقة المعركة القائمة، أو يمنعنا من الانحياز للمظلوم في مواجهة الظالم الصهيوني. فعداؤنا للظلم لا يتجزأ، لكن عدونا الصهيوني يبقى هو الخطر الأكبر، والمحتل الأخطر، الذي لا يفرّق بين مقاومٍ ومُسالِم، ولا بين مذهبٍ وآخر، ولا بين بلدٍ وآخر.
لذلك فإن موقف الشعب المغربي هو تعبير عن وعيٍ أخلاقي وسياسي عميق، يناصر الحق حيثما كان، ويرفض الاحتلال حيثما وُجد، دون أن يغفل عن محاسبة المظلوم إن ظلم..
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس