أفريقيا برس – المغرب. يوم أمس الجمعة 8 غشت 2025، لم تقتصر فرحة خديجة راميم على الاحتفال بذكرى زواجها، بل اتخذت المناسبة طابعاً أعمق، إذ أعادت إليها شريط ذكريات امتد لما يقارب نصف قرن. ومن خلال اتصال هاتفي مع “يابلادي”، فتحت قلبها لتروي حكايتها التي انطلقت من إنزكان وصولاً إلى مدينة مولوز الفرنسية، حيث عاشت 49 عاماً من العمل الإنساني وحماية التراث الأمازيغي، دون أن تنقطع يوماً عن جذورها الأولى.
ولدت خديجة وترعرعت في إنزكان، وفي الـ 16 من عمرها، وبينما كانت تواصل دراستها الإعدادية، تزوجت وانتقلت للعيش في مدينة مولوز (شمال شرق فرنسا على مقربة من الحدود السويسرية والألمانية). رغم صغر سنها، كانت تتقن الفرنسية منذ وصولها، بفضل تعليمها في المغرب على يد أساتذة فرنسيين، مما سهل اندماجها في مجتمع جديد لم يكن غريبا عليها لغويا، لكنه كان مختلفا تمامًا ثقافيا. وقالت خلال حديثها معنا “في المغرب كنت تلميذة جيدة، وفي ذلك الوقت كنا نتلقى تعليمنا على يد فرنسيين”.
من العمل التطوعي إلى قيادة جمعية للهوية الأمازيغية
في سنواتها الأولى بفرنسا، كرّست وقتها لتربية أبنائها الأربعة، لكنها لم تكتفِ بدور الأم فقط؛ إذ انخرطت في العمل التطوعي بإحدى المدارس، حيث قدمت أنشطة مستوحاة مما تعلمته في إنزكان: صناعة الحلي، الكروشيه (الخياطة)، وبعض الرقصات الأمازيغية. تلك المبادرات فتحت لها أبواب مركز ثقافي عام 1985، عرض عليها الانضمام لتعليم ما تتقنه وأيضا تدريس اللغة العربية، إلى جانب تعليم القراءة والكتابة للمغتربات اللواتي لم تتح لهن فرصة التعلم من قبل.
لكن شغفها بالعمل المجتمعي دفعها للتطور أكثر، فقررت خوض تكوين مهني للحصول على دبلوم كمنشطة، لتتعلم أسس التعامل الاحترافي مع الشباب، والقوانين المنظمة للمجال، وهي المعرفة التي لم تكن تملكها حين كانت متطوعة. وتحكي قائلة “لم أكن أعرف أساسيات المهنة، وهو ما تعلمته لاحقا بشكل مهني”
خلال مسيرتها، لاحظت خديجة البالغة اليوم 65 عاما، أن كثيرا من المغاربة ذوي الأصول الأمازيغية في فرنسا يفتقرون للمعرفة العميقة بثقافتهم، فقررت أن تكون جسرا يصلهم بها. عام 2005، وبالصدفة الجميلة، التقت بمغربية من تافراوت تتقاسم معها الحلم نفسه، فأسستا معا جمعية Franco Amazigh، في وقت لم تكن فيه جمعيات مغربية تهتم بالثقافة الأمازيغية في المدينة. ضمت الجمعية أعضاء مغاربة وفرنسيين يعشقون المغرب وثقافته، وكانت خديجة تصر على تقديم الثقافة المغربية أولا، ثم الأمازيغية. استثمرت خديجة إرثا ثمينً تركته لها جدة والدتها، وهو موروث من الحلي الأمازيغي، فجعلته جزءا من أنشطة الجمعية.
“في الجمعية عرضت الأزياء التقليدية، والطبخ، والموسيقى، والحلي، كما شجعت نساء الجالية على المساهمة بما يملكن من أوان وزرابي قديمة، ليكون العرض غنيا وملونا بذكريات الوطن، والثقافة الأمازيغية”. خديجة راميم
ولإيصال موروثها من الثقافة الأمازيغية بشكل صحيح، بحكم أنها غادرت منطقتها وهي صغيرة، حرصت خديجة على الاستعانة بعائلتها، خاصة والدها ووالدتها، على تزويدها بالمعرفة. “كان والدي، رحمه الله عليه، يرافقني إلى القرى ويحكي لي القصص عن الأمازيغ وموروثهم، بينما ساعدتني والدتي، التي تنحدر من با عمران، وأعمامي وعماتي على اكتشاف المزيد”.
شيئا فشيئا، توسعت اهتماماتها نحو العمل الخيري، وبدأت بمسقط رأس والدها في إداوتنان، حيث عاينت الفقر المدقع وغياب أبسط مقومات الحياة، وعلى رأسها الماء الصالح للشرب. كما لاحظت عزوف بعض الأسر عن تعليم الفتيات، فكانت تسافر بنفسها لتوعية الآباء بأهمية تعليم بناتهم، رافضة أن يكون زواجها المبكر مبررا لتكرار التجربة. تقول بفخر “أقنعت العديد من الآباء، واليوم أتلقى رسائل من نساء أكملن دراستهن وأصبحن أستاذات أو عاملات في مهن مختلفة، وأحيانا أبكي فرحا وأنا أقرأ تلك الرسائل”. وتعترف خديجة أن نجاحها في حياتها رغم زواجها في سن مبكرة، لا يعني أنها تشجع الفتيات على ذلك بل تشجع أكثر على مواصلة مشوارهن الدراسي.
وبدأت جمعية الناشطة المغربية، تتوسع أكثر فأكثر، وأصبحت خديجة تتعاون مع جمعيات مغربية أخرى لمساندة الأمهات العازبات، ومساعدة التلاميذ على اقتناء لوازمهم المدرسية، وتوفير الكراسي المتحركة للمحتاجين، قبل أن يمتد نشاطها إلى مناطق أخرى عبر حفر الآبار وإصلاح الطرقات لتمكين الأطفال من الوصول إلى المدارس.
تنحدر خديجة من أسرة متواضعة؛ والدها كان طباخا في مستشفى إنزكان لمرضى السل، وهو من أكبر مستشفيات المغرب آنذاك، ولم يلتحق بالمدرسة أبدا. أما والدتها فقد تلقت تعليمها على يد الفرنسيين خلال فترة الاستعمار. زوجها، ابن أكادير، فقد عائلته في زلزال المدينة، وانتقل صغيرا إلى إنزكان ليعيش مع عمه، ثم إلى الدار البيضاء حيث التحق بالتكوين المهني، قبل أن تفتح له فرنسا أبوابها ضمن موجة استقدام اليد العاملة. تقول خديجة “ولدت في اليوم نفسه الذي فقد فيه زوجي والده وعددا من أقاربه في الزلزال”. المدمر الذي ضرب أكادير يوم 29 فبراير 1960.
تمكين النساء في المهجر
بجانب نشاطها الجمعوي، تعمل خديجة مساعدة اجتماعية، تساند النساء المغربيات في الاندماج بسوق العمل الفرنسي، وتشجع الشابات على استثمار شهاداتهن العليا بدل الاكتفاء بأعمال التنظيف، مع تأكيدها على احترام كل المهن.
“أنا لا أحتقر مهنة التنظيف أو أي عمل يمكن القيام به دون الحاجة إلى شهادة، فقد مارست هذا النوع من العمل لسنوات هنا في فرنسا. لكنني في الوقت نفسه، لا أشجع الشابات والنساء المتمدرسات والحاصلات على شهادات عليا على الاكتفاء به، إذ أرى أن مؤهلاتهن العلمية تستحق أن تُستثمر في مجالات تتناسب مع طموحاتهن وإمكاناتهن”
خديجة راميم كما تلقت خديجة تكوينا في السوفروولوجيا (Sophrologie)، تمارسه مجانا لمساعدة النساء على تجاوز أزماتهم النفسية، مؤمنة بأن الراحة النفسية أساس أي إنجاز. تقول “السعادة معدية، وأحيانا أنسى ما قدمته حتى ألتقي بمن تشكرني على تغيير حياتها، سعادتي حقا تكمن في إسعاد الآخرين”
ولأن الثقافة جزء لا يتجزأ من رسالتها، نظمت جمعيتها رحلات لأطفال من أسر أمازيغية إلى إمسوان، لتعريفهم بجذورهم، “أردت ربطهم أيضا بثقافتهم الأم، واليوم باتوا يزورون كل عام عددا من المناطق في النواحي ويفتخرون أكثر وأكثر بثقافتهم”
تحلم خديجة التي حظيت عام 2015 بتكريم من عمالة مولوز كامرأة استثنائية ضمن نساء تركن بصمتهن في المجتمع، وهو تكريم تعتز به في مسيرتها، ببناء مدارس في القرى المغربية وإنشاء مراكز ثقافية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس