مازاغان: من قلعة استعمارية إلى فضاء للتعايش الديني والثقافي

1
مازاغان: من قلعة استعمارية إلى فضاء للتعايش الديني والثقافي
مازاغان: من قلعة استعمارية إلى فضاء للتعايش الديني والثقافي

أفريقيا برس – المغرب. في الفضاء الحضري ذاته داخل المدينة، تُعد مدينة الجديدة البرتغالية نموذجًا بارزًا للتعايش بين الأديان، في ارتباط وثيق مع فضاء الحياة اليومية، أي المدينة العتيقة، كما هو الشأن بالنسبة لحصون الدار البيضاء وطنجة. فقد شهدت مازاغان، فعليًا، ميلاد الكنيسة البرتغالية الرعوية نوتردام دي لاسومبسيون في القرن السادس عشر، بفضل الحضور البرتغالي والأوروبي. لاحقًا، تحولت كنيسة سان سيباستيان إلى معرض فني، إلى جانب عدد من المعابد اليهودية في “الملاح”، الحي اليهودي، حيث كان معبد أميل أول معبد ديني شُيّد سنة 1860، بالقرب من الكنيسة الإسبانية.

وفي القرن التاسع عشر، تم تشييد أقدم مسجد في المدينة، وهو المسجد العتيق، في موقع قريب من هذه الفضاءات. ويُكمل هذا المعلم الإسلامي ما أصبح يُعرف بـ”مثلث التعايش”، وهو نمط يمكن ملاحظته في مدن عتيقة ساحلية أخرى مثل أنفا، التي تحتضن كنيسة ومسجدًا تاريخيين، إضافة إلى معابد يهودية خارج الملاح. وفي مازاغان، بُنيت مئذنة المسجد على برج قديم كان جزءًا من خزان المياه البرتغالي، في دلالة على الاستمرارية في الزمان والمكان.

تأسيس في زمن الاستعمار البرتغالي

هذا الخزان التاريخي الأخير مكّن من نقل المياه عبر القلعة، بفضل نظام أنابيب مبتكر. وقد أُدرج ما يُعرف اليوم بالمدينة العتيقة للجديدة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو سنة 2004، مما ساهم في الحفاظ على بنيتها التحتية ومعالمها التاريخية التي تحكي قرونًا من التاريخ، منذ أول استيطان برتغالي في موقع مازاغان سنة 1502. كنيØ3Ø© نوØaØ±Ø ̄اÙ Ø ̄ÙŠ Ù„اØ3ÙˆÙ Ø ̈Ø3يون في اÙ„Ø¬Ø ̄ÙŠØ ̄Ø©كنيسة نوتردام دي لاسومبسيون في الجديدة

مثّل القرنان الخامس عشر والسادس عشر لحظة مفصلية في تاريخ المملكة البرتغالية. فقد كانا زمن الاستكشافات البحرية الأوروبية واحتلال أراضٍ على ضفّتي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. آنذاك، كانت شبه الجزيرة الإيبيرية تعيش آخر لحظات الخلافة الأندلسية، التي سقطت بسقوط غرناطة سنة 1492. وفي هذا السياق، كثفت القوات البرتغالية والإسبانية مهامها العسكرية في شمال أفريقيا، بل وحتى في القارة الأمريكية. وقد وُضعت مازاغان تحت الحماية البرتغالية سنة 1486.

عرفت المدينة أولاً بناء برج البريجة كإنشاء فريد من نوعه، ثم شُيّدت القلعة سنة 1514، من تصميم الأخوين فرانسيسكو ودييغو دي أرودا، اللذين ساهما أيضًا في تحصين مدن مغربية عتيقة أخرى، وتركوا بها بصمتهم المعمارية. وبعد خسارة أكادير سنة 1541، ركّز البرتغاليون على مازاغان لتحويلها إلى مركزهم الرئيسي، فأقاموا بها مباني ومنشآت عسكرية وتحصينات قوية.

وفي نفس الفترة، عُيّن لويس دي لوريرو حاكمًا للقلعة بين عامي 1541 و1548، بعد أن خدم في سبتة والصويرة. وتم تكليف فريق من المهندسين والمعماريين بقيادة البرتغالي جواو ريبيرو، والإسباني خوان كاستيو، والإيطالي بينيديتو دي رافينا، بإعداد تصميم عمراني يشمل منشآت دينية. وقد بدأ بناء كنيسة نوتردام دي لاسومبسيون سنة 1514، واكتمل إنشاؤها سنة 1517.

وبحلول نهاية القرن السادس عشر، كان الفضاء الحضري داخل الأسوار يضم أربع كنائس وعددًا من الكنائس الصغيرة. وفي مشهد يذكّر بروح “الاسترداد”، التي رافقت طرد اليهود والمسلمين من الأندلس، لم تكن هناك أي معابد يهودية أو مساجد طوال فترة الاحتلال البرتغالي التي دامت قرابة قرنين ونصف. كنيØ3 Ù اØ2اØoاÙ†كنيس مازاغان

لم تُوقَّع معاهدة السلام مع السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (1757 – 1790) إلا في أواخر عام 1769. غادر البرتغاليون الموقع، لكنهم لغموا المدخل الرئيسي للقلعة. وعند دخول الجيش المغربي، انفجر هذا المدخل الاستراتيجي، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى. دُمّر حصن الحاكم وجزء كبير من السور، وظلت القلعة حقلاً من الأنقاض، مهجورة لما يقرب من نصف قرن، وأُطلق عليها اسم «المهدومة».

إعادة إعمار شاملة بعد الاستعمار البرتغالي

هذا التوقف المفاجئ للحياة في مازاغان عقب نهاية الاستعمار البرتغالي يفسر، إلى حد بعيد، أسباب تأخر بناء أماكن العبادة الأخرى في المدينة. ففي منتصف القرن التاسع عشر، أصدر السلطان مولاي عبد الرحمن (1822 – 1859) أوامره بإعادة بناء التحصينات المدمَّرة وترميم أجزاء أخرى من القلعة. وقد تم التخلي عن التسمية البرتغالية للمدينة، ليحل محلها اسم «الجديدة»، المدينة «الجديدة» التي تنهض حرفيًا من رمادها.

جهّزت التحصينات بأربعة أبراج: الملاك من الشرق، وسان سيباستيان من الشمال، وسانت أنطوان من الغرب، وسانت إسبريت من الجنوب. وبفضل التفاعلات الثقافية والمعمارية التي تراكمت على مدى القرون السابقة، كما يتجلى في البنية الأندلسية، واندماج الأنماط المعمارية العربية الإسلامية والإيبيرية والمسيحية في ما يُعرف بطراز “المدجن”، أصبحت القلعة تجسيدًا لهذه التأثيرات المختلفة كوحدة متجانسة لا تعرف الانقسام.

وعلى الرغم من رحيل البرتغاليين، لم تُدمّر أماكن العبادة، بل تم الحفاظ عليها أو تحويلها كما في مدن عتيقة أخرى. فقد استُخدمت كنيسة سان سيباستيان ككنيس، متعايشة بانسجام مع المعالم الدينية الأخرى في هذا الفضاء المشترك. وبنفس الرؤية، تم الشروع في بناء المسجد؛ إذ شُيّدت مئذنته عام 1880 على أحد أبراج القلعة القديمة التي تعود إلى سنة 1514، وهو ما يمنحها طابعًا مميزًا يختلف عن الشكل المربع التقليدي للمآذن في شمال إفريقيا.

تحول إلى مركز تجاري وثقافي

هذا الانفتاح سيُميز تحوّل المدينة، التي أصبحت، اعتبارًا من منتصف القرن التاسع عشر، نقطة تجارية ومركزًا متعدد الثقافات، مع تطوير منطقة حديثة تحيط بالقلعة. «تُظهر العديد من المنازل الفاخرة التعايش في المغرب بين البلجيكيين والإسبان والفرنسيين والإيطاليين والهولنديين في مطلع القرن العشرين. كما شُيّدت مبانٍ كبيرة أخرى في المنطقة المقترحة كمنطقة عازلة، خارج أسوار القلعة»، بحسب ما أورده المجلس الدولي للآثار والمواقع (ICOMOS).

وقد ساهمت جودة هذا الحفظ بشكل كبير في إدراج مازاغان ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ مطلع الألفية الثانية. ووفقًا لـ ICOMOS، فإن التحصينات ونظام الدفاع المؤلَّف من الأبراج والأسوار تُعدّ «نموذجًا للعمارة العسكرية لعصر النهضة»، كما أن المباني البرتغالية التي لا تزال قائمة، مثل الخزان وكنيسة العذراء، بُنيت وفق الطراز “المانويلي” (القوطي المتأخر). وبفضل مشروع حديث لإعادة التأهيل والتثمين، تشهد المدينة البرتغالية اليوم اهتمامًا تاريخيًا وسياحيًا غير مسبوق.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس