أفريقيا برس – المغرب. كل ما نراه ونعرفه في حياتنا يتكوّن من المادة. ونحن كبشر، بأجسادنا وتشريحنا ووظائفنا الحيوية، مصنوعون من المادة. وكذلك الأمر بالنسبة للسيارات التي نقودها، والشوارع والمنازل التي نسكنها، وحتى الأجهزة التي نتابع عبرها الأخبار أو الأعمال الدرامية المملة.
وكذلك حينما نرفع رؤوسنا بالليل إلى السماء فنرى الكواكب المنيرة، والنجوم، والسُّدُم الملونة والمجرات بالأعلى. وفي الواقع، فإن كل شيء نراه ونعرفه يتكون من المادة.
لكن هذا، وإن بدا بديهيا تماما، إلا أنه أثار تساؤل الفيزيائيين على مدى عقود طويلة، حيث إن المفترض أن يمتلئ الكون بالمادة العادية والمادة المضادة، بنفس القدر بالضبط، ويفني كل منهما الآخر بشكل لحظي، بشكل لا يجعل من الممكن للكون أن يستمر في النمو ليصل إلى المرحلة الحالية كما نراه، ونعيش داخله، فكيف حصل ذلك إذن؟
للإجابة عن هذا السؤال، أعلن مشروع تابع للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) مؤخرا عن أول دليل تجريبي على ظاهرة كسر تناظر الشحنة والتكافؤ في الباريونات، الأمر الذي يمثل خطوة صلبة ناحية الإجابة عن السؤال السابق. لكن لفهم هذه النتائج، وعلاقتها بمفهوم التناظر وأصل الكون، نحتاج للبدء من الصفر وتعلم بعض الفيزياء.
ما المادة المضادة؟
عام 1928، وضع العالم البريطاني بول ديراك معادلته الشهيرة التي دمجت بين ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة. وهذه المعادلة توقعت وجود جسيمات تحمل نفس كتلة الإلكترون لكن بشحنة معاكسة موجبة، أي “الإلكترون المضاد” (البوزيترون).
ولم تمر 4 سنوات، حتى تمكن العالم الأميركي كارل أندرسون من اكتشاف البوزيترون تجريبيا، أثناء دراسته للأشعة الكونية باستخدام غرفة سحابية. وكان هذا أول دليل مادي على وجود المادة المضادة في الطبيعة.
وتوالت بعد ذلك الاكتشافات في هذا النطاق، وبتنا الآن نعرف أن المادة المضادة ببساطة هي الصورة الأخرى للمادة التي نعرفها، لها نفس خصائص المادة لكن مع شحنات مختلفة، لكنها لا تُرصد إلا بقدر يسير جدا جدا.
ولاحظ العلماء أن كل جسيم إذن يخرج إلى الوجود مترافقا مع توأمه المضاد، بكميات متساوية تماما، حتى في الفراغ الفيزيائي فإن طاقة الفراغ تُنتج جسيمات افتراضية ومضاداتها ما تلبث أن تلتقي معا مرة أخرى وتتحولا إلى طاقة من جديد.
وهذا هو ما يحدث إن التقت أية مادة مع المادة المضادة، وسوف تُفني كل منهما الأخرى وتتحولان فورا إلى طاقة صرفة، بل إن جراما واحدا من المادة المضادة يكفي إن التقى مع رفيقه من المادة العادية لتوليد طاقة قادرة على وضع صاروخ في مداره حول الأرض.
أصل الكون
لكن المشكلة الأولى هنا تظهر حينما نتأمل مفردة الانفجار العظيم، حيث في اللحظات الأولى من تاريخ الكون -نتحدث عن الأجزاء الأولى من الثانية الأولى من لحظة الانفجار- كان من المفترض أن تخرج الجسيمات الأولى إلى الوجود مع جسيماتها المضادة، فيُفني كل منهما الآخر ثم يتحولان إلى طاقة من جديد، ويستمر الأمر هكذا إلى الأبد.
ولكن ذلك لم يحدث، فقد انتصرت المادة وبقيت في الكون بينما اختفت المادة المضادة تماما، ويفترض العلماء أنه -لسبب ما- كانت كمية المادة في اللحظات الأولى من تاريخ الكون أكبر من رفيقتها المادة المضادة بما يقدر بجزء واحد من كل 10 بلايين.
ثم بعد ذلك أفنى كل منهما الآخر ولم يتبق ويتجمع شيئا فشيئا إلا هذا الـ”واحد” وهذا الفارق الصغير هو ما صنع الكون الذي نراه الآن، لكن كيف يمكن تفسير ظهور هذا الفارق؟
والآن نعرف ماهية المشكلة التي نواجهها، ففي الستينيات بدأت المحاولات الأولى لإثبات أن ذلك التناظر المتوقع بين الجسيمات والجسيمات المضادة يمكن أن ينكسر، وبذلك يمكن لنا إعطاء أسباب واضحة لظهور الكون بصورته التي نراها حاليا.
ما التناظر؟
لكن قبل الولوج إلى تلك المنطقة، دعنا نعرّف ما يعنيه هذا التماثل/التناظر، ولفهم الفكرة تخيل أن عندك بيتزا دائرية، لو قمت بتدويرها على الطاولة بأي زاوية فإنها تظل متخذة نفس الشكل بالنسبة لك، هذا لأنها تمتلك سمة “التناظر الدوراني”.
وعلى العكس فإن البيتزا لو كانت مربعة، فإنك تحتاج لإدارتها على الطاولة بزاوية محددة (90 درجة مثلا) حتى تظل متخذة نفس الشكل أمامك، وإلا فستصبح مقلوبة أشبه بالمعيّن مثلا، أو مائلة، وهنا يقال إن مربع “يكسر التناظر الدوراني”.
ويكون الجسم متناظرا إذن -بتعبير الرياضياتي الشهير هيرمان فايل- حينما تصنع تغييرا ما له لكنه يظل نفس الشيء قبل وبعد التغيير، فمثلا يمكن لك أن تصنع تجربة ما في المعمل، ثم تأخذ نفس التجربة إلى المنزل، والآن أنت قد غيّرت مكان التجربة، لكن رغم ذلك ما زالت تعمل بنفس الآليات التي لم تتغير، وهنا نقول إنها تجربة متناظرة انتقاليا، أي بتغيير موضعها بالمكان لم تتأثر.
تناظر الشحنة والتكافؤ
في فيزياء الجسيمات هناك كذلك عدة أنواع من التناظر، أحدها أن يخرج الجسيم مع رفيقه المضاد بكميات متساوية تماما ولكن مع شحنات متعاكسة (وحفظا لنفس العدد من أرقام كمّية أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها الآن).
ونسمي ذلك اقتران أو “تناظر الشحنة” وهو ما يتوقع العلماء أنه ظهر بعد الانفجار العظيم حيث من المفترض أن تظهر كل المادة مع كل المادة المضادة.
وكذلك هناك تناظر في التوجّه الخاص بالجسيم، ويعني صورة الجسيم في المرآة، أي أن تنعكس إحداثياته، ويشبه ذلك -فقط لغرض التقريب- أن ترفع أمامك أصابعك الثلاثة من يدك اليمنى (فتشير بالإبهام إلى الأعلى، والسبابة إلى الأمام، والوسطى إلى الجانب وتصنع بها ثلاثة أبعاد) واليد اليسرى أيضا.
وهنا سوف تكون يدك اليمنى كأنها صورة معكوسة في المرآة لليسرى، ويسمى ذلك “تناظر التكافؤ” في الجسيمات.
تجربة “إل إتش سي بي” والفيزياء الجديدة
ورغم أن دلائل انكسار تناظر الشحنة والتكافؤ بدأت من ستينيات القرن الفائت، فإنها هذه المرة كانت مختلفة تماما، لأنها مثلت اختلافا إحصائيا جوهريا، وكانت أول مرة تحدث في الباريونات (الجسيمات التي تشكل مادة الكون الفعلية من بروتونات ونيوترونات).
وفي تجربة “إل إتش سي بي” التابعة لسيرن، رصدوا جسيما من الباريونات ويتكوّن من 3 كواركات، وراقبوا تحلّلاته وتحلّلات الجسيم المضاد الخاص به، ووجدوا اختلافًا صغيرًا (حوالي 2.45%) في معدل التحلّل بينهما.
وكان هذا الاختلاف كبيرًا بما فيه الكفاية (إحصائيًا: 5.2 سيغما) ليعتبر أول دليل قوي على انتهاك تناظر الشحنة والتكافؤ في الباريونات.
ويعد هذا الاكتشاف خطوة جديدة في فيزياء الجسيمات، حيث يمكن العلماء من التقدم للإمام في الإجابة عن سؤال التناظر، الذي يعد بدوره السؤال الأهم عن أصل الكون الذي نعيش فيه.
لكنه هذه النتائج وحدها لا تكفي للإجابة عن هذا السؤال، إذ تبقى أسئلة أعمق حول تناظر الشحنة والتكافؤ، ولا تزال هناك دلائل أكثر مطلوبة على حدوث هذا النوع من كسر التناظر، وأنواع أخرى من التناظر أعم وأصعب (مثل تناظر الشحنة والتكافؤ والزمن) من المطلوب رصد كسرها، لتتحقق الإجابة عن سؤال أصل الكون.
ولذلك يُعتقد أن هناك فيزياء جديدة لم تكتشف بعد، يمكن أن تمثل الإجابة عن هذا السؤال وكل ما يحيط به من جدل بالأوساط العلمية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس