قوانين الخصوصية وحوكمة البيانات في صراع الذكاء الاصطناعي

1
قوانين الخصوصية وحوكمة البيانات في صراع الذكاء الاصطناعي
قوانين الخصوصية وحوكمة البيانات في صراع الذكاء الاصطناعي

أفريقيا برس – المغرب. يقف العالم اليوم عند مفترق طرق، فهي ليست حربا باردة بين نمطين أيديولوجيين كما في السابق، بل صراعا لتحديد من يمتلك السيادة الاقتصادية والتكنولوجية. تشكل الصين تهديدا مباشرا لهيمنة الولايات المتحدة التقنية للمرة الأولى منذ عقود. خلافا للمنافسة اليابانية في الثمانينيات التي انتهت مع بزوغ الإنترنت وهيمنة شركات التكنولوجيا الأميركية.

يمتد الصراع إلى الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمّية، والسيارات الكهربائية، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي. وتطمح الصين إلى الهيمنة على الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، بينما تعتبره الولايات المتحدة قضية أمن قومي، وتستثمر بقوة عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص، ورغم الجهود التي تبذلها دول أخرى كروسيا والهند والاتحاد الأوروبي، فإن المنافسة الفعلية تبقى محصورة بين واشنطن وبكين، إذ إن باقي العالم يلعب دور المستهلك أو المشاهد لتطورات هذا السباق.

الصراع الحالي إذن هو صراعٌ تكنولوجي اقتصادي بامتياز، يشكّل فيه التحدي الصيني تهديدا إستراتيجيا وجيوسياسيا عميقا، معتبرا الذكاء الاصطناعي إحدى ركائز هذا الصراع العالمي. في هذا السياق، أصبحت قوانين الخصوصية وحوكمة البيانات ساحة رئيسية للصراع، بل من الممكن القول إن العالم مقبل على انقسام في نماذج الخصوصية والسيادة الرقمية، بين النموذج الصيني والنموذج الغربي بقيادة الاتحاد الأوروبي، في ظل غياب قانون فدرالي موحد للخصوصية في الولايات المتحدة.

التماس بين الذكاء الاصطناعي والخصوصية

تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي، خاصة تلك القائمة على “التعلم الآلي” (Machine Learning)، على البيانات كوقود لتعلم الأنماط واتخاذ القرارات. كلما زادت كمية البيانات وجودتها، زادت دقة النموذج في التنبؤ أو التصنيف أو التفاعل. غير أن جزءا كبيرا من هذه البيانات يتضمن معلومات شخصية وحساسة، مثل البيانات الصحية أو البيومترية أو سلوكيات المستخدمين على الإنترنت، مما يثير مخاوف جدية تتعلق بحماية الخصوصية وحقوق الأفراد والجهات، إلى جانب قضايا حقوق النشر والملكية الفكرية.

تُعدّ قوانين الخصوصية والتشريعات الخاصة بالذكاء الاصطناعي من الركائز الأساسية التي تستند إليها الدول في تطوير بنيتها التكنولوجية وتعزيز أمنها القومي ومكانتها التنافسية عالميا.

ففي ظل تسارع التطورات التقنية، لم تعد المنافسة في الذكاء الاصطناعي مجرد سباق بين الشركات الكبرى، بل أصبحت ساحة لتنافس إستراتيجي شامل بين الدول. هذا التنافس يتقاطع مع أبعاد اقتصادية، وأمنية، وسياسية واجتماعية، حيث تسعى كل دولة إلى ترسيخ نموذجها في كيفية إدارة البيانات والتحكم في التكنولوجيا الحديثة.

في هذا السياق، باتت الدول الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي تدرك أهمية تطوير تشريعات واضحة تنظم استخدام البيانات وتحمي الخصوصية وأن غياب الأطر القانونية الواضحة يشكّل تهديدا مزدوجا. من جهة، قد يؤدي هذا الغياب إلى انتهاكات جسيمة للخصوصية وحقوق الأفراد، ومن جهة أخرى، قد يهدد أمنها القومي وقدراتها علي التنافسية.

وتتضاعف أهمية هذه القوانين في ظل اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي على كميات هائلة من البيانات الشخصية والسلوكية، مما يجعلها من “التقنيات المزدوجة الاستخدام” (Dual-Use Technologies)، التي يمكن استخدامها لتعزيز التنمية والابتكار، أو في المقابل، لتقويض الأمن القومي إذا استُخدمت بطرق عدائية أو دون رقابة، لذلك، فإن تقنين استخدام الذكاء الاصطناعي لم يعد خيارا تشريعيا فقط، بل ضرورة إستراتيجية لحماية الأمن والسيادة الرقمية.

وتزداد أهمية هذه الأطر القانونية في ظل احتدام التنافس بين القوى الكبرى، لا سيما بين الدول الغربية (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) من جهة، والصين من جهة أخرى، حيث الصدام للتنافس علي إعادة صيغة النظام الدولي من خلال السيادة والتفوق في مجال التكنولوجيا وانعكاسه على التوازنات الاقتصادية والعسكرية، لذلك تسعى كل من هذه الكتل إلى ترسيخ نموذجها الخاص في تنظيم التكنولوجيا والتحكم في البيانات، بما يعكس فلسفتها السياسية والاقتصادية.

نماذج الخصوصية وقوانين الذكاء الاصطناعي
1. النموذج الصيني: السيادة الرقمية للدولة

تتخذ الصين منحى مختلفا، حيث تقوم فلسفتها التنظيمية على مركزية الدولة في إدارة الفضاء الرقمي، وهذ أمر ليس بجديد فالصين منذ بداية دخولها للإنترنت في 1998 تبنت نظام الحائط الناري للرقابة على الحديدية علي الإنترنت، من هذا المنطلق تنظر الصين إلى البيانات كأصل إستراتيجي يجب أن يخضع للسيطرة الحكومية.

وقد أصدرت عدة قوانين خلال الفترة من 2021 إلى 2024، فقد سنت قانون حماية البيانات الشخصية عام 2021، وتبِعته بحزمة من القوانين واللوائح التنظيمية خلال الفترة من 2022 إلى 2024 لتنظيم عمل الذكاء الاصطناعي. وتهدف هذه التشريعات إلى تنظيم استخدام البيانات بشكل يوازن بين حماية الأفراد وتعزيز “أمن الدولة” و”المصلحة العامة”. في هذا النموذج، تُغلّب الدولة أولوية الأمن القومي والاستقرار الاجتماعي على الخصوصية الفردية.

2. النموذج الأميركي: التشريعات اللامركزية والمقاربات القطاعية

في الولايات المتحدة، ورغم كونها مركزا عالميا لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكونها موطنا لأكبر شركات الذكاء الاصطناعي (مثل OpenAI وغوغل وميتا)، فإنها تعتمد نهجا غير مركزي في تنظيم الخصوصية، فلا يوجد حتى الآن قانون فدرالي شامل لحماية الخصوصية أو تنظيم الذكاء الاصطناعي.

عوضا عن ذلك، تتبع الدولة نهجا مجزأ، يعتمد على قوانين قطاعية مثل “هيبا” (HIPAA) في القطاع الصحي، ومشروع “كوبا” (COPPA) لحماية خصوصية الأطفال على الإنترنت، لكن في ظل غياب قانون فدرالي شامل للخصوصية أو للذكاء الاصطناعي نتيجة للطبيعة القانونية المعقدة للنظام السياسي الأميركي. تشهد الساحة الأميركية تحولات تشريعية سريعة على مستوى الولايات، إذ أخذت 20 ولاية زمام المبادرة واعتمدت قوانين لحماية الخصوصية، منذ أن تبنّت ولاية كاليفورنيا أول قانون في هذا المجال عام 2020.

كما تقود ولايات مثل كاليفورنيا، ويوتا، وكولورادو، جهود إصدار تشريعات تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، وفي عام 2023، أصدر الرئيس الأميركي السابق جو بايدن أمرا تنفيذيا لتأسيس إطار أولي لتنظيم الذكاء الاصطناعي، لكن مع عودة الرئيس ترامب إلى الحكم في يناير/كانون الثاني 2025، تم إلغاء هذا الأمر، مما أعاد حالة الغموض إلى مستقبل التشريعات الفدرالية.

تتمثل فلسفة قوانين الخصوصية أو الذكاء الاصطناعي علي المستوي الفدرالي أو الولايات في حماية البيانات من منظور تجاري واستهلاكي فقط بدون التعامل معه كحق أساسي من حقوق الإنسان، وعدم وجود قانون فدرالي للخصوصية أو للذكاء الاصطناعي يحدّ من قدرة الولايات المتحدة على لعب دور قيادي في وضع المعايير العالمية للخصوصية، رغم تفوقها التقني ولعبه الدور الأكثر تأثيرا علي مستوي العالم في قيادة وتطوير الذكاء الاصطناعي حتي هذه اللحظة.

3. النموذج الأوروبي: الخصوصية حق من حقوق الإنسان

يتبنى الاتحاد الأوروبي نموذجا قيميا يُجسّده في “اللائحة العامة لحماية البيانات” (GDPR) التي دخلت حيز التنفيذ عام 2018. ويركّز هذا النموذج على ضمان حقوق الأفراد في التحكم ببياناتهم، ويُلزم الشركات بالشفافية والمساءلة، ويمنح المستخدمين أدوات قانونية للموافقة أو الاعتراض على استخدام بياناتهم. ويوفر آليات مثل الحق في الحذف والموافقة المسبقة على جمع البيانات.

يعكس هذا النموذج فلسفة “الحوكمة الأخلاقية للذكاء الاصطناعي”، وهو ما تسعى دول عديدة إلى تبنيه كنموذج معياري عالمي.

كذلك أصدر الاتحاد الأوروبي عام 2024 قانونا جديدا لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، يعتمد على “مقاربة تُصنّف تطبيقات الذكاء الاصطناعي بناء على المخاطر” (Risk-Based Approach)، ويمنع بعض الاستخدامات عالية الخطورة مثل أنظمة المراقبة الجماعية غير المبررة.

لكن الإتحاد الأوربي رغم أهمية تشريعاته وكونه سوقا ضخما ذا أهمية كبيرة، فإنه يلعب دورا أقل أهمية بكثير مقارنة بالولايات المتحدة والصين، وكذلك أهميته التشريعية تنبع من كونه مستهلكا للتكنولوجيا أكثر من كونه أحد مطوريها ومنتجيها، وهذا الأمر يشكل إحدى نقاط الخلاف بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة ويقسم المعسكر الغربي الليبرالي، حيث يقوم الاتحاد الأوربي بفرض غرامات علي شركات التكنولوجيا الأميركية، خاصة في ما يتعلق بانتهاك الخصوصية والاحتكار مما يخلق صدعا بين ضفتي الأطلسي.

نظرة علي مستقبل حرب المعايير وقوانين الخصوصية والذكاء الاصطناعي

في ظل تصاعد الحرب الباردة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، يتجه العالم نحو انقسام جديد ستكون أنظمة الخصوصية فيه أحد أبرز مظاهره. فالصين لا تسعى فقط إلى تعزيز سيطرتها الداخلية عبر نموذج الإنترنت المغلق، بل تعمل بنشاط على تصدير هذا النموذج إلى الدول النامية مثل أوغندا، وكمبوديا، وزيمبابوي، مقدمة حزمة متكاملة من البنية التحتية الرقمية والقوانين المصممة لفرض رقابة الدولة على البيانات.

وفي المقابل، رغم أن الولايات المتحدة لا تملك حتى الآن قانونا فدراليا موحدا للخصوصية أو لتنظيم الذكاء الاصطناعي، فإنها ستجد نفسها مضطرة خلال المرحلة القادمة لتبني تشريعات واضحة وشاملة، للحفاظ على تفوقها التكنولوجي، ومنع الاتحاد الأوروبي من فرض معاييره التنظيمية على الشركات الأميركية عبر الأسواق العالمية، وكذلك لمواجهة محاولات الصين لبسط نفوذها الرقمي. غير أن هذا التحول نحو تشريعات فدرالية موحدة يواجه تحديات داخلية كبيرة، خاصة في ظل عودة ترامب إلى الرئاسة وهيمنة أغلبية جمهورية على الكونغرس، وهي أغلبية تميل إلى تقليل التدخلات الحكومية في الأسواق وتعارض فرض أطر تنظيمية صارمة.

وكل هذا يجعل عملية إصدار قوانين شاملة للخصوصية أو الذكاء الاصطناعي أكثر صعوبة في المستقبل القريب. وهكذا، لن تقتصر المنافسة المستقبلية على الابتكار التقني فحسب، بل ستشمل أيضا معركة شرسة حول من يضع قواعد اللعبة الرقمية ويحدد مستقبل الخصوصية في العالم.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس