أفريقيا برس – المغرب. عندما نتحدث عن مراكز البحث التي شكلت وجه التكنولوجيا الحديثة، يبرز اسم “مختبرات بيل” (Bell Labs) التي لم تكن مجرد معمل أبحاث، بل هي مكان أنتج مجموعة من أعظم الاختراعات في القرن العشرين.
ومنذ نشأتها، أثبتت هذه المختبرات أنها إحدى أبرز المؤسسات البحثية في تاريخ البشرية، ومحركًا للابتكار العلمي والصناعي على مدى عقود طويلة. ومهدت “مختبرات بيل” الطريق لظهور اختراعات غيرت وجه الحياة البشرية، ووضعت حجر الأساس للعديد من الصناعات التي نعرفها اليوم.
رحلة من الهاتف إلى العصر الرقمي
عندما نشأت “مختبرات بيل” رسميًا عام 1925 كان العالم على أعتاب ثورة تكنولوجية، إذ لم تكن هناك أجهزة تلفزيون، ولا ترانزستورات، ولا كابلات هاتف عابرة للمحيطات، ولا أقمار صناعية للاتصالات، ولا شبكات خلوية، ولا ألياف بصرية عالية السرعة، ولا كاميرات رقمية، ولا ليزر، ولا خلايا شمسية.
وعلى مدار القرن التالي، أثبتت المختبرات دورها المحوري من خلال عشرات الاكتشافات والابتكارات الرائدة التي وضعت أسس الاتصالات الحديثة، والحوسبة، والإنترنت.
وأعادت هذه المختبرات تشكيل الحياة العصرية. وأينما ذهبت، وأينما كنت، فإنك تحمل معك شيئًا من تاريخ “مختبرات بيل” حيث أصبح الاسم نفسه مرادفًا للاختراع والإبداع.
وتشمل إنجازاته العديدة 10 جوائز نوبل و5 جوائز تورينغ، بالإضافة إلى 3 جوائز إيمي وجائزتي غرامي وجائزة أوسكار.
من الهواتف إلى الاتصالات
تمحورت الابتكارات الأولى حول توفير اتصالات هاتفية واضحة وموثوقة. وتميزت السنوات الأولى للمختبرات بسعي دؤوب للابتكار في مجالي الكلام والصوت.
وقدمت المختبرات العديد من الاختراعات، مثل البث التلفزيوني لمسافات طويلة، ونظام الصوت المتزامن، ونظام التشفير ذي اللوحة الواحدة.
كما وضعت المختبرات أسس علم الفلك الراديوي، وبثت إشارات ستيريو مباشرة من فيلادلفيا إلى واشنطن العاصمة، وطورت جهاز ضغط كلام إلكتروني، وجهاز مركب كلام إلكتروني.
حجر الزاوية في الإلكترونيات الحديثة
طورت المختبرات أوائل أربعينيات القرن الماضي الخلية الكهروضوئية، إلى جانب تطوير أول نظام رقمي لنقل الكلام المشفر.
وخلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ركزت الأبحاث على نقل الموجات الدقيقة العريضة النطاق للصوت والبيانات والتلفزيون، وكابلات الهاتف العابرة للمحيطات، وأنظمة التبديل الآلية.
وخلال عام 1947، اخترع باحثو “مختبرات بيل” الترانزستور ليحل محل الصمامات المفرغة في شبكة الهاتف، الأمر الذي غير كل شئ.
وكان الترانزستور قادرًا على تضخيم الإشارات الإلكترونية وتحويلها، مما شكل حجز الزاوية في الإلكترونيات الحديثة، ووضع الأساس لعصر الحاسوب والحوسبة والإلكترونيات الحديثة.
وقدمت المختبرات عام 1948 نظرية المعلومات التي أرست مبادئ الاتصالات الحديثة، والحوسبة، والوسائط الرقمية، والضغط، والتشفير، والإنترنت.
وكان ابتكار الفأرة الميكانيكية “ثيسيوس” (Theseus) أحد أوائل استخدامات الذكاء الاصطناعي، كما شهدت تلك الحقبة تطوير أنظمة التشفير الثنائي.
وخلال عام 1954، طورت المختبرات أول خلية شمسية من السيليكون قادرة على تحويل الضوء إلى كهرباء.
وشارك باحثو المختبرات عام 1955 في تأليف الورقة البحثية التي صاغت مفهوم الذكاء الاصطناعي كمجال دراسي.
وجرى عام 1956 مد أول كابل اتصالات عبر الأطلسي لنقل المكالمات الهاتفية، في جهد مشترك بين “إيه تي آند تي” (AT&T) و”مختبرات بيل” وشركات الهاتف البريطانية والكندية.
شعاع ضوء غير العالم
خلال عام 1958، نشرت المختبرات ورقة علمية تحدد المبادئ النظرية لليزر، مما مهد الطريق لتطوير أول ليزر عامل عام 1960.
ونجحت المختبرات عام 1970 في إظهار أول تشغيل مستمر لليزر الصمام الثنائي في درجة حرارة الغرفة، وهو إنجاز محوري سمح بظهور الاتصالات العالية السرعة والبعيدة المدى دون تشتت الإشارة. وأدت جهود “مختبرات بيل” في دمج ليزر الصمام الثنائي العاملة بالكهرباء في أنظمة الألياف الضوئية إلى تعزيز عمليتها وكفاءتها، مما جعل الإنترنت العالي السرعة والمكالمات الهاتفية الواضحة ممكنة اليوم.
الأقمار الصناعية وأجهزة اقتران الشحنات
خلال عام 1962، أطلقت “مختبرات بيل” ووكالة “ناسا” (NASA) القمر الصناعي “تلستار ون” (Telstar 1) وهو أول قمر صناعي مداري للاتصالات يرسل إشارات تلفزيونية، مما أحدث نقلة نوعية في عالم الاتصالات العالمية.
وركزت “مختبرات بيل” هذه الفترة على مجال البرمجيات والإلكترونيات، وبدأت التجارب البحثية على أنظمة نقل الموجات الضوئية التي تستخدم الفوتونات بدلاً من الإلكترونات.
ومع نهاية ستينيات القرن الماضي، طورت “مختبرات بيل” نظام التشغيل “يونكس” (Unix) لدعم أنظمة تبديل الاتصالات، بالإضافة إلى الحوسبة للأغراض العامة.
كما اخترعت المختبرات عام 1969 جهاز اقتران الشحنة “سي سي دي” (CCD) الذي مكن التصوير الرقمي.
وشهدت سبعينات القرن الماضي تزايدًا في الاختراعات المتعلقة بالحاسوب في “مختبرات بيل” كجزء من ثورة الحوسبة الشخصية، حيث طورت عام 1972 لغة البرمجة المجمعة “سي” (C).
واختبرت عام 1976 أنظمة الألياف الضوئية لأول مرة في جورجيا. وبدأ إنتاج أول معالج دقيق مُصمم داخليًا عام 1977.
الترحيب بعصر الإنترنت
واصلت “مختبرات بيل” مسيرة الابتكار، حيث صدرت عام 1985 لغة البرمجة “سي بلس بلس” (++C) تجاريًا لأول مرة بصفتها امتدادا للغة البرمجة “سي”.
وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي، طورت المختبرات أنظمة اتصالات طويلة المدى عالية الموثوقية، بالإضافة إلى تقنيات تشغيل الشبكات التي أتاحت إجراء اتصالات عالية السرعة وشبه فورية عبر قارة أميركا الشمالية.
وخلال فترة التسعينيات، شهد العالم تغيرات جذرية في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، حيث ظهرت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي غيرت طريقة العيش والتعلم والعمل والتفاعل، وأحدثت تحولاً في مختلف القطاعات.
وركزت الأبحاث حينها على توفير الوصول الفوري إلى الصوت والبيانات والفيديو عبر الشبكات السلكية واللاسلكية.
وابتكرت المختبرات خط المشترك الرقمي “دي إس إل” (DSL) وهي التقنية التي حققت نقلًا بسرعة ميغابت عبر خطوط الهاتف النحاسية المثبتة، مما سهّل عصر النطاق العريض.
وقادت “مختبرات بيل” هذه التحولات الجذرية من خلال اختراع تقنية المدخلات المتعددة والمخرجات المتعددة “إم آي إم أو” (MIMO) التي عززت سعة الشبكة بشكل كبير دون زيادة متطلبات الطاقة أو عرض النطاق الترددي.
كما طورت تقنية “المدخلات المتعددة والمخرجات المتعددة الضخمة” (Massive MIMO) التي أصبحت مكوناً أساسياً في شبكات الجيل الخامس “جي 5” (5G).
وقد ضخت “مختبرات بيل” دماء جديدة بخطوط الهاتف النحاسية من خلال ابتكارات “غي فاست” (GFast) و”إكس غي فاست” (XGFast) عامي 2013 و2014 على التوالي.
الدور المستمر في الابتكار
تواصل “مختبرات بيل” في الوقت الحالي البحث في مجالات متطورة، مثل التقنيات الكمومية، واتصالات الفضاء، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الأساسية، والاستشعار.
كما تركز الأبحاث الحالية على منتجات الجيل التالي للاتصالات الصوتية والبيانات، إلى جانب استكشاف تقنيات الجيل السادس “جي 6” (6G) والتقنيات والاستخدامات التي تدمج العالمين الرقمي والمادي.
وختامًا، فإن “مختبرات بيل” لم تكن مجرد معهد بحثي، بل منظومة إبداعية حولت العلم النظري إلى تقنيات غيرت مسار البشرية، ولا تزال اختراعاتها تشكل عالمنا اليوم، مما يجعلها نموذجًا يحتذى به لأهمية الاستثمار بالبحث العلمي الطويل الأمد.
وفي زمن تسوده المنافسة التكنولوجية، تبقى هذه المختبرات تذكيرًا بأن الابتكار يحتاج إلى رؤية مستقبلية، وحرية علمية، ودعم مستمر، وهي الدروس التي يجب أن تستخلصها مراكز الأبحاث الحديثة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس