وصفات من زمن الموحدين: مذاقات صيفية مغربية تعود لقرون

1
وصفات من زمن الموحدين: مذاقات صيفية مغربية تعود لقرون
وصفات من زمن الموحدين: مذاقات صيفية مغربية تعود لقرون

أفريقيا برس – المغرب. من يذكر الصيف في المغرب، لا بد أن يستحضر تلك المتع الصغيرة التي ترافق أيامه الحارة: من لحظات على الشاطئ، إلى نزهات منعشة أو مشروبات باردة تُرتشف تحت شمس لاهبة. ومع حلول هذا الفصل، تبرز بعض الأطباق التي تُشكّل جزءًا من ذاكرة المغاربة الجماعية: البرتقال المنعش، النعناع الطازج، والباذنجان المشوي أو المقلي، الذي يتحوّل إلى ساندويتش بسيط يُلتهم على رمال الشاطئ، أو طبق رئيسي في حفلات الشواء العائلية على التراس عند المغيب.

قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه العادات الغذائية هي نتاج العصر الحديث، لكن الواقع أنها امتداد لتراث طهوي ضارب في القدم، تعود جذوره إلى قرون خلت، وتحديدًا إلى زمن الخلافة الموحدية التي حكمت المغرب وأجزاء واسعة من شمال إفريقيا والأندلس خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

نعثر على دلائل هذه الاستمرارية في أقدم المخطوطات التي أرّخت لفنون الطبخ في المغرب والأندلس، والتي وثّقت مئات الوصفات التي كانت تلبي أذواقًا ونكهات متنوعة. بعض هذه الوصفات، مع تغييرات طفيفة، لا تزال حاضرة على موائد المغاربة اليوم، خصوصًا في فصل الصيف. دعونا نعيد اكتشاف بعضها معًا.

كعكة على الشاطئ

لا يكتمل يوم صيفي على الشاطئ في المغرب دون كعكة ناعمة مغطاة بالسكر. وبينما تنعم بالشمس والرمال، لا بد أن يلفت انتباهك صوت بائع ينادي: “كعكة، كعكة!”، وهو يعرض كعكًا مقليًا مغطى بالسكر البودرة. المدهش أن هذا التقليد ليس وليد اليوم، فقد كان سكان المغرب والأندلس في العصر الموحدي يستمتعون بتحلية مشابهة، وإن لم تكن تُستهلك حينها بالضرورة على الشاطئ.

تُذكر هذه الوجبة الخفيفة في كتب الطبخ العائدة إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر، لا سيما في أقدم مخطوط معروف عن الطهي في شبه الجزيرة الإيبيرية، وهو «كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين» لمؤلف مجهول، وكذلك في «فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان» للعالم المرسي ابن رزين التجيبي. في هذين المرجعين، يُطلق على هذه الحلوى اسم “إسفنج الريح”، أو “الإسفنج الهوائي”، في ترجمة حرفية، ويمكن فهمها أيضًا على أنها كعكة هشة وخفيفة كالهواء.

أما الوصفة، فهي بسيطة لكنها متقنة: يُعجن الدقيق الأبيض الناعم بالماء والملح والخميرة والزيت الطازج حتى يتكوّن مزيج متجانس. ثم يُضاف الماء تدريجيًا حتى تصبح العجينة خفيفة وطرية في الملمس، لتقلى لاحقًا وتُقدم ساخنة، تمامًا كما تُباع اليوم على الشاطئ.

“ثم تُترك لتتخمر”، يكتب ابن رزين، “وتُسخَّن مقلاة فوق النار فيها كمية وفيرة من الزيت. يُؤخذ من العجين بالأصابع وتُوضع القطع في الزيت الساخن”.

ويضيف اقتراحًا لمن يفضّلون كعكتهم أكثر انتفاخًا: “اعجنوا العجين بالبيض، واطهوه كما وُصف سابقًا”. ويقدّم الكتاب أيضًا وصفة متقدّمة من الإسفنج، حيث تُحشى الكعكات بحشوة غنية من المكسرات. وجاء في التعليمات:

“يُؤخذ اللوز المقشور، الجوز، الصنوبر، والفستق، وتُطحن جميعها في هاون حتى تصبح ناعمة كحبيبات الملح. ثم يُغلى العسل النقي على النار حتى يوشك أن يثخن، فتُضاف إليه المكسرات المطحونة مع التحريك حتى يتماسك المزيج”.

شراب النعناع الطازج

تُستخدم هذه الحشوة لتعبئة الكعكات، مع الحرص على أن تكون طبقة العجين بين الحلقات المحشوة رقيقة، قبل أن تُقلى في الزيت حتى تكتسب لونًا ذهبيًا. ويضيف المؤلف أن سكر البودرة وماء الورد يمكن إضافتهما إلى خليط المكسرات، في لمسة تجعل الطعم والرائحة أقرب إلى ما نعرفه اليوم.

ألا تبدو هذه الوصفة مألوفة؟ تمامًا كالكعكات التي تُباع الآن، مغطاة بسكر البودرة وتنبعث منها رائحة خفيفة من ماء الورد. “اغلوا جميع المكونات في كمية كافية من الماء لتغطية الأعشاب، حتى تُستخلص عصارتها بالكامل. صفّوا السائل وأضيفوه إلى رطل من السكر (نحو 468 غرامًا)”، كما جاء في الكتاب.

بعد ذلك، يُضاف نحو ثلاثين غرامًا من زهور القرنفل، ثم يُعاد غلي المزيج حتى يصل إلى قوام الشراب السميك. وهكذا يكون بين يديك شراب يعود إلى القرن الثاني عشر، يمكن استخدامه لإضفاء نكهة مميزة على عصير البرتقال، أو ببساطة تخفيفه بالماء للحصول على مشروب صيفي منعش.

أبسط طبق صيفي: الشواء

لا يكتمل الصيف بدون جلسة شواء عائلية، سواء في نزهة أو في حديقة المنزل. وكان الأمر كذلك أيضًا في المغرب والأندلس خلال القرن الثاني عشر، حيث أُطلق على هذا الطبق ببساطة اسم “الشواء”.

ونظرًا لحرارة الجو، اعتُبر الصيف الموسم المثالي لتحضير هذا النوع من “الطعام البسيط”، كما ورد في إحدى المخطوطات. يفصّل الكتاب خطوات الإعداد بدقة: “يُؤخذ لحم من قطع دهنية لشاة شابة، ويُقطّع إلى شرائح رفيعة باستخدام سكين حاد، مع عمل تقطيعات دقيقة”.

ويُفضل أن يكون اللحم مشبعًا قليلًا بالدهون وخاليًا من العظام، وتُعدّ مناطق الكتف، الفخذ والورك من الأجزاء الأنسب للشواء. ثم تأتي التتبيلة، وهي تختلف قليلاً عن “الشرمولة” المعروفة اليوم.

تبدأ بإضافة المري النقي، وهو بهار سائل تقليدي يُحضَّر من “البذحاج” – بادئ مُخمَّر مصنوع من دقيق الشعير أو القمح – ويُستخدم على نطاق واسع في المطبخين المغاربي والعربي.

يُضاف إليه الخل، الزعتر، الفلفل الأسود، الثوم المهروس، وكمية قليلة من الزيت. تُخفق هذه المكونات معًا جيدًا، ثم تُغمّس فيها شرائح اللحم. بعد ذلك، تُرصّ الشرائح على أسياخ نظيفة دون أن تتداخل، حتى تتعرّض للنار بشكل متساوٍ. تُشوى على فحم مشتعل، مع تقليب مستمر، إلى أن يكتسب اللحم لونًا ذهبيًا شهيًا.

وأثناء الطهي، يُرش اللحم بالتتبيلة من حين لآخر لتعزيز النكهة. ومع أن الطبق لذيذ، إلا أن المؤلف يُنبه إلى أنه “صعب الهضم ويستغرق وقتًا حتى يستقر في المعدة”.

طاجين السمك

رحلة إلى الشاطئ أو تخييم قرب البحر لا تكتمل دون أطباق السمك والمأكولات البحرية. وفي المخطوطات الموحدية، نجد وصفة لطاجين السمك، طبق مفضل لدى سكان سبتة وغرب الأندلس.

ويُطلق عليه في الكتاب اسم “سمك مروج”، وهو مصطلح عام يُشير إلى أي نوع من السمك. يُغسل السمك جيدًا، يُقشّر، ويُسلق في ماء مملح، ثم يُصفى ويُترك جانبًا.

في وعاء الطاجين، يُسخن الزيت على نار متوسطة. “ما إن يبدأ في الغليان، توضع قطع السمك المسلوق في الزيت، وتُقلى حتى تكتسب لونًا ذهبيًا. بعدها تُرفع وتُوضع جانبًا”، كما يورد الكتاب.

ثم يُؤخذ وعاء آخر ويُعدّ فيه مزيج التتبيلة. تُخلط كميتان من الخل، المري النقي، الفلفل، الكمون، الثوم، مقدار صغير من الزعفران وأوراق الغار. يُغطّى هذا الخليط بزيت مذاب ويُوضع على نار هادئة. وعندما يبدأ بالغليان، تُضاف قطع السمك المقلية تدريجيًا إلى التتبيلة، وفق ما توضحه الوصفة.

يُطهى الخليط لفترة قصيرة، مع التحريك من حين لآخر، إلى أن تتبخر الرطوبة وتبقى التتبيلة زيتية القوام فقط. بعد ذلك، يُرفع الوعاء عن النار ويُترك ليبرد، ثم يُقدَّم الطبق “على طريقة سكان سبتة وغرب الأندلس”، كما يختم الكتاب.

الباذنجان المقلي

عنصر آخر لا غنى عنه في صيف المطبخ المغربي هو الباذنجان، سواء كان مشويًا أو مقليًا في ساندويتش سريع أو كمكوّن رئيسي في “الزعلوك”. ويفرد ابن رزين فصلًا كاملاً لهذا النوع من الخضار، مبرزًا فيه وصفة فريدة: الباذنجان المقلي المحشو.

دأ الوصفة بـ: “اختاروا باذنجانًا ناعمًا وقطّعوه إلى نصفين دون تقشيره. يُغلى في ماء مملح حتى ينضج، ثم يُصفّى من الماء”. بعد ذلك، يُفرّغ كل نصف بلطف مع الحفاظ على شكله الخارجي. ويُسحق اللبّ الداخلي ويُخلط مع اللحم المفروم. “يُمزج الخليط مع البيض والتوابل”، ثم تُعاد حشو الأنصاف الفارغة به، وتُغطّى بالسميد أو فتات الخبز.

تُقلى الأنصاف بعد ذلك حتى تكتسب قشرة ذهبية مقرمشة – على الطريقة التي نعرفها اليوم. ويُقدّم الباذنجان المحشو مرفقًا بصلصة، كما يختتم الكتاب وصفته. وأنت، أي من هذه الوصفات الموحدية يثير شهيتك لتجربته هذا الصيف؟ وأي طبق منها يمكن أن يتحوّل إلى مفضل لديك؟

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس