أفريقيا برس – المغرب. بعد خمسة أعوام من صدور الكتاب المرجعي “أطفال في وضعية الشارع” (منشورات مرسام، 2019)، يعود الطبيب وعالم الاجتماع شكيب جسوس بمؤلف جديد بعنوان “البقاء… الأطفال والشباب في الشارع” (منشورات لا كرويز دي شيمين، 2025). هذا العمل، الموجَّه إلى جمهور واسع، يشكل ثمرة ثلاثين عاما من الانخراط الشخصي والبحث الأكاديمي حول ظاهرة أطفال الشوارع في المغرب.
في هذا الإصدار الجديد، لا يقتصر جسوس على تقديم دراسة علمية حول الظاهرة، بل يعرض تجربة إنسانية عميقة تعكس سنوات من المواكبة الميدانية والمعاينة المباشرة لأطفال وشباب وجدوا أنفسهم في الشارع. ويعتمد الكتاب مقاربة مزدوجة: تحليل سوسيولوجي دقيق يستند إلى معطيات ميدانية، ومقاربة إنسانية تسعى إلى مساءلة المجتمع حول مسؤوليته تجاه فئة مهمشة.
الكتاب، بأسلوبه المبسط والموجَّه لغير المتخصصين، يزاوج بين الشهادات الحية والمعطيات السوسيولوجية، ويضع الظاهرة في سياقها الوطني والدولي. ويشير المؤلف إلى أن هذه الفئة تعاني من الإقصاء الاجتماعي والتهميش البنيوي، ما يدفعها إلى الانفصال عن المجتمع ومؤسساته.
تجربة متعددة التخصصات بين علم الاجتماع والعمل الاجتماعي
في حديث لموقع “يا بلادي”، يوضح جسوس أن ظاهرة أطفال الشوارع لم تطرح في المشهد الإعلامي العالمي إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أما في المغرب، فقد بدأت الدراسات حولها في أواخر التسعينيات، رغم وجود بعض المبادرات السابقة من قبل جمعيات مثل “بيتي”. ويضيف “لقد بدأنا نلاحظ هذه الظاهرة فعليا في المغرب منذ بداية التسعينيات، وشرعنا في مواكبتها من خلال مبادرات مدنية، ثم من خلال إنشاء أول فضاء استقبال سنة 2007 تحت اسم “رياض الأمل”.
انطلقت تجربة جسوس الميدانية منذ التسعينيات، حين عمل في إيطاليا ضمن مشاريع موجهة للأطفال المغاربة غير المصحوبين بذويهم. هذه التجربة، التي أثارت لديه تساؤلات عديدة حول جذور الظاهرة، دفعته إلى العودة للمغرب والاشتغال عليها من منظور مقارن. ويقول جسوس “عندما عدت إلى المغرب لاحقا، راودتني رغبة في معرفة الأسباب التي تدفع هؤلاء الأطفال إلى مغادرة بلدهم، وأردت أن أفهم ما الذي ينقصهم هنا. من خلال عملي، لاحظت أن المغرب يتوفر على إمكانيات هائلة، وأن من الممكن تفادي هذا النوع من الهشاشة”.
بفضل جهوده، أصبح المغرب من بين أوائل الدول الإفريقية التي راكمت معرفة علمية حول الظاهرة، وهو ما تُوج بصدور كتاب جماعي سنة 2019 أصبح مرجعا أساسيا لدى المجتمع المدني والأكاديميين. وقد أُعيد نشره من قبل المرصد الوطني لحقوق الطفل بهدف تعميمه على الفاعلين المحليين والجمعيات في مدن إفريقية أخرى.
في مؤلفه الجديد، يحرص جسوس على تبسيط المفاهيم وتحويل التحليل الأكاديمي إلى مقال ميسر، منفتح على القارئ العام دون أن يفقد عمقه العلمي “أردت أن أوجه هذا النص إلى جمهور عريض، فهو ليس موجها فقط إلى الأكاديميين، بل أيضا إلى العاملين الاجتماعيين، والفاعلين المحليين، والسياسيين، وحتى المواطنين الذين يرغبون في فهم الظاهرة بشكل أفضل” شكيب جسوس أرشيف – Ph. UIR
أبناء الشارع، بُعد مقلق وقليل الدراسة
يتوقف المؤلف عند التغيرات التي عرفتها الظاهرة خلال العقود الأخيرة، من حيث العلاقة بالمخدرات، العنف، التسول، والانفصال عن المدرسة والأسرة. ويؤكد أن بعض الأطفال الذين جرى إدماجهم مؤقتا، سرعان ما عادوا إلى الشارع نتيجة غياب تتبع فعّال وبدائل حقيقية.
غير أن أخطر ما يرصده جسوس في الوقت الراهن، هو بروز جيل جديد من “أبناء الشارع”، وهم أطفال وُلدوا في الشارع لأمهات يعشن بدورهن في الشارع، ولم يعرفوا يوما الحياة الأسرية
“الجيل السابق كان لديه تصور عن المنزل، عن الأسرة، عن المدرسة، رغم أنه فقد كل ذلك. أما الجيل الحالي، فهو لا يعرف شيئا من هذا القبيل، وهذا ما يُنذر بخطر أكبر، لأن الطفل الذي يولد ويكبر في الشارع دون أي رابط اجتماعي، لا يحمل أي مرجعية تُمكنه من تصور حياة مختلفة.”
شكيب جسوس ويختم جسوس بالقول إن هذا التحول يتطلب تحليلا نفسيا وسوسيولوجيا معمقا، داعيا إلى تطوير سياسات حماية الطفولة لتشمل ليس فقط الدعم والإيواء، بل أيضا إعادة بناء الروابط الاجتماعية، واستباق ولادة أجيال مستقبلية خارج كل منظومة أسرية أو مجتمعية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس