مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. لأول مرة، حصل المغرب قبل أيام، على “أعلى شهادة ضمان” تمنحها هيئة المراقبة الذرية التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية. ففي تقرير الوكالة السنوي الأخير حول “تفعيل الضمانات النووية برسم العام 2024″، تفيد بأن “جميع المواد النووية المتواجدة فوق التراب المغربي تستعمل لأغراض سلمية”. وتأتي شهادة الوكالة كاستنتاج للعديد من زيارات لجان تفتيشها لمفاعل المعمورة، ولقاءاتها بالخبراء والهيئات الوطنية التي ترعى في صمت “المشروع النووي” المغربي، وفي صلبه مشروع إنشاء أول محطة نووية لإنتاج الطاقة الرخيصة والنظيفة.
وإذا علمنا بأن الرباط قد حصلت منذ 2016 على الضوء الأخضر لإنشاء تلك المحطة النووية، فإن السؤال يطرح نفسه: لماذا تأخر الشروع في تنزيلها على الأرض كل هذه السنوات؟ وعطفا على ذلك: ما هي سمات “المشروع النووي” للمغرب؟
تعكس شهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية قوة البنية التحتية والنسق التنظيمي للمغرب، والتزامه الراسخ بالشفافية النووية، وتقيده الصارم بالتزاماته الدولية فيما يتعلق بعدم انتشار المواد النووية. وفي نوفمبر 2023، كشف المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل ماريانو غروسي، أن “المغرب سيكون من بين البلدان الثلاثة عشر المقبلة في إنتاج الطاقة النووية كمصدر لتوليد الكهرباء”. وفي تصريحاته على هامش المعرض النووي العالمي الذي انعقد حينها في باريس، أكد غروسي على “ضرورة مضاعفة عدد المفاعلات النووية، التي يبلغ عددها نحو 400 مفاعل في أنحاء العالم، من أجل تسهيل تنفيذ توصيات اتفاق باريس للمناخ”. وأضاف موضحا بأن “10 دول في مرحلة اتخاذ القرار لبناء محطات الطاقة النووية و17 دولة أخرى في مرحلة التقييم، ولكن من المتوقع أن تظهر 12 إلى 13 قوة نووية جديدة ─بينها المغرب─ خلال السنوات القليلة المقبلة”.
إن قرار المغرب باعتماد الطاقة النووية ليس جديدا، إذ منذ عام 2014 بدأت الرباط في إعداد الأساس القانوني لاستخدام الطاقة النووية، وجمع الخبرات وتقييم قدراتها على تحقيق هذا الطموح. فأعلن المغرب عن إنشاء أول وكالة وطنية للسلامة النووية والإشعاعية، والتي ستكون مسؤولة عن إنشاء شبكة لرصد المخاطر الإشعاعية في جميع أنحاء البلاد وتطبيق متطلبات القانون 142-12 المتعلق بالسلامة النووية والإشعاعية في الدولة.
في عام 2016، أعطت الوكالة الدولية للطاقة الذرية الضوء الأخضر للمغرب لإطلاق برنامجه النووي السلمي، منوهة إلى أن “المملكة تفي بالمتطلبات التقنية والإدارية والقانونية والسلامة والأمن والقياس، ولديها المؤهلات البشرية والخبرة والمهارات العلمية لإطلاق برامج الطاقة النووية السلمية، وخاصة في مجال إنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر”. وفي هذا الصدد، تؤكد تقارير دولية على النية الجادة والمسؤولة للمغرب في الدخول في تعاون مكثف بهدف تعزيز قدراته النووية، سواء في المجال الأمني أو التكنولوجي؛ وأنه من المتوقع أن تحقق المملكة تقدما ملموسا نحو بناء محتمل لمفاعل نووي مغربي بعد عام 2030.
طموح نووي قديم
لكن ما يحير المراقبين حول هذا الموضوع، هو أن المغرب يتوفر على الكادر العلمي والفني يتمثل في حوالي 300 مهندس وأستاذ عالي التأهيل وتقني، يوجد بينهم خبراء دوليون نظير د. الخمار المرابط المسؤول السابق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويتوفر المغرب كذلك على المادة الخام، المتمثلة في اليورانيوم المتواجد في الفوسفات الذي يمتلك المغرب ثلاثة أرباع من احتياطياته العالمية [85 مليار طن].
لقد مر أكثر من قرن على تأسيس المكتب الشريف للفوسفات (1920-2021)، عرفت خلاله هذه الشركة العمومية كثيرا من قصص النجاح المبهر والإخفاق أحيانا، قبل أن تتبوأ صدارة مصدري الفوسفاط الخام والأسمدة الكيماوية والحامض الفوسفوري في العالم. فمنذ شُرع في استخراج الفوسفاط في فاتح مارس 1921 من منجم خريبكة، واكب المغرب تطور هذه الصناعة الكيماوية إلى أن أضحت تشكل مكونا لا بديل عنه لإنتاج كثير من المنتجات الحيوية، تظل في مقدمتها المخصبات الزراعية الضرورية لتغذية البشرية.
بيد أن عنصرا بالغ الأهمية في الفوسفات ما يزال غير مُستغَل حتى اليوم هو اليورانيوم، على الرغم من مضي 75 عاما على اكتشافه في فوسفاط خريبكة. والمعروف أن اليورانيوم –في شق استعمالاته السلمية– يلعب اليوم دورا في تغذية بعض المفاعلات النووية لإنتاج الكهرباء المنتشرة في دول العالم المتقدمة، في مقدمتها الولايات المتحدة. وبالتالي يمكن للمغرب [مبدئيا] أن يستخرج ما يكفي من اليورانيوم، لتغذية مشروعه النووي الموجه أساسا نحو إنتاج كهرباء رخيصة.
لقد سبق لشركة “برايون” البلجيكية المتخصصة في تصنيع الفوسفات، أن استخرجت زهاء 690 طنا من اليورانيوم من الفوسفات المغربي، قبل أكثر من عشر سنوات. وهو ما يعني أن العملية تقنيا ممكنة. وقبل 14 عاما تم التوقيع على مذكرة تفاهم بين المكتب الشريف للفوسفاط (م. ش. ف.) وشركة “أريفا” الفرنسية الرائدة عالميا في إنتاج اليورانيوم، بغرض «تطوير الأبحاث حول الاستغلال المشترك لليورانيوم من الحامض الفوسفوري المنتج من الفوسفات المغربي». وفي 2012 أعلن الرئيس المدير العام لـ (م. ش. ف.) مصطفى التراب، بأن «الدراسات والأبحاث جد متقدمة في مجال استخراج اليورانيوم»، وأن «المكتب الشريف للفوسفات يوجد في طور نسج شراكات دولية من أجل استغلال اليورانيوم». وفي العام الموالي، أعلن وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبق لحسن الداودي [حكومة العدالة والتنمية الأولى]، بأن «المغرب بات قادرا على استخراج اليورانيوم من فوسفاته، وسيشرع في ذلك فعليا مطلع سنة 2015».
لكن اليوم وقد مرت عشر سنوات على الموعد المضروب، ما يزال استخراج اليورانيوم من الفوسفات المغربي مجرد مشروع، بما هو واعد هو غامض في نفس الوقت. وتتضارب في ذلك التفسيرات والتأويلات…
رؤية متشائمة
كثيرون لا يعرفون أن المغرب يتوفر على مفاعل نووي يسمى “تريغا مارك 2”. وهو مفاعل صغير من صنع أمريكي يقع في غابة المعمورة [الضاحية الشمالية الشرقية للرباط]، ويستعمل للبحث العلمي والتدريب، وأيضا لإنتاج نظائر مشعة تستعمل لأغراض طبية وصناعية والتعامل مع النفايات المُشِعّة. وطبعا يحظى هذا الموقع الحساس إلى جانب الهيئات ذات الاختصاص في الموضوع النووي، نظير الوكالة المغربية للأمن والسلامة في المجالين النووي والإشعاعي ومرافقها، لتفتيش دوري ومواكبة دقيقة. ويقوم المغرب منذ سنوات بتكوين خبراء بالخارج وعينه على استغلال مخزونه الهائل من الفوسفات، لاستخراج اليورانيوم لإنتاج الطاقة. فهذا النوع من اليورانيوم الذي يسمى “غير تقليدي” ويتم استخراجه من الفوسفات، يمثل بديلا ممكنا لليورانيوم الذي يُستخرج من المناجم بدول مثل كندا، والنيجر، وجنوب أفريقيا، وكازخستان، وغيرها.
وقد قدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في سنة 2007، الاحتياطيات المحتملة من رواسب اليورانيوم في الفوسفات المغربي بـ 6 ملايين طن. وذهبت تقديرات دولية بناء على ذلك، إلى أن المغرب يمكن يصبح رائدا عالميا بإنتاج 2840 طنا من اليورانيوم من الفوسفات سنويا. وهي كمية ضخمة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مجموع الانتاج السنوي العالمي من اليورانيوم المستخرج من الفوسفاط يبلغ حاليا حوالي 3700 طن. وإذا كانت الولايات المتحدة تستخرج اليورانيوم من الفوسفات، إلى جانب دول أخرى كبلجيكا وكندا وإسبانيا، فإن المغرب الذي يمتلك ثلاثة أرباع الاحتياطيات العالمية من الفوسفات، بإمكانه ─مبدئيا─ هو الآخر استخراجه.
لكن خبراء دوليين يقولون إن نسبة تركيز اليورانيوم في الفوسفات الطبيعي ضعيفة جدا، بحيث لا تتيح عملية الاستخراج كميات قابلة للاستغلال في المجال النووي. فتركيزه لا يزيد في المعدل عن 100 جزء في المليون، وهو ما يعني أنه يلزم مليون طن من الفوسفات الخام لاستخلاص 100 طن من اليورانيوم. بمعنى آخر، أن مجموع الفوسفات المعروف على كوكب الأرض لن ينتج سوى 35 مليون طن من اليورانيوم الفوسفاتي. وبالتالي، يرى أولئك الخبراء بأنه ينبغي استخلاصه بعد عملية التحويل الكيميائي للفوسفات إلى “حامض فوسفوري. والمغرب يمتلك بهذا الصدد، أكبر منصة لتحويل الفوسفات إلى حامض فوسفوري في العالم، بميناء الجرف الأصفر [100 كلم جنوب الدار البيضاء].
وسبق أن كشفت دراسة أنجزها خبراء تابعون للوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه في الواقع العملي، لن يُنتج حجم الانتاج العالمي للفوسفات الخام (150 مليون طن) سوى 3700 طن من اليورانيوم سنويا، على افتراض أن جميع مصانع إنتاج الحامض الفوسفوري في العالم تكون مجهزة بوسائل استخراج اليورانيوم من الفوسفات. وهو أمر غير متوفر حاليا، علما أن تحليلات قامت بها الوكالة كشفت بأن تركيز اليورانيوم في فوسفات بعض الدول المنتجة، يقل عن معدل 100 جزء في المليون المتعارف عليه عالميا.
رفض “نقل التكنولوجيا”
إلى جانب الجدل الذي يقسم الخبراء عالميا حول الموضوع، عانى المغرب طويلا من رفض الدول المحتكرة للتكنولوجيا النووية مساعدته على تنزيل طموحه النووي. ففي 23 أكتوبر 2007، أعلن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي من الرباط، في ختام زيارة للمغرب، أن بلاده وقعت عقودا مع المغرب بلغت قيمتها ثلاثة مليارات يورو، شملت اتفاقا حول استخراج اليورانيوم من الفوسفات. وكشف مصدر مغربي للإعلام الفرنسي حينها بأن “المغرب يدرس إمكانية التعاون مع فرنسا في إنشاء محطة نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية”. وقد توجت المفاوضات بالفعل بالتوقيع على بروتوكول اتفاق بين الشركة الفرنسية المتخصصة في إنتاج الطاقة النووية “أريفا” والمكتب المغربي الشريف للفوسفات، حول استخراج اليورانيوم من الحامض الفوسفوري المصنع من الفوسفات المغربي. لكن اتضح لاحقا أن فرنسا كانت تقايض بيع مقاتلاتها الحربية للمغرب بصفقة اليورانيوم. ولأن ساركوزي لم ينجح في بيع طائرات الـ “رافال” إلى المغرب، وأُخبر صراحة بأن الرباط كانت تنوي بالمقابل اقتناء مقاتلات أميركية من طراز “إف-16″، لم تتعاون باريس مع الرباط لنقل التكنولوجيا النووية الموعودة.
بعد ذلك، أو ربما قبله، حاول المغرب إقناع الولايات المتحدة على مساعدته في بناء محطة نووية. فالمعروف أن واشنطن ─التي تمتلك ثالث احتياطي من الفوسفات عالميا بعد المغرب والصين─ كانت أول دولة نجحت منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين في استخراج اليورانيوم من الفوسفات، وتمتلك بهذا الصدد ستة مصانع. لكنها رفضت مساعدة المغرب على الاستفادة من تجربتها في دخول المجال النووي، وقس على ذلك دولا أخرى أوروبية وغير أوروبية.
ولذلك قرر المغرب “الاتجاه شرقا”، نحو قوى دولية أخرى لها باع ومسافة سبق في الحقل النووي. وبعد مفاوضات انطلقة خلال زيارة الملك محمد السادس في 2016 لموسكو، تم أخيرا في أكتوبر 2022، إبرام اتفاقية تعاون بين المغرب وروسيا بشأن استخدام الطاقة النووية، وقعتها شركة الطاقة النووية الروسية المملوكة للدولة “روساتوم”. وبموجب هذه الاتفاقية، تساعد روسيا المغرب في بناء وتحسين البنية التحتية للطاقة النووية، فضلا عن تصميم وبناء مفاعلات نووية. كما تنص الاتفاقية كذلك على دعم الشركة الروسية للمغرب في استكشاف واستخراج رواسب اليورانيوم من الفوسفات، ودراسة الموارد المعدنية للبلاد، وتدريب الكوادر العاملة في محطات الطاقة النووية. ولا يهدف الاتفاق مع شركة روساتوم إلى بناء محطة لإنتاج الطاقة من مفاعلات نووية فحسب، بل إلى بناء مفاعل نووي تجريبي مماثل للمفاعل الموجود بالفعل على الأراضي المغربية في غابة المعمورة. وبحسب خبراء مغاربة فإن المغرب بعد ذلك “لن يتخلى أبدا عن خيار التحول إلى الطاقة النووية”.
وبالنسبة إلى الخبير المغربي المرابط الخمار، العضو السابق في اللجنة الدولية لمعايير السلامة النووية بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمدير العام السابق للوكالة المغربية للأمن والسلامة في المجالين النووي والإشعاعي، فإن “المغرب حسم في خيار عدم استخدام النووي في المجال الدفاعي والعسكري، منذ توقيعه على معاهد الحظر الشامل للتجارب النووية [منتصف سبعينيات القرن الماضي]، وعلى اتفاقيات أخرى دولية وضعته في المسار السلمي حصرا”.
ويوضح الخمار المرابط، في عرض ألقاه مطلع هذا العام، بأن “المغرب قادر على تنويع مصادره الطاقية من خلال اعتماد مزيج طاقي يدمج الطاقة النووية، باعتبارها مصدرا أساسيا للطاقة”. ويضيف بأن “الرهانات ستكون عالية في السنوات الثلاثين إلى الأربعين المقبلة، حيث يجب أن يكون 80% من الكهرباء العالمية ذا بصمة كربونية منخفضة، مقارنة بـ 32% حاليا، لضمان فعالية أكبر في مكافحة تغير المناخ”. وهو خيار لا بديل من تحقيقه من الاعتماد على المجال النووي.
ولا يقتصر اهتمام المغرب بالخيار النووي على إنتاج الطاقة الرخيصة والنظيفة فحسب، بل ويمتد إلى مجال حيوي آخر يتمثل في تحلية مياه البحر. وبالفعل، وبعد توقيع اتفاقية مع الشريك الروسي المذكور، تشير مصادر إعلامية روسية إلى أن شركة روساتوم تساهم في تنفيذ مشاريع تحلية مياه البحر، من أجل المساهمة في تحقيق المشروع المغربي لتوفير 1,3 مليار متر مكعب من المياه سنويا.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس