مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. تتسارع التطورات بشكل غير مسبوق منذ نحو عامين، في موضوع النزاع القائم منذ 46 عاما حول الصحراء المغربية. هكذا، وبعد تأمين المغرب لمعبر الكركرات الاستراتيجي في نوفمبر 2020، وما تلاه من إعلان جبهة البوليساريو لـ “العودة إلى الكفاح المسلح”؛ شهد الموقف السياسي والديبلوماسي بدوره تطورا كبيرا. فقد اعترفت واشنطن في ديسمبر 2020 بسيادة المغرب على صحرائه، تلاها فتح قنصليات لدول إفريقية وعربية وغيرها بالعيون والداخلة (أكبر مدن الصحراء)، واعتراف ألمانيا في ديسمبر 2021 بأن مخطط الحكم الذاتي يشكل “مساهمة مهمة” للمغرب في تسوية النزاع حول إقليم الصحراء. ثم مؤخرا (في 18 من الشهر الماضي) خرجت إسبانيا عن خط الحياد الذي التزمته منذ عقود، لتعترف بالمخطط المغربي أمام اندهاش كثيرين.
في الحوار التالي، يحاول موقع “أفريقيا برس” تقصي ما يجري ضمن ديناميكية هذا النزاع الطويل والمعقد مع المحلل العسكري والجيواستراتيجي المغربي باهي العربي النص، الذي لديه اطلاع واسع بالموضوع بحكم كونه أحد القيادات العسكرية الكبرى في جيش جبهة البوليساريو:

منذ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، تشهد القضية تطورات كبرى تؤشر على قرب حسم المغرب لهذا النزاع لصالحه.. ما هي قراءتك لما يجري؟
فعلا اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، ونظرا لوزنها شكل “نقطة تمفصل” في النزاع، وكان مؤشرا واضحا أظهر للجميع أن اتجاه حل النزاع سيكون حتما محترما للمطالب المغربية، التي كانت دائما ترسم خطا أحمرا أمام أي تصور للحل أو لخطة وساطة، تضع السيادة المغربية على الإقليم محط تشكيك أو عملة مساومة.
إلا أن التغيير الحقيقي بدأ قبل ذلك بكثير. فعلى إثر تعثر خطة “جيمس بيكر” الأولى التي كان محورها تنظيم استفتاء تقرير المصير، وضع وزير الخارجية الأمريكي خطة بديلة تسمى بالخطة 2. وهذه الأخيرة أدخلت مرحلة انتقالية يتم فيها تسيير الإقليم في إطار حكم ذاتي، كان في البداية محدودا بخمس سنوات، ثم حذفت فقرة التحديد الزمني بعد ذلك في مطلع الألفية.
ومنذ ذلك الزمن تحديدا، بدأت الاستدارة في مواقف القوى الدولية تنعكس على لهجة قرارات مجلس الأمن رويدا رويدا. فلم يعد الاستفتاء شرطا، وأصبحت تدخل مصطلحات كالحل السياسي والحل الوسط، لتصل الذروة في 2007 باعتبار الخطة المغربية “ذات مصداقية”.
إن الاعتراف الأمريكي كان نقطة فاصلة، نظرا لأهمية هذا البلد المحورية في النظام الدولي الحالي. وتمخض عن الإعلان عن هذا الموقف بصيغة رسمية تَشجُع الكثير من البلدان، المترددة والمرتاحة للمواقف الرمادية، نحو اتباع نفس النهج. ولذلك فإن القنصليات التي تم تدشينها في الأقاليم الجنوبية، والتغييرات التي حدثت في مواقف بعض القوى الأوروبية، هي نتيجة مباشرة لاستكمال الاستدارة الأمريكية بإعلان الرئيس السابق دونالد ترامب عن الموقف الجديد.
يُلاحظ أن جبهة البوليساريو فقدت زمام المبادرة منذ التدخل الأمني المغربي في الكركرات، حيث تصدرت الجزائر مشهد المواجهة مع المغرب بشكل واضح.. على ماذا يؤشر ذلك؟
في الواقع الجبهة بدأت تفقد المبادرة منذ ثلاثة عقود، حتى وإن كان أوج هذا المنحنى تجسد في عملية تأمين المعبر الحدودي [الكَركَرات]. فقد بدأت تفقد زمام المبادرة بسبب عدة عوامل معقدة ومتشابكة، أذكر منها اعتمادها الكامل على حليف واحد أوحد منذ قطيعتها مع العقيد القذافي سنة 1984. و الحليف الواحد دائما يسخرك لأهدافه حتى تضطر إلى تناسي أهدافك. ثم جاءت أحداث 1988 المتزامنة في المخيمات وفي الجزائر، لتغرق الحليف الأوحد [الجزائر] في سراديب دموية، وتقطع الصلة بين تنظيم الجبهة وقاعدته الشعبية. إلى درجة أنه أمسى تنظيما متهالكا أولى أولويات قادته هو البقاء في السلطة بأي ثمن، وإرضاء الحليف الجزائري لذلك الغرض. وكل ما حدث بعد ذلك إلى يومنا هذا هي نتائج حتمية لذلك المنحنى. فقد ساد التسيب والعدمية في المخيمات، وما يثير فعلا استغرابي هو طول مدة احتضار هذا التنظيم [يقصد البوليساريو]، الذي بقي لعقود يقتات على منجزات ماضية وعلى خطب متهالكة.
ألا ترى بأن هيمنة الجزائر على القرار الصحراوي، يضعف وضع البوليساريو داخليا وخارجيا بشكل كبير؟
إن ما حدث في الگرگرات في 13 نوفمبر 2020، كان نقطة فاصلة على المستوى الاستراتيجي، وعلى مستوى الصراع القائم بين المملكة والجزائر، أكثر منه مجرد مواجهة موضعية، مثل العديد من العمليات العسكرية التي تجري باستمرار. وهذا ما يفسر ردة فعل الجزائر والخطوة التي خطتها إلى الأمام. فالجزائر رأت في استعادة المغرب للتواصل مع العمق الإفريقي، من خلال تأمينه لمعبر الكركرات، أكبر تحدي ممكن لخطتها الرامية إلى إبقائه معزولا. ولم تكن الجارة تهتم كثيرا بحل مشكل الصحراء، أو بتمكين الجبهة من التقدم في تحقيق أهدافها. وهذا يظهر جليا في محدودية الدعم العسكري الذي تقدمه لها.
الجزائر كانت جد مرتاحة للوضع السابق، لأن هدفها الرئيسي هو مقارعة المغرب، وعزله عن محيطه الإفريقي والحفاظ على “حجرة” النزاع المفتوح في حذائه. و هذا كان قائما الى حد بعيد قبيل يوم الگرگرات. لكن يبدو أنهم استفاقوا على صدمة يوم 13 نوفمبر 2020، بتمكن المغرب من تأمين المعبر ومباركة معظم القوى الدولية لخطوة كانت مبررة.تلك الخطوة غيرت كل شيء و نرفزت الجزائر كثيرا.
بخصوص تغير موقف مدريد من قضية الصحراء، ما الذي سيضيفه هذا الموقف الجديد لمكتسبات المغرب؟
موقف مدريد من قضية الصحراء يضاهي الموقف الأمريكي أهمية، لما لها كقوة استعمارية سابقة من دور تاريخي في هذا النزاع؛ من روابط وطيدة مع الساكنة بكل أطيافها، و من دور رائد في الإقليم بصيفة عامة وفي حتى في أمريكا الجنوبية، والاتحاد الأوروبي وأروقة الأمم المتحدة. كما يجب ألا نغفل أن معظم الدعم المادي والمعنوي الذي تتلقاه الجبهة، مصدره أحزاب حركات و تنظيمات أهلية إسبانية. ولذلك فإن أهمية إسبانيا في النزاع حول الصحراء هي بدون شك كبيرة وكبيرة جدا.
الموقف المغربي من النزاع وجد في إسبانيا “المجداف” الثاني، بعدما تحصل على الأول من الإدارة الأمريكية. وأعتقد أنه في موقف قوة لم يكن ليتوقعه أحدا قبل سنين قليلة، كما أعتقد بأنه حان موسم الحصاد والسخاء من موقف قوة، لأن هذه الجراح المتراكمة تتطلب منا لباقة وبعد نظر لطيِّها على أحسن وجه، حتى لا نسقط في أخطاء المنتصر وهي شائعة.
في سياق زيارة رئيس الحكومة الإسبانية الأخيرة، لماذا تم الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية (الأطلسية) مع المغرب، واستثناء المياه الشمالية (المتوسطية)؟
لا أخفي عليكم أنني لم أجد تفسيرا للتطورات التي حدثت في ملف الصحراء، خلال السنوات القليلة الماضية. فبعدما ما أمضى عقودا في سبات يحتل أدنى مراتب سلم الأولويات في نظر العالم، سرعان ما رأينا هيستيريا دولية تضعه في الواجهة. ورأينا الصين تفتح فجأة مكتبا تجاريا في الداخلة، ثم بلدان كالإمارات والأردن وغيرها تتسابق لفتح قنصليات، ثم أمريكا وهي تخطو خطوة جبارة لها ما بعدها، والقوى الأوروبية تنتقل من مشاكسة المغرب إلى مغازلته في ظرف وجيز… الخ. لم أجد ما أنسب إليه كل هذه التحركات، سوى اكتشاف حدث قبل ذلك بظرف وجيز في أعماق المحيط، وهي سلسلة من الجبال في العمق مقابلة لشواطئ مدينة الداخلة، تحتوي على مخزون هائل من معادن المستقبل النادرة المتواجدة هناك بكميات تضاعف مخزونها المكتشف على سطح الأرض مئات الأضعاف.
حاولت إسبانيا في البداية استغلال الوضع الشاذ للنزاع حول الصراء، لتوسيع مياهها الإقليمية حتى تضمن السيادة على تلك المقدرات، فرد المغرب بعد ذلك بظرف وجيز بخطوة مماثلة تبناها مجلس النواب [ترسيم حدوده البحرية].. وأتصور أن الدافع الأساسي الذي جعل الجميع يتحرك في الملف بنرفزة نادرة، هو الطمع في هذا الكنز الذي يسيل لعاب العالم بأسره.
وعند زيارة رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو شانشيز للرباط الخميس الماضي، ولقائه بالعاهل المغربي، كان يراودني سؤال لم أجد له جوابا مقنعا إلى أن تصفحت البيان المشترك الذي نشر بعد اللقاء. والسؤال هنا هو: ما هو الثمن الذي قايضت به إسبانيا استدارتها المفاجئة في ملف الصحراء؟ هل يعقل أن يكون المغرب منحها ضمانات، تتعلق بعدم فتح ملف سبتة ومليلية و الجزر في المستقبل القريب؟
أتصور أنني وجدت ضالتي في الفقرة السادسة من البيان، حيث تم التأكيد على أنه “يتفق الطرفين على الشروع في ترسيم الحدود البحرية الأطلسية بينهما”. وهو ما قد يُفهم منه أن المملكتين توصلتا إلى صيغة ما لتقسيم المعادن، أو للاستغلال المشترك لها. و ذلك سيكون ثمنا مغريا ويفسر شهر العسل هذا بين المملكتين.
برأيك، كيف سيكون وضع سبتة ومليلية والجزر المغربية المحتلة من طرف إسبانيا، بعد الاتفاق الأخير بين الرباط ومدريد؟
أتصور أن “الستاتيكو Statu quo” -أي الوضع القائم- في سبتة و مليلية سيعيش استقرارا، وسيخفت كثيرا الصوت المطالب بهما كما تعودنا أن يحدث، كلما مرت العلاقة بين المغرب وجارته الشمالية بشهر عسل. فقد حدث ذلك بعد 1975 وسيحدث من جديد. سيكون الملف مجمدا لفترة ما، طولها أو قصرها يتوقف على سيرورة الملفات الأخرى وانسيابية تنزيل التفاهمات.
وفي المصادر الإسبانية يجري الحديث عن أن مدريد غير متسرعة في إعادة فتح المعابر البرية بين البلدين [البوابات الحدودية بسبتة ومليلية المحتلتين]، إلى أن يتم تحديثها بالكامل وضمان الضبط المطلق لحركة العبور خلالها. وهذا بالتأكيد سيكون نتيجة لما سيتوصل إليه الطرفان في مفاوضاتهما وانعكاسا ملموسا لتفاهماتهما. وبالتالي، فإن فتحها لن يحدث هذه السنة بالتأكيد.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس