
حوار مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. وسط ترقب حذر من المغرب (والجزائر أيضا)، تتجه إسبانيا نحو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في 23 من يوليو/تموز القادم، وهو الاستحقاق الدستوري الذي ستنبثق من نتائجه الحكومة الإسبانية المقبلة.
وكان رئيس الحكومة الحالي الإشتراكي بيدرو سانشيز قد دعا إلى تبكير موعد التشريعيات، التي كانت مقررة أصلا في أواخر العام الجاري، بعد ظهور نتائج الانتخابات المحلية التي جرت في 28 من الشهر الماضي، والتي أفضت إلى تقدم لليمين واليمين المتطرف على حساب الأحزاب اليسارية وفي مقدمتها “الاشتراكي العمالي” الذي يقود تحالفا حكوميا حاليا.
ولعدة أسباب معقدة ومتداخلة، بينها علاقات مدريد الإشكالية مع كل من المغرب والجزائر، شكلت وتشكل الانتخابات الإسبانية السابقة والمقبلة، رهانا مغاربيا أيضا من حيث تأثيرها في العلاقات مع البلدين الأكبر في الجوار المغاربي لإسبانيا.
في الحوار التالي الذي أجراه “أفريقيا برس” مع المحلل السياسي المغربي باهي العربي النص، نحاول فهم أهم رهانات تلك الاستحقاقات الدستورية الإسبانية، وحدود تأثيرها وتأثرها بالعلاقات مع المغرب. وأيضا ميكانيزمات تَشَكُّل القرار السياسي الإسباني، وخبايا وخلفيات قضايا أخرى راهنة أو مستقبلية ذات الصلة بالعلاقات مع المغرب.

بداية، كيف تقرأ حصيلة الاستحقاق الانتخابي ليوم 28 مايو الماضي بإسبانيا؟
في الحقيقة ورغم أن معظم الملاحظين يرون أنها نتائج مفاجئة إلى حد كبير، وأن الإنتصار الكاسح لأحزاب اليمين واليمين المتطرف بهذه الطريقة وبعد حصيلة جد مقبولة لأداء الحكومة الحالية هو أمر يصعب تفسيره، إلا أنني أجده كان أمرا متوقعا إلى حد ما، لأنه في السنوات الأخيرة عشنا موجة من المد اليميني في مختلف بلدان القارة العجوز.. فهناك ميلوني في إيطاليا، وماكرون في فرنسا، وأوربان في المجر، وحتى البلدان الأسكندنافية على عكس ما عودتنا عليه، عاشت تحولات مشابهة ومباغتة إلى حد ما. ولذلك يبدو لي أن إسبانيا لم تكن استثناء.
لعل من أكثر ما أثار استغراب المراقبين في الحملة الانتخابية الأخيرة في إسبانيا، هي الاتهامات التي وُجِّهت للحزب الاشتراكي بـ “شراء” الأصوات.. ألا تطعن تلك الاتهامات في مصداقية اقتراع الـ 28 من مايو الماضي؟
لا أجد في ذلك غرابة. فالإتهامات قد كانت متركزة حول عدد جد محدود من الدوائر الإنتخابية وتعلقت بعدد متواضع من الأصوات. وهو ما لا يستحق الإلتفات إليه لأنه لا يغير في النتيجة الكثير. لكن بالمقابل، كانت انتصارات اليمين حاسمة وفي كل جهات الجارة الشمالية للمغرب، باستثناء إقليمي الباسك وكاتالونيا، ففي هذين الإقليمين تواجد اليمين تاريخيا هو جد هامشي أو يكاد يكون منعدما. أما الإتهامات فقد إقتصرت على عدد من الأصوات المدلى بها عبر البريد، وفي مدينة أو مدينتين صغيرتين. وهو ما لا يغير الكثير إن أخذ بعين الاعتبار.
من غرائب الانتخابات المحلية الأخيرة في إسبانيا، تصويت قطاع واسع من الجالية المسلمة لحزب Vox فوكس، رغم أنه يتبنى خطابا عنصريا معاديا للمهاجرين. كيف نفهم هذا الواقع المُفارق؟
لا أستطيع تفسير تلك الظاهرة دون الاستعانة بقاموس الطب النفسي. فيبدو أنه نوع من “متلازمة ستكهولم”، إذ لا يعقل أن يصوت مهاجر على حزب جعل من معاداة المهاجرين شعاره الرئيسي، ورفع ضده “قميص عثمان” متهما إياه وذويه [من المهاجرين] مسؤولين عن جميع مشاكل الدولة الإسبانية.
خلال الحملة الانتخابية، شاهدت على التلفزيون أحد نشطاء حزب فوكس [اليميني المتطرف] وهو من أصول أفريقية واضحة، يقول لمناصري حزبه أن إحدى أولويات الحزب، في حالة نجاحه، هو منع غير المنخرطين في الضمان الاجتماعي الإسباني من الاستفادة من التغطية الصحية. فأصابني ذلك بالذهول لأن المستهدف الأول من هكذا إجراء سيكون هم المهاجرين من أمثاله. إن الأمر غريب جدا. فأحيانا تبرر المصالح الشخصية الضيقة عند البعض ما ليس مبررا على الإطلاق.
كمراقب للشأن الإسباني، هل تتوقع أن تُكرس الانتخابات التشريعية المبكرة لـ 23 يوليوز المقبل، عودة اليمين المحافظ إلى قصر المونكلوا؟
فرص اليمين في الظفر بالانتخابات التشريعية القادمة كبيرة جدا، إن لم نقل إنها بالفعل شبه مؤكدة. لكن السؤال الأهم هو: إذا كان اليمين سيحصد من الأصوات ما يكفيه لتشكيل الحكومة، فإن الحزب الشعبي [اليميني المرشح لخلافة الحزب الإشتراكي في الحكم] لا يحظى بدعم كبير في أوساط الأحزاب الصغيرة، كالقوميين الباسك و الكتلانيين وأحزاب منطقتي غاليسيا وحتى جزر الكناري.
ما أريد قوله هو أنه إذا لم يحصل الحزب الشعبي على أغلبية كافية، بعد جمع المقاعد التي سيحصل عليها مع مقاعد حليفه الطبيعي فوكس، فسيصعب عليهما إيجاد حلفاء آخرين. على عكس الحزب الاشتراكي الذي يستطيع التحالف مع معظم الأحزاب الصغيرة، كما فعل خلال الولاية الحالية.
قد ينتصر الحزب الشعبي ويحصد مقاعد كثيرة، لكنها لن تكون بالضرورة كافية لإيصاله إلى رئاسة الحكومة القادمة. وهو ما يتيح لبيدرو سانشيز فرصة للظفر بالرئاسة مدعوما بفسيفساء من الأحزاب.
هل يمكن لنا القول إن الحزب الاشتراكي الإسباني عُوقب انتخابيا، بسبب قيامة بتغيير جذري في موقف إسبانيا من قضية الصحراء؟
لا أعتقد أن تغييره للموقف التقليدي لإسبانيا (الحياد السلبي) كان عاملا حاسما فيما حدث. فالناخب الإسباني لديه أولويات أخرى غير السياسة الخارجية لبلاده. وفي الحقيقة روج الحزب كثيرا للعلاقة مع المملكة المغربية، خلال الحملة الانتخابية وحاولت وسائل الإعلام الإسبانية إلصاق صورة “الخاضع لرغبات وإملاءات المغرب” ببيدرو سانشيز. وروجت كثيرا لعدم حصوله على أي مقابل من المغرب بعد تغييره الشجاع للموقف التقليدي لإسبانيا من قضية الصحراء. لكن التأثير الحقيقي لهذه الأمور على الناخب الإسباني جد هامشي.
هناك ملفات أخرى كان لها الدور الأبرز، كتحالف الحزب الاشتراكي مع “بوديموس” [حزب أقصى اليسار] ومع القوميين الباسك.
تترقب كل من الرباط والجزائر بالكثير من التوجس والقلق، ما ستسفر عنه الانتخابات التشريعية المبكرة المقبلة. هل تتوقع أن ينقلب الحزب الشعبي —في حال عودته إلى الحكم— على موقف مدريد بشأن قضية الصحراء؟
حتى إذا تحقق سيناريو قدرة اليمين على تشكيل الحكومة القادمة، و أصبح “فويخو” [زعيم الحزب الشعبي الإسباني] رئيسا لها، لا أتوقع إطلاقا تغييرا جوهريا في الموقف الإسباني. علينا ألا ننسى أن تغيير الموقف جاء استجابة لمصالح الدولة الإسبانية، وبعد دراسة عميقة للمتغيرات التي حدثت مؤخرا في المنطقة. وهذا لن يتغير بتغير الحكومة الإسبانية. قد لا تتصف العلاقات بين إسبانيا والمغرب بالحميمية والانسيابية، لكنها في الجوهر محكومة بمصالح مشتركة قوية ومؤمنة بملفات مشتركة، لن يتجرأ أي كان على المساس بها.
جرت العادة أن يجد المغرب راحته أكثر عندما يكون الحزب الاشتراكي الإسباني في الحكم. هل تتوقع في حال فوز اليمين في التشريعيات القادمة، أن تشهد العلاقات بين البلدين أزمات جديدة حول ملفات شائكة، كالهجرة وسبتة ومليلية المحتلتين وترسيم الحدود البحرية والجوية؟
إذا ما استثنينا فترة حكم خوسي ماريا أزنار [1996-2004] والأزمة التي قامت حول جزيرة ليلى بين إسبانيا والمغرب، نستطيع القول إن علاقات المملكة المغربية مع الحزب الشعبي الإسباني لم تكن بذلك السوء. لكن الجديد الآن هو الدور السلبي الذي قد يلعبه حزب فوكس ومدى تأثيره على تلك العلاقات.
بالتأكيد أن السياسة الخارجية ستبقى دائما في يد الحزب الرئيسي في الحكومة المقبلة، أي الحزب الشعبي، بيد أن شريكه المتطرف [حزب فوكس القومي المتشدد] سيثير من حين لآخر ملفات شائكة في العلاقة بين البلدين، كسبتة ومليلية والعداء للأجانب.
حتى هذا الأمر إذا ما حدث فلن يكون مستجدا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الحكومة الحالية بدورها كانت تضم حزبا لا يبادل المملكة الكثيرة من الود، هو حزب أقصى اليسار (بوديموس). وعلى الرغم من ذلك تمكن الاشتراكيون [الذين يقودون الحكومة] من الحفاظ على علاقة ممتازة مع الرباط.
احتج المغرب قبل أيام على ما اعتبره “انزلاقا” من قبل الاتحاد الأوروبي، في موضوع سبتة ومليلية المحتلتين. هل نجحت مدريد في الاستقواء بالاتحاد للضغط على المغرب؟
لا أعتقد ذلك، ففي النهاية سلطة الاتحاد الأوروبي تبقى جد محدودة في مجال العلاقات الخارجية للبلدان الأعضاء. ولذلك أتصور أن ما حدث مجرد تمرير لرسائل متبادلة بين الجانبين، في ظرف جد حساس.
من جانب آخر، من المعروف أنه على عكس ما هو حاصل في باقي الديمقراطيات الأوروبية، فإن النخب العسكرية والأمنية الإسبانية لها كلمتها العليا في صنع القرارات الإستراتيجية في إسبانيا.. كيف تقرأ أدوارها في سياق العلاقات غير المستقرة بين مدريد والرباط؟
فعلا. المعروف أن الديمقراطية في إسبانيا، بصفة عامة، هي وريثة للفرانكوية. والفرانكوية للتوضيح هو الحكم العسكري اليميني الذي كان حليفا للكنيسة [حكم إسبانيا بين سنتي 1939 و1975]. وهو نفسه من قاد العملية الانتقالية نحو التحول الديمقراطي، إلى حد ما على مقاسه؛ حيث وضع دستورا حديثا يضمن الكثير من الحريات وإلى حد ما تعددية سياسية. لكنه قوى بالمقابل من نفوذ السلطات النافذة، وعلى رأسها الجيش الإسباني.
وهكذا، بقي الجيش متحكما من خلال تحكمه في المؤسسة العسكرية، وتحكمه حتى في المؤسسة الأمنية، لأن الأمن هو سليل المؤسسة العسكرية الإسبانية وليس مؤسسة مستقلة، فهو خرج من رحم المؤسسة الدفاعية. بالإضافة إلى تحكم المؤسسة العسكرية في اليمين القومي الإسباني، وفي مؤسسات أخرى مثل القضاء. فليس سرا أن معظم القضاة الإسبان —إلى حد الساعة—ينتمون إلى المحيط الفرانكاوي، وأنا أعرف قاضيا هو ابن ضابط إسباني فرانكاوي خدم بمدينة العيون، وشغل رئيسا للمحكمة العليا بمدريد إلى أن استقال قبل مدة ليست بالبعيدة.
إن قوة المؤسسة العسكرية الإسبانية حاضرة في القرار السياسي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاستراتيجية للدولة الإسبانية (وضع سياسة الدولة، وعقيدتها، والتعامل مع أعدائها المفترضين، الخ). وهنا تدخل العلاقة في مع المغرب بنوع من التناقض…
على ماذا ينطوي هذا التناقض؟
من مصلحة الدولة العميقة في إسبانيا ومؤسستها العسكرية أن تكون علاقات بلادها مع المغرب انسيابية. ولكن في نفس الوقت، تنبني عقيدتها على أساس أعداء مفترضين من بينهم —إن لم يكن في طليعتهم— المملكة المغربية. وذلك بسبب الاحتكاكات حول سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، وبسبب المشاكل حول المياه الإقليمية بين البلدين، والثروات الكامنة بأعماق المناطق البحرية المتنازع عليها بين البلدين، والكثير من الملفات الأخرى التي تغذي التوجس القائم والمتبادل بين البلدين.
لكن على الرغم من أن المؤسسة العسكرية الإسبانية هي أقرب إلى اليمين، فإن نفوذها لا ينقص عندما يكون الحزب الاشتراكي العمالي في السلطة. وسأسوق لك مثالا بسيطا بهذا الصدد: وزيرة الدفاع [مارغريتا روبليس] في حكومة بيدرو سانشيز [الحالية]، على الرغم من أنها ارتدت عباءة الحزب الاشتراكي الحاكم، إلا أن الجميع في إسبانيا يعلم أنها يمينية في مواقفها، ومقربة من جنرالات المؤسسة العسكرية، ولا علاقة لها البتة باليسار. ولذلك كانت إحدى مشاكل بوديموس [أقصى اليسار شريك للحزب الاشتراكي في حكومة سانشيز] هي وجود تلك الوزيرة القوية [مارغريتا روبليس]؛ حيث لا يتردد مناضلو حزب بوديموس بوصفها بـ “الجنرال الفرانكاوي في الحكومة الاشتراكية”.
كيف يؤثر ذلك على العلاقة مع المغرب؟
مما أسلفت ذكره، يظهر بأن نفوذ المؤسسة العسكرية الإسبانية لم يتراجع حتى في فترة حكم الاشتراكي بيدرو سانشيز. وبالتالي، فإنه على الرغم من أن الحكومة اليمينية القادمة المفترضة، ستكون أقرب إلى الدولة العميقة والمؤسسة العسكرية، فلا يُتوقع أن يتغير شيء. فهامش الاختلاف بين الأحزاب الإسبانية لا يطال القضايا والملفات الاستراتجية، ومن ضمنها وعلى رأسها العلاقة مع المملكة المغربية. وبالإضافة إلى التوجس من المغرب بسبب الملفات الخلافية التي سبق أن ذكرتها، فإنهم أصبحوا يظهرون توجسا من العلاقات القوية التي تربط المملكة المغربية بكل من الولايات المتحدة وإسرائيل. فقد شعروا بأن القوى العظمى التي يعتبرونها حليفة لهم، ربما قد تكون أصبحت أقرب إلى المغرب منه إلى إسبانيا وهذا دق عندهم ناقوس الخطر.
وبالفعل، دور إسبانيا مختلف عن دور المغرب. فالهدف خلال السنوات القادمة سيكون هو القارة الأفريقية، وبالتالي الدور الذي يمكن أن تلعبه المملكة المغربية بهذا الصدد بالنسبة إلى أمريكا وحلفائها، أهم بكثير من أي دور يمكن أن تلعبه دولة من القارة الأوروبية بينها نحو عشرين دولة أخرى بينها من هي أقوى حتى من إسبانيا.
وهذا يشكل هاجسا قويا للنخبة العسكرية الإسبانية، ينكشف من خلال دراساتهم وبحوثهم ويفضح التناقض الذي توجد فيه المؤسسة العسكرية والذي ينطوي، من جهة، على ضرورة حفاظ بلادهم على علاقلات قوية وانسيابية مع المغرب. ومن جهة أخرى، طغيان التوجس الدائم الذي بنيت عليه عقيدتهم العسكرية وفكرهم الاستراتيجي في الجارة الشمالية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس