إجراءات صارمة ضد رؤساء بلديات لمكافحة الفساد

1
إجراءات صارمة ضد رؤساء بلديات لمكافحة الفساد
إجراءات صارمة ضد رؤساء بلديات لمكافحة الفساد

أفريقيا برس – المغرب. اعتبر باحثون وحقوقيون مغاربة، أن تقرير وزارة الداخلية حول عزل ومتابعة عدد من المنتَخبين والموظفين، يجسد تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وترسيخ دولة القانون والشفافية في تدبير الشأن المحلي. وأجمعت التصريحات التي استقتها “القدس العربي” على أن هذه الحملة تمثّل خطوة مهمة لمحاربة الفساد وحماية المال العام، مع الدعوة إلى توسيع المتابعات لتشمل جميع المتورّطين، وتعزيز الرقابة والتصريح بالممتلكات، وترسيخ ثقافة سياسية جديدة تجعل من النزاهة واحترام القانون أساسًا لتحمل المسؤولية وبناء دولة المؤسسات.

في هذا الصدد، كشف تقرير لوزارة الداخلية عن تسجيل 302 متابعة قضائية في حق أعضاء الجماعات الترابية (البلديات)، من بينهم 52 رئيس بلدية، و57 نائبا للرئيس، و124 مستشارا، و69 رئيسا سابقا، بسبب مخالفات قانونية ومالية وإدارية.

وأوضح التقرير أن المديرية العامة للجماعات الترابية (البلديات) تتولى مراقبة جميع القضايا المتعلقة بالمنتخبين المعروضين أمام القضاء، وتتابع أثر الأحكام على وضعيتهم الانتدابية، بما في ذلك التشطيب على أسمائهم من اللوائح الانتخابية ومنعهم من ممارسة مهامهم. كما استقبلت الوزارة خلال سنة 2025 ما مجموعه 291 شكاية من أعضاء مجالس وجمعيات مدنية ومواطنين، تتعلق بتجاوزات مالية وإدارية وعمرانية، أو بحالات ربط المصالح الخاصة بالمصالح الجماعية. وتمت إحالة هذه الشكايات على المفتشية العامة للإدارة الترابية، وكذلك على ولاة الجهات (وهم المسؤولون عن عدة محافظات) وعمال الأقاليم (المحافظون) للتحقيق فيها واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

وأشار التقرير الذي عُرض على لجنة الداخلية في مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي)، إلى أن المديرية العامة أصدرت دوريات موجهة لرؤساء المجالس المحلية لتوضيح المساطر القانونية المتعلقة بتنازع المصالح، وتحديد حالات العزل، وتذكير المنتخبين بضرورة احترام مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص. وأكدت الوزارة أن المراقبة لا تستهدف التضييق على المنتخبين، وإنما تهدف إلى ضمان التدبير السليم للشأن المحلي وحماية المال العام.

وأسفرت المتابعات عن إصدار قرارات وزارية بإقالة 63 عضوًا من مهامهم، بينهم 20 رئيس جماعة (بلدية)، و36 نائبًا للرئيس، و7 أعضاء بالغرف المهنية. كما توصلت الوزارة بـ216 طلبًا لإحالة حالات عزل على المحاكم الإدارية، التي أصدرت أحكاما نهائية في عدد منها. وأشار التقرير إلى حل ثمانية مجالس محلية بسبب إخلالات جسيمة أثرت على مصالح السكان، إضافة إلى معالجة 18 ملفا تتعلق بحقوق المنتخبين الأساسية. كما جرى إصدار 28 قرارا بإعلان استقالة أعضاء من المجالس الإقليمية بسبب العزل أو الحل أو الوفاة، إلى جانب قرارين بإقالة رئيس ونائب رئيس بلدية ثبتت إقامتهما خارج المغرب.

ترسيخ دولة الحق والقانون

في هذا السياق، قال الأستاذ الجامعي المصطفى منار، من جامعة محمد الخامس في الرباط، إن ما كشفت عنه وزارة الداخلية “يعكس بوضوح تفعيل المبادئ الدستورية التي تجعل من المسؤولية تكليفًا لا تشريفًا، وتربطها بالمحاسبة الصارمة”.

وأوضح في تصريح لـ”القدس العربي” أن دستور 2011 جاء لترسيخ دولة الحق والقانون وتعزيز المساواة وتكافؤ الفرص، خاصة بعد موجة الاحتجاجات التي شهدها المغرب في سياق ما عُرف بـ”الربيع العربي”، وما رافقها من مطالب اجتماعية وسياسية لمكافحة الفساد والاستبداد.

ويرى منار أن الأرقام الواردة في التقرير “تجسّد الإرادة السياسية في تخليق الحياة العامة، والالتزام بالتطبيق الصارم لمبدأ المحاسبة”. وأضاف أن قرارات العزل والإحالة على القضاء “تندرج ضمن حملة وطنية شاملة لضمان الشفافية والنزاهة في تدبير المال العام”.

وأوضح الباحث أن أهداف هذه الحملة تتمثل في “الحدّ من تدخل المنتخبين في مهام الإدارة الجماعية (البلديات)”، و”محاربة استغلال النفوذ لتحقيق مصالح شخصية”، و”تعزيز النزاهة وتكافؤ الفرص”، ثم حماية الموظفين بالبلديات من الضغوط والتدخلات غير القانونية.

وأكد أن “هذه الحملة مؤشر إيجابي للرأي العام ورسالة واضحة بأن تدبير الشأن المحلي أصبح مسؤولية قانونية وأخلاقية”، معتبرا أنها فرصة لإعادة الثقة إلى الشباب ودفعهم للمشاركة في تسيير الشأن العام في إطار من الشفافية والمساءلة.

من جهته، اعتبر محمد الغلوسي، رئيس “الجمعية المغربية لحماية المال العام”، متحدثا لـ”القدس العربي”، أن تحريك المتابعة القضائية في مجال مكافحة الفساد هو مسألة مهمة وأساسية، ويتجاوب مع مطالب المجتمع الذي ظلّ يكرر ضرورة القطع مع الفساد ونهب المال العام، ومحاكمة كل من تورط في هذه الجرائم.

وسجل الغلوسي، من جهة أخرى، ملاحظات حول الموضوع، إذ أشار إلى أن إحالة ملفات تتعلق بمنتخبين وموظفين لا يكفي اليوم، إذ قد يُنظر إليها على أنها تعاطٍ انتقائي مع ظاهرة الفساد كقضية أو كمشكلة نسقية وبنيوية.

كما أبرز أن مطالب هيئته الحقوقية “تتعلق بضرورة القطع مع الفساد ونهب المال العام والإثراء غير المشروع”، من خلال “وضع منظومة قانونية منسجمة مع المواثيق الدولية، قادرة على التصدي للفساد والرشوة، وفي الوقت نفسه توسيع أو تفعيل أدوار المؤسسات الدستورية المعنية، بما فيها مؤسسات الحوْكَمة والسلطة القضائية”.

وأضاف الغلوسي أن تحريك المتابعات القضائية يجب ألا يقتصر على المنتَخبين والصغار من الموظفين، بل يشمل أيضًا المسؤولين الكبار، أي كل الأشخاص المتورطين في قضايا الفساد ونهب المال العام والإثراء غير المشروع، انسجاما مع الفصل 6 من الدستور الذي ينص على أن الجميع سواسية أمام القانون، بما في ذلك السلطات العمومية.

تحصين المؤسسات المنتَخبة

بدورها، ثمّنت إيمان غانمي، رئيسة “المرصد المغربي لحماية المال العام”، ما وصفته بـ”الجهود الجادة والمتنامية” لوزارة الداخلية في “تكريس سيادة القانون وتحصين المؤسسات المنتخبة من مظاهر الانحراف والتجاوز”.

وقالت في تصريح لـ”القدس العربي” إن التقرير “يعكس إرادة قوية لمواصلة الإصلاح المؤسساتي والإداري للجماعات الترابية، من خلال تتبع دقيق لحالات المتابعات القضائية، وتفعيل مساطر العزل عند الاقتضاء، والتعامل الصارم مع حالات تنازع المصالح واستغلال النفوذ”.

وأضافت أن التقرير “يجسد التزام الوزارة بمبادئ الشفافية والإنصاف، ويعزز ثقة المواطن في المرفق العام”، مشيدة بانفتاح الداخلية على المقاربة القانونية والقضائية في معالجة الملفات، وبالتفاعل الإيجابي مع شكايات المواطنين ومنظمات المجتمع المدني.

واعتبرت غانمي أن نشر الأرقام والمعطيات بشكل علني “يمثل تطورا مؤسساتيا مهما في إدارة المال العام، ويعكس انسجاما مع التوجيهات الملكية بضرورة حماية المال العمومي وتخليق الحياة السياسية”.

ودعت إلى “تعزيز الموارد البشرية للمفتشية العامة للإدارة الترابية وتوسيع صلاحياتها الرقابية، ودعم التنسيق بين وزارة الداخلية وهيئات الحَوْكَمة الوطنية”، إضافة إلى “تعميم التصريح بالممتلكات وتضارب المصالح على جميع المنتَخبين المحليين”، وفرض تكوين إلزامي في الأخلاقيات العامة قبل تولي أي مسؤولية انتدابية.

ربط المسؤولية بالمحاسبة

أما الباحث في العلوم السياسية عبد الحكيم قرمان، فاعتبر أن المقاربة التي تبنتها وزارة الداخلية “تعكس التزام الدولة بمبدأ المشروعية والشفافية، وتجسد دور المؤسسات في مراقبة العمل الجماعي”.

وأوضح أن ممارسة المسؤولية الانتدابية “لم تعد امتيازا سياسيا بل مسؤولية قانونية وأخلاقية محكومة بالقانون والمحاسبة”. وبيّن قرمان أن التقرير يستند إلى فصول دستورية عدة، موضحا أن المقاربة ترتكز على ثلاثة محاور، أولها وقائي عبر التوعية القانونية وتوجيه المنتخبين، والثاني زجري من خلال إحالة الملفات على القضاء. أما المحور الثالث فتصحيحي يتمثل في إجراءات العزل والحل لضمان استمرارية المرافق العمومية.

وأكد الباحث أن العلاقة بين وزارة الداخلية والمحاكم الإدارية تجسد “مبدأ فصل السلطات وتكاملها”، حيث تقتصر الوزارة على الإحالة والمتابعة الإدارية، فيما تبتّ المحاكم في القضايا بحياد واستقلالية، مما يعزز ثقة المواطنين في العدالة ويكرّس مبدأ المساواة أمام القانون.

واعتبر قرمان أن هذه الدينامية الإصلاحية في تدبير الشأن المحلي “تشكل خطوة متقدمة في ترسيخ مبادئ الحَوْكَمة الجيدة وتعزيز ثقة المواطن في المؤسسات المنتخبة والإدارة الترابية”، مشيرا إلى أن الهدف منها ليس معاقبة الأشخاص، بل حماية المرفق العام وصون المال الجماعي وضمان احترام القانون.

وأضاف أن هذا النهج “سيترك آثارا إيجابية عميقة على المدى البعيد، من خلال إرساء ثقافة سياسية جديدة تجعل من النزاهة والالتزام بالقانون شرطًا لتحمل المسؤولية، وتعيد الاعتبار لقيمة الخدمة العمومية”.

وختم بالقول إن “ما نشهده اليوم هو تجسيد عملي لبناء دولة المؤسسات، دولة يسود فيها العدل وتعلو فيها سلطة القانون، وتتحقق فيها الرؤية الملكية لبناء مغرب حديث ديمقراطي نزيه يضع المواطن في صلب كل السياسات العمومية”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس