التضخم وتفاقم المديونية تحديات الاقتصاد المغربي في 2023

117
التضخم وتفاقم المديونية تحديات الاقتصاد المغربي في 2023 ؟
التضخم وتفاقم المديونية تحديات الاقتصاد المغربي في 2023 ؟

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. يتعرض الاقتصاد المغربي، حين تقييمه من لدن خبراء محليين أو أجانب، لتضارب في تقديم الحصيلة كما في إصدار التوقعات، إلى تضارب مُحَيّر في الأرقام والنسب والخلاصات. وهو ما يعكس في الواقع تعقيد بنية الاقتصاد المغربي، المرتبطة عضويا بعناصر لا تنضبط لقواعد ثابتة، في مقدمتها الطقس والتجارة الدولية.

وضمن هذا الواقع، تتباين توقعات بعض المؤسسات الوطنية والدولية بين التفاؤل الحذِر والتشاؤم النسبي، في وقت لم يتعافَ الاقتصاد المغربي بعد تماما من تبعات وباء كورونا وما تلاه من تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية.

فكيف يمكن أن نفهم إشكالات التنمية والاقتصاد في المغرب؟ وما هي التوقعات ذات المصداقية بشأن أدائه وآفاق نموه خلال العام الجديد؟

2022.. كانت سنة جيدة

بحسب المؤشرات الاقتصادية المتوفرة، فإن حصيلة سنة 2022 كانت على العموم مقبولة، حتى لا نقول “جيدة”. فقد بلغ حجم الودائع في المصارف المغربية، خلال العام 2022، مستوى قياسيا يصل إلى 1000 مليار درهم (حوالي 100 مليار دولار). بحسب مكتب الصرف (حكومي)، فإن عائدات السياحة تضاعفت خلال العام الماضي، مسجلة ارتفاعا استثنائيا من 28,46 مليار درهم في نهاية أكتوبر 2021، إلى 71,10 مليار درهم (حوالي 7 مليارات دولار) في متم أكتوبر 2022. وهو ما يؤشر على تعافي قطاع السياحة من تداعيات الأزمة الوبائية لجائحة كورونا.

وبحسب بنك المغرب، فقد ارتفعت تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج بنسبة 12,9 %، لتبلغ 105,8 مليار درهم (حوالي 10 مليارات دولار) خلال سنة 2022.

ولأول مرة، تجاوزت صادرات المغرب من الفوسفاط والسيارات حاجز المائة مليار درهم (حوالي 10 مليار دولار) لكل منهما، حتى نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لتسجلا بذلك رقمين قياسيين غير مسبوقين في تاريخ الاقتصاد المغربي. فوفقا لمعطيات المبادلات التجارية الصادرة عن مكتب الصرف (حكومي)، برسم شهر نوفمبر الماضي، حققت صادرات الفوسفاط ومشتقاته 108 مليارات درهم ما بين شهري يناير ونونبر 2022، مقابل 69,7 مليار درهم في الفترة نفسها من العام الماضي. وهو ما سمح للمكتب الشريف للفوسفاط (شركة حكومية) باعتماد برنامج استثماري ضخم بقيمة 130 مليار درهم للفترة ما بين سنتي 2023 و2027، لرفع إنتاج الأسمدة من 12 مليون طن حاليا إلى 20 مليون طن، ما سيخلق 25 ألف منصب شغل مباشر وغير مباشر، ومواكبة 600 مقاولة صناعية مغربية.

أما مبيعات قطاع السيارات فقد واصلت أداءها الجيد، على الرغم من الظرفية الاقتصادية الدولية، وذلك بتحقيق صادرات غير مسبوقة بقيمة بلغت 100.3 مليار درهم إلى حدود نهاية شهر نونبر/تشرين الثاني فقط، بنمو ناهزت 35 % على أساس سنوي.

لكن، في مقابل هذه المؤشرات الجيدة التي سجلتها أهم أركان الاقتصاد المغربي، كشف بنك المغرب عن ارتفاع الواردات بنسبة 38,4 % خلال سنة 2022، وهو ما يشمل بالأساس تفاقم الفاتورة الطاقية بنسبة 102,1 %، لتبلغ فاتورتها 153,2 مليار درهم (حوالي 14 مليار دولار)، وأيضا تزايد المشتريات من المواد نصف المُصَنعة، مع ارتفاع قوي بنسبة 89,9 % بفاتورة تصل 27,2 مليار درهم في الإمدادات القادمة من الخارج من القمح.

توقعات متفائلة لـ 2023

بالإضافة إلى كون الأزمة قد استنزفت احتياطيات أغلب الحكومات عبر العالم بسبب وباء كوفيد-19، انضافت أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب المشتعلة في أوكرانيا منذ أقل قليلا من عام، إلى معاناة الدول التي لا تمتلك موارد طاقية. وهو ما بات يهدد الاستقرار الاقتصادي لجزء كبير من بلدان المعمورة، ويهدد نمو الاقتصاد العالمي.

وعلى غرار ما يجري في العالم، ليست دول شمال أفريقيا بمنأى عن ما يحدث في جميع أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، اضطرت مصر إلى مراجعة توقعاتها للنمو نزولا. ويرجع ذلك بالأساس إلى الانخفاض الكبير الأخير في قيمة العملة المصرية، حيث فقد الجنيه أكثر من 100% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي. ولتفادي تكرار السيناريو المصري الكابوس، تحاول الحكومة المغربية التحرك بسرعة للتخفيف من صدمة مخلفات الجائحة وتداعيات الحرب في أوكرانيا.

ويتوقع البنك الدولي أن تكون 2023 سنة اقتصادية جيدة للمغرب، بحيث يحقق النمو 4,5%، بالأساس بفضل تعافي القطاع الزراعي تدريجيا من جفاف العام الماضي. كما تتوقع ذات المؤسسة الدولية أن تحقق المملكة نموا بنسبة 3,7% بحلول عام 2024.

بينما يتوقع مجلس بنك المغرب (البنك المركزي) أن يتسارع النمو في سنة 2023 ليصل إلى نسبة 3 %، مدفوعا بارتفاع القيمة المضافة الفلاحية بنسبة 7 %، مع فرضية العودة إلى تحقيق إنتاج متوسط من الحبوب، في حين يرتقب أن يتباطأ نمو الأنشطة غير الفلاحية إلى 2,4 %، متأثرا على وجه الخصوص بتدهور المناخ الخارجي. وعكس خبراء البنك الدولي، يشدد خبراء بنك المغرب على أنه يتوقع أن يصل النمو في سنة 2024 إلى 3,2 %، شاملا تزايد القيمة المضافة الفلاحية بنسبة 1,8 %، وفرضية محصول فلاحي متوسط، وتنامي القيمة المضافة للأنشطة غير الفلاحية بنسبة 3,5 %.

ويتوقع بنك المغرب أن تتحسن الصادرات بنسبة 32,3 %، مدعومة بالأساس بمبيعات الفوسفاط ومشتقاته التي تستفيد من ارتفاع الأسعار العالمية، وبصادرات قطاع السيارات. ويتوقع في سنة 2023 أن يتباطأ نموها إلى 2,7 %، مع انخفاضات في الفوسفاط ومشتقاته والمنتجات الفلاحية ومنتجات الصناعة الغذائية، قبل تسجيل شبه استقرار في سنة 2024.

كما يتوقع بنك المغرب أن تتراجع الواردات بنسبة 3 % خلال سنة 2023، خاصة مع انخفاض الفاتورة الطاقية بنسبة 13 %، وتدني تراجع واردات القمح بنسبة 41,2 %، قبل أن تتزايد بنسبة 1,1 في المئة خلال سنة 2024. كما يتوقع أن تتراجع تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج بنسبة 4 %، لتصل 101,5 مليار درهم خلال سنة 2023، نظرا على الخصوص لتدهور الأوضاع الاقتصادية في دول الاستقبال، قبل أن تعود إلى الارتفاع لتصل إلى ما يناهز 104 مليار درهم خلال سنة 2024.

ويتابع البنك المركزي أنه من المرتقب، في ظل هذه الظروف، أن يتفاقم عجز الحساب الجاري من 2,3 % من الناتج الداخلي الخام خلال سنة 2021 إلى 3,3 % خلال سنة 2022، قبل أن يتراجع إلى 2,1 % خلال سنة 2023، ثم إلى 1,9 % خلال سنة 2024. أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فيرتقب أن تكون عائداتها ناهزت ما يعادل 3 % من الناتج الداخلي الإجمالي خلال سنة 2022، و3,2 % من الناتج الداخلي الإجمالي سنويا خلال السنتين المقبلتين (2022 و2023).

على الرغم من ريح التفاؤل التي تنشرها هذه الأرقام والتوقعات، إلا أن تذبذب أداء الاقتصاد المغربي وما ينتجه من نمو، يطرح الكثير من أسئلة الاستفهام حول أسبابه وانعكاساته على الوضع العام في البلاد.

نمو متذبذب للاقتصاد

وكان تقرير صدر عن “المرصد الاقتصادي للمغرب” التابع للبنك الدولي، تحت عنوان “من التعافي إلى تسريع النمو”، اعتبر بأن “التنفيذ المستدام لأجندة إصلاحات طموحة ومتعددة الأوجه، يعد أمرا ضرورياً من أجل تحقيق نمو واسع النطاق وإحداث فرص الشغل بالبلاد”.

لكن التقرير الذي قدم تحليلا شاملا لأداء نمو الاقتصاد المغربي خلال العقود الماضية، بين أنه حتى الساعة، “كان تراكم رأس المال الثابت هو المحرك الرئيسي لذلك النمو، مع تحقيق مكاسب إنتاجية محدودة، ومساهمة غير كافية من جانب العمالة، على الرغم من الوضع الديموغرافي المواتي”.

ويعرض التقرير لعمليات محاكاة لتأثير خيارات السياسات المختلفة، على النمو الاقتصادي في المغرب. وأظهرت هذه المحاكاة، بأن “التنفيذ المستدام لأجندة إصلاحات واسعة النطاق، من شأنها أن ترفع من مستويات رأس المال البشري، والمشاركة الاقتصادية، وإنتاجية الشركات. وسيكون ذلك أمرا حاسما لتحقيق أهداف النمو الطموحة، التي حددها النموذج التنموي الجديد. ومن شأن مثل هذه الأجندة أن تعزز إطلاق العنان للقدرات الإنتاجية للمغرب، بما يُمَكن شبابه ونساءه من الوصول إلى سوق الشغل، والارتقاء بالمؤهلات التعليمية للعمال”.

ويرى المدير الإقليمي لدائرة المغرب العربي بالبنك الدولي جيسكو هينتشل، بأن الاقتصاد المغربي ” يحتاج في المرحلة المقبلة إلى تنويع مصادر نموه، ليتمكن من مواصلة خلق فرص شغل، ومن الحد من الفقر. وعلى النحو المتوخى في النموذج التنموي الجديد، قد يتطلب ذلك تنفيذ إصلاحات واسعة النطاق لتحفيز الاستثمار الخاص، وتعزيز الابتكار، وإشراك المرأة في القوى العاملة، وزيادة رأس المال البشري”.

ويتناول التقرير المذكور بالتحليل أيضا، أداء الاقتصاد المغربي خلال العام 2021 حيث سجل معدل نمو متوقع بنسبة 5,3%. ليخلُص إلى أن الأداء القوي غير العادي للقطاع الفلاحي، والتباطؤ المؤقت في تفشي جائحة كورونا، وانتعاش الطلب الخارجي على الصادرات الصناعية والزراعية المغربية، وما صاحب كلَ ذلك من سياسات الاقتصاد الكلي الداعمة، تُعد جميعها الدوافع الرئيسية لتحقيق المغرب لتعافٍ ملحوظ، من الأزمة الناجمة عن جائحة فيروس كورونا. لكن كان هذا التعافي غير متكافئ.

لقد بدأ الاستمرار في التعافي في عكس مسار الآثار الاجتماعية المترتبة على الجائحة، حيث أدى انتعاش الإنتاج الفلاحي إلى انخفاضٍ سريعِ في معدلات البطالة في المناطق القروية. أما المناطق الحضرية فقد بدأت مؤشرات سوق الشغل في التحسن فقط خلال الربع الثالث من العام 2021. وبعد أن بلغت معدلات الفقر ذروتها عند 6,4% في عام 2020، فقد لا تعود إلى مستوياتها المسجلة في عام 2019 (قبل الجائحة) حتى عام 2023. وذلك على الرغم من أن برامج التحويلات النقدية التي لجأت إليها الحكومة المغربية خلال فترة الإغلاق قد خففت من تأثيرات الأزمة.

إن الانتعاش القوي في الإيرادات العمومية يُمَكِن الحكومة المغربية من تقليص العجز في ميزانيتها، حيث اعتمدت السلطات في الغالب على الأسواق المحلية لتغطية احتياجاتها التمويلية. لكن على الرغم من ذلك، أدى ارتفاع أسعار الطاقة وانهيار إيرادات السياحة إلى تجاوز التدفقات الإضافية، الناتجة عن الأداء القوي للصادرات الصناعية وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، مما قاد بدوره إلى زيادة العجز في الحساب الجاري للبلاد.

وعلى الرغم من أن السياسة النقدية الفعّالة ودعم السيولة، اللذان أتاحهما البنك المركزي قد سمحا للقطاع المالي، عموما بامتصاص تداعيات الأزمة العاصفة، إلا أن معدل القروض المتعثرة السداد ما يزال مرتفعا في المغرب. بل ويمكن أن يرتفع بصورة أكبر. ووفقاً لذات التقرير، ستكون الإدارة الناجعة لمواطن الضعف المالي على مستوى الاقتصاد الكلي ضرورية لدعم التعافي المستدام في البلاد.

التضخم خط أحمر!

في أحدث تقرير صدر عنه قبل أيام، حول “المخاطر العالمية لسنة 2023″، حذر منتدى دافوس العالمي للاقتصاد من أن ارتفاع تكلفة المعيشة، ستكون أكبر الأخطار المحدقة بالمغرب خلال السنتين القادمتين (2003 و2004). وكشف التقرير أن تكلفة المعيشة تأتي على رأس أكثر خمسة مخاطر تواجه المغرب، متبوعة بمخاطر أخرى ذات علاقة، حددها التقرير كالتالي: التضخم السريع والمستمر، والصدمات الشديدة في أسعار السلع الأساسية، والأزمات الحادة في المعروض من السلع الأساسية بالأسواق. وجاءت أزمات الديون في المرتبة الخامسة من الأخطار المحدقة بالاقتصاد المغربي، بسبب ما يمكن أن يحدث من حالة إعسار، أو أزمات سيولة، أو تخلف عن السداد، بما ينجم عن ذلك من تبعات اجتماعية سلبية.

وأوضح المنتدى في تقريره، أن الخطر المتعلق بتكلفة المعيشة ليس مرتبطا بالمغرب وحسب، بل بالعالم أجمع؛ حيث إن هذا الخطر يأتي على رأس الأزمات التي من المرتقب أن تواجه العالم في العامين المقبلين (203-2004)، بسبب التضخم، والاضطرابات في تدفقات الغذاء والطاقة، وتبعات الحرب في أوكرانيا، وغيرها. وعلى غرار الاحتجاجات التي سبق أن عرفها المغرب بسبب غلاء أسعار المواد الغذائية والمحروقات، رصد التقرير أن هذا الوضع المرتبط بأزمة تكلفة المعيشة، أدى إلى خروج احتجاجات في حوالي 92 دولة بسبب غلاء المحروقات فقط.

ونبه التقرير إلى ما يحمله ارتفاع تكلفة المعيشة من آثار سلبية متعددة، خاصة على فئات واسعة من السكان باتت تجد نفسها غير قادرة على الحفاظ على نمط حياتها، بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية دون ارتفاع في دخلها المالي. وهو ما يؤدى إلى زيادة مديونية الأسر، وقد يؤدي إلى اضطرابات سياسية وعدم استقرار، وارتفاع نسب الهجرة، وغيرها من النتائج الوخيمة على المغرب.

والحقيقة أن هذا الوضع الذي شخصه تقرير منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، سبق أن أكدته تقارير دولية ووطنية أخرى، نذكر على رأسها المندوبية السامية المغربية للتخطيط (حكومية)، التي رصدت من خلال أكثر من تقرير تردي الأوضاع المعيشية للأسر المغربية في ظل استمرار الغلاء، وارتفاع لجوئها إلى المديونية وقروض الاستهلاك على الرغم من ارتفاع سعر الفائدة مرتين العام الماضي (في 22 سبتمبر/أيلول 2022 رفع سعر الفائدة إلى 2 % لمواجهة التضخم، ثم في 20 ديسمبر/كانون الأول 2022 رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 2,50 %).

يُذكر أن إحصائيات كانت أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط، أثناء ذروة جائحة كورونا، كشفت عن تضاعف معدلات الفقر 7 مرات على الصعيد المغربي، حيث انتقل من %1,7 قبل هذه الأزمة إلى %11,7 خلال الحجر الصحي. ووفقا لآخر أرقام المندوبية، فإن نحو 52% من الأسر في المغرب قد لجأت إلى الاقتراض أو إلى مُدخراتها خلال العام الماضي.

وإلى جانب ذلك، يبرز تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي استمرار خطورة حدوث انقطاع في إمدادات المواد الأساسية، حيث قامت 30 دولة خلال 2022، بفرض قيود على صادراتها من المنتجات لتأمين حاجياتها بسبب الأزمة العالمية. وهذه المخاطر لا تزال محدقة، خاصة مع عودة انتشار الوباء في الصين. كما لم يفت تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، الوقوف عند إشكالية ارتفاع مستوى الإجهاد المائي للأحواض الرئيسة في المغرب، بنسب تتراوح ما بين 75 و100%”، وكذلك إلى كون احتياطات المواد المعدنية لا تتجاوز 1% بالبلاد.

وسبق لمجلس بنك المغرب أن حذر —هو الآخر— من أنه على الرغم من ظهور بوادر لتراجع التضخم في عدد من دول العالم، إلا أنه يظل على العموم جد مرتفع، بحيث ستلقي هذه الظرفية الدولية بظلالها على النشاط الاقتصادي وعلى تطور التضخم، حيث يرتقب أن يظل هذا الأخير في مستويات مرتفعة لفترة أطول مما كان متوقعا في سبتمبر/أيلول الماضي، متأثرا بالأساس بالضغوط الخارجية التي تنتقل إلى السلع والخدمات غير المتبادلة، وبتنفيذ إصلاح نظام المقاصة في المغرب، المتوقع تنفيذه ابتداء من سنة 2024.

جذور “أعطاب التنمية” في المغرب قديمة ومعروفة

الدكتور نجيب أقصبي هو أستاذ للاقتصاد، وخبير مغربي متخصص في استراتيجيات التنمية والسياسات الفلاحية والجبائية في المغرب وفي العلاقات الأورو-متوسطية. هو أيضا مناضل يساري معارض يحظى بالكثير من الاحترام في المغرب وخارجه. وفي كتابه الأخير الذي حمل عنوان “المغرب: اقتصاد تحت سقف من زجاج” (بالفرنسية)، يلخص أقصبي رصيده البحثي ومحاضراته منذ أربعين عاما، ويشرح أسباب العطب الذي عرفته كل الوعود الرسمية حول الاقتصاد المغربي، الذي يصفه بكونه “مكبّلا بمنطق الريع وتضارب المصالح والتوجيه السيئ للمواد والتبعية وكثرة الاقتراض”.

فعلى الرغم من مؤهلاته ونجاحاته، التي تبدو من الخارج مبهرة، لازال المغرب بعيدا كل البعد عن امتلاك حالة القوة الاقتصادية الناشئة. والظرفية الحالة لا تبعث على التفاؤل، بعد قفزة لا بأس بها في نسبة النمو التي بلغت 7,9% سنة 2021، تراجعت نسبة النمو إلى 1,2 % فقط سنة 2022، بحسب معطيات بنك المغرب (البنك المركزي).

والسبب في ذلك برأي د. أقصبي يعود إلى كون الاقتصاد المغربي لا يستجيب لأية ميزة من ميزات الاقتصادات الناشئة. خلال العشرين سنة الماضية ظلت نسبة النمو ضئيلة تقارب 3,5%، بينما البلاد في حاجة إلى نسبة نمو في حدود 7% خلال خمسة عشر عاما متتالية، كي ترقى إلى مصاف الاقتصادات الناشئة économies émergentes حقا. فالواقع أن نسبة النمو متذبذبة لأنها مرتبطة بنسبة الناتج الداخلي الخام الفلاحي، التي ترتفع أو تنخفض حسب الظروف المناخية. ها نحن في شهر يناير 2023 ولا أحد يستطيع أن يتحدث بعد عن توقعات السنة الاقتصادية 2023، كونها رهينة بالمحاصيل الزراعية التي تعتمد بدورها على حجم الأمطار التي ستسقط خلال الأسابيع والشهور القادمة.

من جهة أخرى، يرى د. أقصبي من الضروري نتناول موضوع توزيع الثروات، بالنظر إلى أن النموذج المغربي ينتج الإقصاء والتهميش واللامساواة الاجتماعية. ويورد بهذا الصدد خلاصات الاستطلاع الذي سبق أن أنجزته ونشرته “المندوبية السامية للتخطيط” (رسمية) عام 2021، والذي يكشف بأن مراكمة الثروات بلغت حدا لا يطاق، حيث إن 20% من “الميسورين” تستحوذ على 53,3% من المداخيل المالية. بينما 80% “الأقل يسرا” تكتفي بنسبة 5,6%. والحال أنه في البلدان الناشئة توجد طبقة متوسطة كبيرة الحجم، بينما في المغرب تشير جميع الدراسات تشير إلى أن هذه الطبقة المتوسطة تتقلص عاما بعد عام، وهذا يشكل — بحسب د. أقصبي— عائقا كبيرا أمام التنمية.

لقد أبرزت أزمة كورونا مدى الهشاشة الاجتماعية التي يعيش فيها عدد كبير من المغاربة، كما عَرّت ضعف سوق الشغل حيث إن 80 % من السكان إما يشتغلون في الاقتصاد غير المهيكل، أو لهم مهن غير مستقرة. كما أظهرت الأزمة بحسب د. أقصبي أن التوجهات التي اتبعها المغرب بناء على إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في سنوات الثمانينيات والتسعينيات (المنسجمة مع التوجه النيوليبرالي) قد أغفلت الاستجابة إلى حاجيات الناس إلى الخدمات العمومية الأساسية، التي اتضحت ضرورة مراجعتها بداء من المنظومة الصحية الوطنية، التي لا توفر سوى 7,3 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، بينما توصي منظمة الصحة العالمية بـ 23 طبيبا لكل 10 آلاف نسمة.

وبالمجمل، يعتبر د. أقصبي بأن المشكل الذي يعرقل الاقتصاد والتنمية في المغرب سياسي. ويورد للتدليل على ذلك الانتقادات الكبيرة التي توجه إلى اعتماد المغرب المفرط على السوق الدولية، خاصة فيما يتعلق باستيراد المواد الغذائية؛ في وقت تتصاعد فيه مطالبة المغاربة بضرورة توفير الاكتفاء الذاتي الغذائي الذي يجسد السيادة الوطنية.

ويرى د. نجيب أقصبي بهذا الصدد أن هذه التبعية ترتهن إلى الاختيارات الكبرى، التي تعود إلى سنوات الستينيات، التي وضعها الملك الراحل الحسن الثاني والتي استمرت بعد وفاته عام 1999، بعد أن عبر الملك الحالي محمد السادس عن تشبثه بخيار الليبرالية الاقتصادية، وبنظام الملكية التنفيذية ذات السلطات المطلقة كما يحددها الدستور. وهذه الخيارات، يشرح أقصبي، تعتمد على محورين اثنين، هما: اقتصاد السوق والاندماج الكامل في الاقتصاد العالمي، من جهة. والاعتماد على الصادرات لكي تكون هي قاطرة الاقتصاد والنمو، من جهة أخرى.

وبذلك فقد كانت جميع السياسات المتبعة حتى اليوم، يوضح أقصبي، كانت في خدمة هذه الخيارات. ومنها خصخصة بعض الشركات العمومية الكبرى، التي عادة ما تقتنيها عائلات الأوليغارشية المالية والسياسية الموالية للسلطة الحاكمة في المغرب. ويذكر أقصبي منها أيضا، الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، وتحرير السوق الوطنية بشكل مطلق، وتحرير الأسعار، والإكثار من اتفاقيات التبادل الحر التي تدافع عنها اللوبيات النافذة في البلاد والتي تكون لها عواقب سيئة للغاية على الاقتصاد.

وعلى النقيض من النتائج المتوقعة، يكشف د. أقصبي، فإن حجم الاستيراد قد استمر في الارتفاع. بينما حجم الصادرات لا يتزايد إلا بنسبة هزيلة، إلى درجة أن المغرب يُصدّر اليوم (من حيث القيمة المالية) نصف ما يستورد. وهكذا فإن التجارة الخارجية تجر البلاد إلى دوامة أليمة من العجز التجاري والاقتراض والتبعية إلى الخارج.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس