الملك محمد السادس يستحضر دور “هيئة الإنصاف والمصالحة” في القطع مع انتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب

4
الملك محمد السادس يستحضر دور “هيئة الإنصاف والمصالحة” في القطع مع انتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب
الملك محمد السادس يستحضر دور “هيئة الإنصاف والمصالحة” في القطع مع انتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب

أفريقيا برس – المغرب. وجّه العاهل المغربي محمد السادس رسالة إلى المشاركين في المناظرة الدولية التي انطلقت الجمعة في العاصمة الرباط، حول موضوع “العدالة الانتقالية: من أجل إصلاحات مستدامة”.

وفي الرسالة الملكية التي تلتها آمنة بوعياش، رئيسة “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، اعتبر الملك محمد السادس تخليد ذلك الحدث الهام في تاريخ المغرب المعاصر “مناسبة سانحة للتذكير بأهمية ووجاهة هذه المحطة البارزة التي شكلت منعطفا حاسما في مسار التحول الديموقراطي والتنموي بالبلاد، باعتبارها لبنة أساسية ضمن أسس البناء والانتقال الديموقراطي، وتوطيد دولة الحق والقانون والمؤسسات وحماية الحريات”.

وأوضح أن “العدالة الانتقالية في المغرب اعتمدت مقاربة متبصرة ورزينة، تتسم بالشفافية والموضوعية”، مشيرا إلى أن المناسبة “فرصة لتذكير الأجيال الحالية والمقبلة، بما راكمته المملكة المغربية من إصلاحات ومصالحات، في إطار من التوافق والجرأة في قراءة تاريخنا وماضينا، دون عقد أو مركب نقص”، وفق ما جاء في الرسالة الملكية.

وتعتبر تجربة “العدالة الانتقالية” في المغرب نموذجا فريدا في العالم العربي والإسلامي، حيث جمعت بين كشف الحقيقة والإنصاف وتعزيز المصالحة في إطار نظام ملكي وإصلاح تدريجي. وبدأت هذه التجربة مع إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة” في عام 2004، وذلك بناءً على توجيهات العاهل محمد السادس، وكان الهدف الأساسي معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت خلال ما سمّي بـ”سنوات الجمر والرصاص” (1956-1999).

وأنيطت بالهيئة مهام التحقيق في الانتهاكات الجسيمة مثل الاختفاء القسري والتعذيب والاعتقالات التعسفية، وجمع الشهادات من الضحايا وأسرهم، وتقديم توصيات لتعويض الضحايا وضمان عدم تكرار الانتهاكات، فضلا عن تعزيز “المصالحة الوطنية” عبر الكشف عن الحقيقة والاعتراف بما حدث.

وعقدت “هيئة الإنصاف والمصالحة” جلسات استماع علنية في عدة مدن مغربية، جرى بث بعضها عبر التلفزيون الرسمي، ما شكل لحظة تاريخية في المغرب، إذ أتاحت للضحايا فرصة سرد قصصهم علنا ومشاركة معاناتهم مع الجمهور. ومن أجل جبر الضرر، قدمت الهيئة تعويضات مالية ومعنوية للضحايا وعائلاتهم، كما أوصت بإجراءات لإعادة تأهيل الضحايا، بما في ذلك الإدماج الاجتماعي والتكفل الصحي. وأوصت كذلك بإصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية لضمان احترام حقوق الإنسان، داعية إلى تعزيز الحريات العامة واستقلال القضاء ومراجعة السياسات الأمنية.

وقال العاهل المغربي في الرسالة الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الدولية حول “العدالة الانتقالية”: “إن قرارنا بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، استمرارا للهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، التي كان قد أحدثها والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، كان قرارا سياديا ضمن مسار طوعي لتدبير الشأن العام، يقوم على مفهوم جديد للسلطة، وعلى مسؤولية المؤسسات ومحاسبتها، لضمان كرامة كل المغاربة”.

وأضاف أن ذلك القرار “كان يهدف أساسا، علاوة على تحقيق المصالحة الوطنية ومعالجة انتهاكات الماضي، إلى جعل العدالة الانتقالية ضمن أولويات خيار الانتقال الديمقراطي، حيث تبلورت لدى المغاربة حينها، دولة ومجتمعا، رؤية استباقية لعمق التحولات التي دخلها العالم نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولأهمية القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ضمن الاختيارات السياسية الاستراتيجية”.

وأكد أن “العدالة الانتقالية” في المغرب استندت على أسس صلبة، منها التاريخية المرتبطة بخصوصية الشخصية المغربية، ومنها المجالية والجغرافية. وكان هدفها الأساسي -كما أوضح العاهل المغربي- الاهتمام بكل الضحايا، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، والانكباب على كل الانتهاكات المرتبطة بحقوق الإنسان، من السنوات الأولى للاستقلال، إلى تاريخ إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة.

وأشار إلى أن هذا الجهد “مكّن من تحديد وتحليل كافة أشكال وأوجه الانتهاكات التي شهدها المغرب في الماضي، كيفما كان نوعها وحجمها، والقيام بالتحريات الميدانية والتحقيقات اللازمة، وتنظيم جلسات استماع عمومية في المدن والقرى، وأخرى لاستقاء الشهادات، بهدف كشف الحقيقة المتوفرة، وجبر الأضرار الفردية والجماعية، مع مراعاة بُعد النوع، وبالتالي تعزيز المصالحة بين المجتمع المغربي وتاريخه”.

ولفت الملك محمد السادس الانتباه إلى أن “أحد أكثر الجوانب المميزة للتجربة المغربية هو انخراط المجتمع المدني، بكل أطيافه، في بلورة وإنجاح العملية، حيث كان لقرار العدالة الانتقالية الفضل في فتح الفضاء العام أمام نقاشات عمومية، وحوارات مجتمعية، حول مختلف الإصلاحات والقضايا الجوهرية التي تحظى باهتمام الرأي العام الوطني”.

واستطرد قائلا إن “العدالة الانتقالية، بمبادراتها المتعددة والمتواصلة، أسهمت في تعزيز الوعي الجماعي بشأن مناهضة انتهاكات حقوق الإنسان، حيث جرى استخلاص الدروس من هذه التجربة، والتأكيد على ضرورة مواصلة ترسيخ أسس دولة القانون، بما يضمن احترام الحقوق والحريات وحمايتها، ويوازن بين الحق في ممارستها، بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، والتقيد بالنهوض بالواجبات”.

وجاء في الرسالة الملكية أيضا أن مسيرة العدالة الانتقالية في المغرب “شكّلت تجربة متفردة ورائدة، أحدثت طفرة نوعية في المسار السياسي الوطني، ومكّنت من تحقيق انتقال ديمقراطي سلس ومتوافق بشأنه، وإقرار ممارسات فضلى على درب استكمال بناء أسس دولة الحق والمؤسسات”، وتابعت الرسالة أنه من خلال توصيات “هيئة الإنصاف والمصالحة” تسنّى “وضع إطار ناظم لإصلاحات مجتمعية واسعة، بما فيها الدستورية والتشريعية، وإنشاء آليات تشاورية ومؤسساتية، بهدف القطع مع انتهاكات الماضي، وترسيخ تدبير عمومي يعتمد قواعد دولة الحق والقانون، وإبراز ديناميات مجتمعية متجددة”.

ومن هذا المنطلق، يقول العاهل المغربي: “حرصنا على أن نعطي لحقوق الإنسان، في الدستور وفي القوانين وفي السياسات العمومية مدلولها الواسع الذي يمتد من السياسي إلى البيئي، مرورا بالاقتصادي والاجتماعي والثقافي. كما أحدثنا المؤسسات والآليات الدستورية الضرورية لحماية حقوق الإنسان في أبعادها المختلفة”.

وتابع: “كان حرصنا الشخصي، وفي الميدان، على إعمال مفهوم العدالة المجالية في السياسات الإنمائية، ودمج مفهوم جبر الضرر الجماعي في خططنا الإنمائية، ورفع التهميش عن المناطق والمجالات التي لم تستفد من التنمية، بالقدر المطلوب والممكن، ومن عائد التقدم الذي تحققه المملكة المغربية”.

وأوضح أن الأمر يتعلق بـ”مصالحات كبرى مع التاريخ ومع المجال”، مؤكدا أن “هذا الحرص مكّن عددا من مناطق المغرب التي كانت تعاني من نقص كبير في التنمية، من تدارك هذا النقص، بل إن من بينها ما أصبح نموذجا في التنمية المجالية”.

وقال: “العالم اليوم، والمراقبون الموضوعيون، يشهدون بثمار النموذج التنموي الجاري تنفيذه في الأقاليم الجنوبية، في إطار التضامن والتكامل والعدالة المجالية بين أقاليم المملكة، إذ تغير وجه أقاليمنا المسترجعة نحو الأفضل، وأصبحت منطقة جاذبة للاستثمارات، وهي اليوم تزخر بالمشاريع التنموية والمنشآت والتجهيزات الكبرى”.

يذكر أن نتائج تجربة “العدالة الانتقالية” في المغرب ساعدت على فتح صفحة جديدة في التاريخ المغربي، حيث جرى الاعتراف بالانتهاكات وتعويض الضحايا، كما أفضت إلى إصلاحات قانونية ومؤسسية، ما عزز المسار الديمقراطي في المغرب.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس