أفريقيا برس – المغرب. تنتشر منذ أيام على منصات التواصل الاجتماعي، تغريدة منسوبة للصهيوني المتطرف إيتمار بن غفير، يزعم فيها بأن أجداده هم “السكان الأولون للمغرب” وهو ما يعطيه بالتالي ما أسماه “الحق في العودة إلى مراكش”، للاستقرار نهائيا في حال انهار الكيان الإسرائيلي الذي يحمل فيه حقيبة وزارة الأمن القومي. للوهلة الأولى، قد لا تبدو هذه التغريدة المستفزة أكثر من ادعاء مغرض صادر عن متطرف سفيه، يَعتقد بأنه وقومه يمكن لهم فعل أي شيء باسم “الحق الإلهي” حينا، وباسم “الحق التاريخي” أحيانا أخرى. لكن مؤشرات تكشف بأن ثمة توافدا صامتا لكن كبيرا للإسرائيليين على المغرب، بهدف الاستقرار المؤقت أو النهائي، هربا من الكيان الذي يكتوي لأول مرة بنار أطول وأصعب حرب في تاريخه مع إيران. فهل هي مقدمات إحياء مشروع إقامة “وطن بديل لليهود” في المغرب، أم مجرد بالون اختبار آخر لاختبار ردود الفعل المغربية؟
عود على بدء
انتشرت على الشبكة العنكبوتية في السنين الأخيرة منشورات حاقدة لإسرائيليات وإسرائيليين، من الجيل الثاني من المغاربة اليهود الذين هاجروا وهم أطفال إلى “الأرض الموعودة”. وفيها يعبرون عن تغيير وجهة أطماعهم من فلسطين المحتلة نحو المغرب، خصوصا بعد توقيع اتفاق “التطبيع” مع الكيان في ديسمبر 2020. فهذه عجوز إسرائيلية تتحدث في شريط فيديو بدارجة مغربية بلكنة عبرية، لتخبرنا بملامح صارمة بأن “المغرب بلد اليهود”، بدليل أنهم استقروا فيه منذ 2000 عام، قبل مجيء العرب إليه. وإسرائيلية أخرى من نفس الجيل تكرر، في شريط فيديو آخر، على نفس الزعم وبنفس الصرامة. ودليلها لتأكيد “حق اليهود التاريخي”، هو أن المغرب يحتضن أكبر عدد من أضرحة “الصِّدِّيقين [أولياء اليهود]” في العالم.
إلى هذا الحد كان الأمر يبدو حالات شاردة لمتطرفين يهودا بعد ما ضاقت بهم “أرض الميعاد”، فأخذهم الطمع إلى التطلع اليائس إلى أرض أخرى بعيدة يرونها هي الأخرى “أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض”. غير أنه منذ اندلاع معركة “طوفان الأقصى” في السابع أكتوبر 2023، انتقلت تلك “الحملة التمهيدية”، التي يبدو أنها كانت تختبر فقط ردود فعل المغاربة، إلى مستوى آخر مختلفا.
في غضون ذلك، كانت شرائح واسعة من مجتمع الكيان تحزم حقائبها وتغادره إلى غير رجعة، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية داخل الكيان الإسرائيلي. وأيضا كنتيجة للسمعة المشينة التي باتت تلاحق الإسرائيليين حيثما ذهبوا في العالم. وفي طليعة المغادرين نخبة مجتمع الكيان من الأثرياء وذوي الكفاءات والتخصصات العليا والحاملين لجنسيات دول أخرى متقدمة، الذين يسهل عليهم الاندماج مهنيا بسرعة في الدول التي يهاجرون إليها ليقيموا فيها بصفة دائمة.
وهكذا رسخت الأحداث التي شهدها النصف الأول من العام الجاري بشكل كاريكاتوري، الكائن الإسرائيلي الذي يعيش في الأراضي المحتلة وحقيبة سفره جاهزة طول الوقت، تحسبا للفرار والمغادرة في أي وقت يطاله تهديد وجودي.
“هجرة عكسية”
وكانت دراسة أجراها مركز روبين الأكاديمي الإسرائيلي، ونشرت مطلع العام الجاري، خلصت إلى أن حوالي ربع الإسرائيليين (24%) فكروا في مغادرة البلاد خلال العام 2024، مقارنة بـ 18 % فقط في 2023. وأوضحت الدراسة، وفقا لما نقله الإعلام الإسرائيلي، بأن غالبية الإسرائيليين المشاركين في الدراسة ذكروا أن الوضع الأمني المتردي هو العامل الرئيس للتفكير بالهجرة. وفي نفس السياق، كشفت الدراسة التي تم تقديمها في مؤتمر لوزارة الاستيعاب والهجرة بالتنسيق مع المركز الأكاديمي روبين، لمناقشة تأثير الوضع الأمني والاقتصادي على رغبة الإسرائيليين في مغادرة البلاد، بأن 46% من الإسرائيليين ينظرون بشكل سلبي إلى أولئك الذين يخططون لمغادرة تل أبيب.
وأسهمت عملية “طوفان الأقصى” في تصاعد ظاهرة الهجرة العكسية من إسرائيل، حيث غادرها آلاف اليهود منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023، من أجل الاستقرار في دول أخرى أكثر أمانا. وشددت الدراسة على أن الوضع الاقتصادي له تأثير في ذلك، ولكن انعدام الأمن والحرب في غزة وسياسات حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والمكانة المتعاظمة للدين في المجتمع، كانت كلها عوامل جعلت هذا الاتجاه يتسارع. وبحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء الصادرة في دجنبر 2024، وصلت أعداد المغادرين إلى مستويات قياسية، إذ غادر البلاد 82 ألفا و700 إسرائيلي من دون أن تكون الحرب هي السبب.
كما نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” في وقت سابق، أن أعدادا متزايدة من الإسرائيليين باتوا يختارون في السنوات الأخيرة مغادرة إسرائيل وبدء حياة جديدة في الخارج”. وكشفت أن ما لا يقل عن 55 ألفا و300 إسرائيلي آثروا البقاء خارج إسرائيل في عام 2023، وهو ما يعني أنهم غادروا مناطق إقامتهم في الكيان عام 2022 ولم يعودوا إليها، وهذا يشكل رصيد هجرة سلبية متزايدة مقارنة بالأعوام الأخيرة. وقالت الصحيفة إن هذه الأرقام تُظهر مقدار الضرر الذي تلحقه هذه الهجرة بإسرائيل على المدى البعيد، حتى في المناطق البعيدة عن بؤر الصراع في الشمال والجنوب. وذلك نظرا لأن اليهود المهاجرين يغادرون إسرائيل، آخذين معهم أموالهم وشهاداتهم الأكاديمية ومهاراتهم المهنية.
وإلى جانب القلق الناتج عن انعدام الاستقرار السياسي داخل كيان الاحتلال، بفعل ما تشهده الحكومة الأكثر تطرفا في إسرائيل من خلافات حادة بشأن السياسات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، يشعر الكثير من الإسرائيليين بالقلق بشأن مستقبلهم داخل فلسطين المحتلة. بالإضافة إلى ذلك، يواجه الإسرائيليون خطر العزلة الدولية، إذ تواجه إسرائيل تزايد الانتقادات الدولية بشأن سياساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهو ما قد يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية أو سياسية، خاصة بعد صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية التي تعتبر نتنياهو ووزير دفاعه المقال مجرمَي حرب مطلوبين للعدالة الدولية.
لكن الوضع تفاقم كثيرا بعد الرد الإيراني المزلزل على العدوان الإسرائيلي الغادر، وما تلاه من دمار هائل طال لأول مرة قطاعات ومناطق حساسة في الكيان، وجعل مناطق حيوية للغاية في أهم جهتين بالكيان (تل أبيب وحيفا) تتحول إلى حقول دمار هائل. وقد أثر ذلك على سكان الكيان الذين سارع الآلاف منهم إلى الفرار برا أو بحرا بعدما أغلقت سلطات الكيان أهم المطارات. فهذه المرة الأولى التي شعر فيها المحتلون بـ “خطر وجودي” حقيقي يتهدد كيانهم الغاصب.
المغرب وطنا “بديلا”؟
لعل من أبرز نتائج الرد الإيراني القوي على العدوان الإسرائيلي أنه كشف هشاشة الكيان، الذي اتضح أنه بالفعل ليس أكثر من قاعدة عسكرية غربية في قلب العالم العربي والإسلامي. فإذا كانت إيران أمة تجر وراءها واحدة من أزهى حضارات الأرض التي دامت قرونا، فإن الكيان الغاصب الذي لا يزيد عمرة الدموي عن سبعة عقود أبان عن ضعف كبير في مواجهة صمود وقوة الرد الإيراني. وشرع الإسرائيليين في الفرار مذعورين في كل الاتجاهات، ومن لم يتمكن منهم من المغادرة تحت الضربات الإيرانية، ليس فقط من عموم ساكني الكيان، بل ومن نخبته أيضا، بات يفكر في ذلك بصوت مسموع على نحو غير مسبوق.
وهنا تناقلت مواقع التواصل تغريدة منسوبة لإيتمار بن غفير وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال، تحمل تاريخ 23 يونيو الماضي على منصة إكس، يتحدث فيها بشكل مقتضب حول ما يعتبره “الحق في العودة إلى مراكش”، إذ يقول بالحرف: “أجدادنا هم السكان الأوائل والأصليين للمغرب، وهم من أسس مدينة مراكش، ومن حقنا نحن الأحفاد العودة إليها في حالة انهيار دولة إسرائيل [كذا]”.
ورغم أن التغريدة تمت مشاركتها على نحو واسع، بحيث من المستبعد ألا يكون الوزير الصهيوني المتطرف قد أخذ علما بها لنفيها في حال كونها لم تصدر عنه، إلا أنها لم تلق ردا رسميا لا من الجانب المغربي الرسمي، ولا من جانب حكومة الكيان.
والواقع أن هذا النوع المكشوف من الخطاب ليس جديدا، لكن الظروف العصيبة والمفصلية التي يمر بها الكيان، هي ما يدفع نخبه إلى محاولة إنتاج سرديات استيطانية بديلة، في ظل صمود المقاومة الفلسطينية وحجم الخطر الإيراني وتنامي عزلة إسرائيل دوليا.
فهذا النوع من الخطاب اليائس يعكس توجها جديدا داخل بعض دوائر اليمين الإسرائيلي المتطرف، يُعيد تدوير طرح “خيار الشتات المعكوس” من “الأرض الموعودة” إلى أرض أكثر أمانا، ليس في سياق استرجاع الذاكرة التاريخية، بل من باب إعادة توظيفها كأداة ضغط جيوسياسي أو كحل بديل. وفي ذلك، ليس اختيار المغرب بالتحديد ليس عبثيا. فمن جهة، يجري توظيف العلاقات المغربية الإسرائيلية التي تشهد تناميا قويا وغير مسبوق منذ اتفاق التطبيع، بحثا عن متنفس لدوائر النفوذ الإسرائيلي لاختبار إمكانية “التوسع الناعم”. ومن جهة أخرى، يحمل المغرب في نسيجه الوطني مكوّنا يهوديا عريقا، لطالما اعتبره المغاربة جزءًا أصيلا من الهوية الوطنية المتنوعة.
قبل 7 أكتوبر 2023، كان المغاربة يحترمون الوجود اليهودي بينهم باعتباره رافدا أصيلا من هويتهم، جرى ترسيمه في دستور 2011. لكن هذا المكوّن بات اليوم عرضة للاختطاف الرمزي من قبل تيارات صهيونية متطرفة، تسعى إلى ربطه قسرا بالمشروع الاستيطاني في فلسطين، بل وتوظفه ذريعة لتبرير وتمرير مطالب سياسية مفخخة تهدد وحدة المجتمع المغربي نفسه.
حلم قديم للصهيونية
ومن باب الشيء بالشيء يُذكَر، لا تعبر تغريدة بن غفير عن طرح جديد. فالمغرب كان قبل أكثر من قرن في بؤرة أطماع ومخططات الأب الروحي المؤسس للحركة الصهيونية ثيودور هرتزل نفسه. فأياما قليلة بعد التوقيع على اتفاق التطبيع بين المغرب والكيان في ديسمبر 2020، أماطت وثيقة سرية نشرها الإعلام الإسرائيلي اللثام عن مخطط قديم بلوره ثيودور هرتزل بهدف إعلان المغرب “دولة لليهود منذ 1903، أي قبل حتى أن تتبلور لديه فكرة تهجير يهود العالم إلى فلسطين.
وكشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أن هرتزل روّج لوثيقة سرية وغامضة تحمل عنوان “خطة المغرب، وكانت تقضي بتوطين يهود روسيا في منطقة وادي الحصان بجنوب غرب المغرب. وأوضحت الصحيفة ذاتها أنه بينما يجري تدريس “خطة أوغندا” لتوطين اليهود في شرق إفريقيا داخل المدارس الإسرائيلية ضمن دروس التاريخ، لا يعرف الكثير من الإسرائيليين شيئا عن خطة هرتزل البديلة، التي كان يطلق عليها “خطة المغرب” لتوطين يهود روسيا في المغرب، وهو اقتراح أثير في رسالة غامضة كتبها في العام الـ 1903. وكان جوزيف تشامبرلين وزير المستعمرات البريطاني حينها قدّم في أبريل من ذلك العام، عرضا إلى هرتزل لتوطين اليهود في شرق إفريقيا البريطانية وتحديدا في كينيا، وهو الاقتراح الذي اشتهر في الأدبيات الصهيونية باسم “خطة أوغندا. إلا أن هرتزل رفض الاقتراح بشكل قاطع، على أساس أنه “فقط لأرض إسرائيل [يقصد فلسطين] يشتاق اليهود”.
وأضافت “يديعوت أحرونوت” أن أعمال الشغب التي اندلعت في روسيا ضد اليهود جعلت هرتزل أكثر إصرارا من أي وقت مضى على تعزيز قضية الوطن القومي لليهود. فقدم خطته البديلة في المؤتمر الصهيوني السادس في بازل بسويسرا، التي أدت إلى انقسام الحركة الصهيونية حينها بسبب معارضة مقترح الدولة اليهودية في أوغندا كملاذ مؤقت. ففكر هرتزل بعد ذلك في تقديم موقع آخر لمشروع الدولة اليهودية في منطقة وادي الحصان في جنوب غرب المغرب، في 20 يوليو 1903، قبل شهر من انعقاد المؤتمر السابع للحركة الصهيونية. غير أن موت هرتزل المفاجئ في الثالث من يوليو 1904 أدى إلى أرشفة الخطة وتجميدها.
وبحسب يعقوب حاجويل رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، فإنه “كان هناك تركيز كبير جدا من اليهود سواء في المغرب نفسه أو في منطقة شمال إفريقيا بشكل عام، على مقترح تيودور هرتزل. لكنه كان رجلا براغماتيا للغاية، حيث رأى أن المغرب لديه مجتمع يهودي مزدهر مع مراكز يهودية نشطة [يقصد أنه لا يجوز حل مشاكل يهود روسيا على حساب بلد لا يُضطهد فيه اليهود]”. بينما كشف البروفيسور يوسف شتريت من قسم اللغة العبرية في جامعة حيفا، للصحيفة العبرية ذاتها أن “الخيار المغربي لتوطين اليهود قدّمه لأول مرة شقيقان، كانا من النشطاء البارزين في الحركة الصهيونية وقتها، وهما باروخ ويعقوب موشيه توليدانو، وكانا من أبوين هاجرا من المغرب. تحدثا مع هرتزل قبل وفاته بشهور، فوجه نداء إلى الحاخام الفرنسي فيدال في فاس الذي كان مقربا من القصر الملكي والحكومة المغربية، في شأن إقامة منطقة مستقلة لليهود في وادي الحصان. لكن الحاخام الذي كان ضليعا بالسياسة الداخلية للمغرب، كان يعلم أن هذه خطة وهمية لم تأخذ في الاعتبار الوضع الداخلي للمغرب، فوضعها في درج وأهملها. ولاحقا، عثر حفيد الحاخام في إسرائيل على الوثيقة وكشف عنها لأول مرة”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس