وظيفة المترجم البشري في خطر بعصر الذكاء الاصطناعي

2
وظيفة المترجم البشري في خطر بعصر الذكاء الاصطناعي
وظيفة المترجم البشري في خطر بعصر الذكاء الاصطناعي

أفريقيا برس – المغرب. في ظل هيمنة الشركات الأميركية والصينية على مشهد الذكاء الاصطناعي، برزت شركة “ترجمة” (Tarjama) كمثال عربي على الابتكار في مجال النماذج اللغوية، هدفها تمكين اللغة العربية وإعادة صياغة علاقتها بالتكنولوجيا الحديثة.

تأسست الشركة عام 2008 على يد رائدة الأعمال نور الحسن، وبدأت من العاصمة الأردنية عمّان قبل أن توسّع عملياتها إلى الإمارات. انطلقت من رؤية واضحة: سد الفجوة اللغوية في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتقديم بدائل عربية فاعلة في بيئة تهيمن عليها نماذج معرفية أجنبية.

لم تكتف “ترجمة” بتقديم خدمات الترجمة وإدارة المحتوى، بل طوّرت تقنياتها الخاصة من الصفر، فأطلقت نموذجها اللغوي الكبير برونويا (Pronoia)، المصمم خصيصًا للغة العربية، والذي سجل أداءً متفوقًا في اختبار اللغة العربية على نماذج مثل جي بي تي– 4 أو (GPT‐4) %76.8 مقابل 58%). وعلى هذا النموذج، بُنيت منصة أرابك. إيه آي (Arabic.AI)، وهي من أوائل المنصات “الذكية الوكيلة” (agentic AI) في المنطقة، والمصممة لخدمة المؤسسات الحكومية والخاصة بقدرات تحليل وتوليد نصوص باللغة العربية.

في مايو/أيار الحالي 2025، أعلنت الشركة حصولها على تمويل بقيمة 15 مليون دولار ضمن جولة استثمارية قادتها شركة غلوبال فنتشرز (Global Ventures)، بمشاركة صناديق عالمية من ضمنها “ومضة”.

تهدف هذه الجولة إلى تعزيز توسّع الشركة في الأسواق العربية والعالمية، وبناء بنية تحتية سيادية للذكاء الاصطناعي، إلى جانب إطلاق أكاديمية متخصصة لتدريب قادة المؤسسات على أدوات الذكاء الاصطناعي باللغة العربية.

تتبنى “ترجمة” فلسفة واضحة: الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يُستهلك فقط، بل يجب أن يُصاغ بأدوات عربية وبيئة معرفية تنبع من اللغة والثقافة.

وفي هذا الحوار الحصري للجزيرة نت، والذي أُجري على هامش منتدى قطر الاقتصادي 2025، تحدثت المؤسسة والرئيسة التنفيذية نور الحسن عن فلسفة شركة “ترجمة”، والتحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في المنطقة، ورؤيتها لمستقبل المترجم البشري في عصر الأتمتة:

ما الهدف من تأسيس شركة “ترجمة”، خصوصًا في ظل هيمنة شركات كبرى مثل غوغل وميتا على تقنيات اللغة؟منذ البداية، لم يكن الهدف هو منافسة الشركات العالمية من حيث الحجم أو الموارد، بل كان الدافع الأساسي هو حماية اللغة العربية من أن تُدار أو تُشكّل فقط ضمن أطر معرفية غربية. كنت على قناعة بأن التكنولوجيا، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي اللغوي، يجب أن تنبع من بيئتنا وتستوعب خصوصيتنا الثقافية واللغوية. لذلك حرصنا في “ترجمة” على بناء تقنياتنا داخليًا وبأيادٍ عربية، سواء كانت أدوات الترجمة التي يستخدمها المترجمون، أم المنصات التي تدير سير العمل، أو حتى نظام الترجمة الآلية نفسه.فنحن نؤمن بأن من يتحكم ببنية البيانات والمحتوى يتحكم بسير المعرفة، ولهذا نُصرّ على بناء قاعدة بيانات عربية مدققة، يتم مراجعتها وتصحيحها من خبراء لغويين عرب، لضمان جودة المعرفة التي يتغذى عليها النظام.اللغة العربية تواجه تحديا كبيرا اليوم، فهي لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من محتوى الإنترنت، ومعظم هذا المحتوى غير موثوق أو غير دقيق، وهو ما يجعل من تطوير أنظمة ذكية باللغة العربية تحديًا حقيقيًا، ويُبرز أهمية ما نقوم به في ترجمة.

تقوم شركات تقنية كبرى مثل غوغل ومايكروسوفت بتطوير نماذج لغوية ضخمة، ما الذي يميز “ترجمة” عنها في هذا المجال؟

في ترجمة، اخترنا أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي من زاوية مختلفة. لا نرى أن تضخيم حجم النموذج بالضرورة يعني جودة أعلى، خاصة حين لا يكون النموذج مُدرّبًا على اللغة العربية بدقة. نحن نركّز على بناء نماذج أصغر حجمًا، لكنها مُصممة بعناية لتخدم احتياجات محددة في مجالات مثل القانون، الطب، والمالية. منهجنا يقوم على التخصص والفاعلية، لا على العمومية، فبدل أن نعتمد على نماذج تُترجم وتُحلل بلغات متعددة وتُطبق في سياقات لا تتوافق مع بيئتنا، نبني أدواتنا باللغة العربية ومن داخل المنطقة، لتكون قادرة على فهم اللهجات، والسياق الثقافي، والتراكيب اللغوية الخاصة -الجدير بالذكر أن نموذج الشركة اللغوي “برونويا” في إصداره الثاني (V2) أظهر تفوقًا في اختبارات أداء اللغة العربية، متجاوزًا نماذج عالمية مثل جي بي تي- 4 أو وديب سيك- 70 بي، بحسب نتائج منشورة في مايو 2025- الجودة في الذكاء الاصطناعي لا تعني أن نكون أكبر، بل أن نكون أقرب وأكثر فهمًا للغة التي نخدمها.

في ظل تصاعد دور الذكاء الاصطناعي في الترجمة، أين يقف الإنسان، خصوصًا المترجمين، في هذه المعادلة؟

نؤمن في “ترجمة” أن السنوات القليلة المقبلة ستكون قائمة على التكامل، لا الإحلال. سيكون هناك نمط هجين يجمع بين الإنسان والآلة، بحيث لا يمكن لأحدهما أن يعمل بكفاءة دون الآخر، على الأقل في هذه المرحلة. حتى أكثر الأنظمة تقدمًا بحاجة إلى إشراف بشري للتأكد من دقة البيانات، وصحة المعاني، وسلامة السياق. الأخطاء التي قد تحدث من دون تدخل بشري قد تكون فادحة، خاصة في المجالات الحساسة كالترجمة القانونية أو الطبية.وأُشبّه ذلك دائمًا بقطاع الطيران. لدينا أنظمة قيادة ذاتية متطورة، لكن لا تزال هناك حاجة إلى الطيار والمساعد على متن كل رحلة. الذكاء الاصطناعي يسهّل العمل، يسرّعه، وربما يعيد تشكيله، لكنه لا يُلغي الحاجة إلى الإنسان، خصوصًا في بيئتنا العربية التي لا تزال بحاجة إلى بناء وتطوير بنية معرفية لغوية دقيقة.

في ظل التردد الذي تبديه بعض المؤسسات العربية تجاه الذكاء الاصطناعي، كيف يمكن تشجيعها على تبني هذه التقنيات؟ واحدة من أبرز التحديات التي واجهناها -ولا تزال قائمة- هي مقاومة التغيير. كثير من المؤسسات تنظر إلى التكنولوجيا، خاصة الذكاء الاصطناعي، باعتبارها تهديدًا لا فرصة. رأينا هذا في البداية عندما قدمنا الترجمة الآلية لأول مرة، وكان من الصعب إقناع المؤسسات والمترجمين بأهميتها، فكيف الحال الآن مع تقنيات أكثر تطورًا وتعقيدًا؟ الخوف مفهوم، لكنه لا يبرر التباطؤ. في نهاية المطاف، هذه الأدوات لن تختفي، بل ستستمر في التطور، ومن لا يتبناها اليوم سيجد نفسه خارج السوق غدًا. التكنولوجيا قد تتفوق على الإنسان في بعض المهام، نعم، لكن هذا لا يعني أن تحل مكانه بالكامل، بل يجب أن تصبح جزءًا من أدواته.

في ظل تسارع التحول الرقمي، كيف تسهم “ترجمة” في تأهيل الكوادر البشرية لتواكب أدوات الذكاء الاصطناعي؟

نؤمن أن أي تحول حقيقي لا يكتمل دون تأهيل العنصر البشري. ولهذا أطلقنا في “ترجمة” مبادرة إيه آي أكاديمي (AI Academy)، وهي منصة تعليمية مخصصة لتدريب الأفراد والفرق داخل المؤسسات على الاستخدام العملي والفعّال لأدوات الذكاء الاصطناعي. المشكلة ليست في نقص الأدوات، بل في الفجوة بين توفرها وبين معرفة كيفية استخدامها بالشكل الأمثل. لذلك نركز في هذه الأكاديمية على تجاوز الاستخدام السطحي، ونعمل على تمكين المتدربين من استيعاب الإمكانات الكاملة لهذه التقنيات وتطبيقها مباشرة في بيئة العمل، سواء في الترجمة أو إدارة المحتوى أو تحليل البيانات.

ما حجم الفجوة التي ترينها اليوم بين الواقع والمأمول في ما يخص إدماج الذكاء الاصطناعي في مجالات الترجمة واللغة العربية؟

الفجوة موجودة بلا شك، وهي ليست نظرية بل واقعية، ويمكن ملاحظتها على مستويين: المؤسسات والأفراد. على صعيد المؤسسات، نرى كثيرًا من الشركات -وحتى الجهات الحكومية- لا تزال مترددة، إما لأنها لا تعرف من أين تبدأ، أو لأنها تفترض أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي سيكون عالي التكلفة أو صعب التطبيق.هنا يأتي دورنا في “ترجمة”، فنحن لا نقدم فقط منتجًا، بل شريكًا يفهم البيئة العربية ويواكب احتياجاتها. نعرف هذا السوق من الداخل، ونفهم تمامًا التحديات البنيوية فيه، ولهذا نقدم حلولًا عملية وسريعة لتقليص هذه الفجوة.أما على صعيد الأفراد، فالصورة أوضح: المترجم بوصفه ناقلًا مباشرًا للنصوص لم يعد كافيًا. من لا يطور نفسه ليكتسب مهارات جديدة مثل هندسة الأوامر، استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، إدارة المهام الآلية، والتخصص في مجالات دقيقة، لن يتمكن من البقاء طويلًا في هذا المجال.ما نراه اليوم هو تحوّل في تعريف الوظيفة نفسها، لا اختفاؤها. والمستقبل سيكون فقط لمن يتقن الأدوات الجديدة ويعيد تشكيل دوره بناءً عليها.

ترى نور أن الذكاء الاصطناعي ليس مشروعًا تقنيًا فحسب، بل مشروع لغوي وثقافي تتقاطع فيه التكنولوجيا مع الهوية. ومن خلال “ترجمة”، لا تسعى فقط إلى تقديم بديل عربي في سوق التقنية، بل إلى صياغة نموذج جديد في كيفية إنتاج المعرفة بالعربية، وبالعقل العربي.

تبرز تجربة “ترجمة” أن السباق في الذكاء الاصطناعي لا يُقاس فقط بعدد المتغيرات في نموذج الذكاء الاصطناعي، بل بمدى ارتباطه بالواقع الذي يخدمه. وفي وقت تسعى فيه معظم الشركات لاستهلاك التقنيات الجاهزة، تحدد “ترجمة” مهمتها في سد فجوة لغوية وتقنية امتدت عقودا.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس