أكلوا القطط والفئران والكلاب.. حصار باريس الرهيب قبل 150 عاما

6

الصحراء الغربية – افريقيا برس لم تشهد باريس في تاريخها حصارا أقسى ولا أشد ولا أكثر أهمية من حصار “العام الرهيب” -كما سماه فيكتور هوغو- أثناء الحرب الفرنسية الألمانية 1870-1871 حين عمت المجاعة واضطر الباريسيون إلى أكل القطط والفئران وحتى الغربان.

تستذكر صحيفة لوفيغارو (Le Figaro) الفرنسية هذه المجاعة في تقرير كتبه المؤرخ إريك أنسو من جامعة السوربون، بدأه من سقوط الإمبراطورية الثانية عام 1870 على يد ثورة أقامت حكومة مؤقتة من الجمهوريين المعتدلين برئاسة حاكم باريس العسكري الجنرال تروشو.

تحولت باريس -كما يقول المؤرخ- إلى معسكر كبير رغم أنها كانت محمية منذ ربع قرن بـ33 كيلومترا من التحصينات، وبحزام من 16 حصنا، وقد جلبت الحكومة الماشية والطعام من المناطق الريفية المحيطة، إلا أن اقتراب العدو منها -وإن سبب نزوح ما يقارب 100 ألف برجوازي- جلب إليها 200 ألف من سكان الضواحي، كما وفد إليها أكثر من 100 ألف جندي من المحافظات للدفاع عنها، مما رفع عدد السكان إلى أكثر من مليوني نسمة.

وفي 19 سبتمبر/أيلول حاصر 400 ألف ألماني المدينة وقطعوا السكك الحديدية وخط التلغراف المغمور في نهر السين، فلم يعد بإمكان الباريسيين التواصل مع بقية البلاد إلا عن طريق الحمام الزاجل والبالونات والمناطيد.

أخفقت عدة محاولات للخروج من الحصار بالقوة كما يقول المؤرخ، مما نزع الثقة في الحكومة المتهمة بعدم الكفاءة من عدد من الباريسيين، وبعد ذلك أشعلت شائعات بالنصر الأمل في النفوس، قبل أن تترك المكان للحزن والغضب بسبب هزائم حقيقية، مثل استسلام مدينة ميتز الذي شكل صدمة حقيقية.

في هذه الأثناء، دعت لجنة مركزية مكونة من 20 دائرة يهيمن عليها اليسار المتطرف إلى تنحية الحكومة وإنشاء بلدية باريس، ثم استولى حشد بقيادة عدد قليل من زعماء العصابة على مبنى البلدية يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول وعلى الحكومة.

مجاعة فيري
غير أن الحكومة تحررت بفضل قوة الحرس الوطني، ولكنها اضطرت للقبول بانتخابات كانت ترفضها خوفا من الخسارة ومن إعطاء العدو إشارة بوجود فتنة داخلية، وقد قواها فوزها في استفتاء أولي في 12 دائرة من 20، وأصبح جول فيري -وهو أحد أعضائها- عمدة باريس، وبقيت المناطق الثماني الشعبية في شمال شرق العاصمة تحت سيطرة الراديكاليين والثوار.

وفي أوائل نوفمبر/تشرين الثاني بدأت مخزونات المواد الغذائية تقل، واصطف الناس في طوابير أمام المخابز والجزارين، وتم تقنين الطعام، حيث بلغت حصة الفرد من اللحوم 50 غراما فقط، تستبدل بالشحوم بعد 4 أيام، فحصل عمدة باريس على لقب “مجاعة فيري”.

وفي هذه المحنة اضطر الباريسيون لأكل حيواناتهم الأليفة والكلاب والقطط والعصافير والجرذان التي تباع مقابل فرنكين في سوق “بلاس دو لتيل دو فيل”، لدرجة أن حديقة الحيوانات “غاردن دي بلانت” -التي لم تعد قادرة على إطعام حيواناتها- قررت بيعها للجزار الإنجليزي في هوسمان، وكان الفيلان كاستور وبولوكس آخر ما تمت التضحية به، إلا أن “لحمهما الفاخر” والباهظ الثمن كان من نصيب أغنى الباريسيين.

في هذه الأثناء، قامت الحكومة بعدد من المحاولات لفك الحصار، فكانت هناك محاولة بين 30 نوفمبر/تشرين الثاني و2 ديسمبر/كانون الأول حدث فيها اختراق كبير، ولكنها فشلت في النهاية كما فشلت محاولة لوبورجي في 21 ديسمبر/كانون الأول.

ومع هذه الإخفاقات -كما يذكر المؤرخ- وبالإضافة إلى الأزمة الغذائية كان هناك برد قارس، حيث تقلبت درجة الحرارة بين -5 و-20 درجة مئوية، وتجمد نهر السين لمدة 3 أسابيع تقريبا، وذلك مع وجود نقص في الخشب والفحم، فاشتدت المعاناة وارتفعت الأسعار حتى تجاوز كيلو الزبدة 30 فرنكا، وبلغ سعر القط 20 فرنكا، والغراب 5 فرنكات، والكلب 4، والفأر 3 فرنكات، في حين كان أجر العامل لا يتجاوز 1.5 فرنك، فلم يعد للعديد من الباريسيين إلا “خبز الحصار” المصنوع من الأرز والشوفان والقش، وبدأ الناس يموتون من سوء التغذية.

شعور بالإهانة
ورغم أن ملك بروسيا لم يكن يريد قصف باريس خوفا على سمعته فقد أقنعه المستشار بسمارك بأن ذلك هو أفضل طريقة للإسراع بإنهاء الحرب، فبدأ القصف المكثف على الحصون، وبعده بدأ القصف اليومي على العاصمة في 5 يناير/كانون الثاني 1871، فدمر أو تضرر أكثر من ألف منزل و100 مبنى عام، بما فيها المتحف والقصر ومتحف لوكسمبورغ، وقباب البانتيون، والسوربون، و”فال دو غراس”، و”سان سولبيس”.

ولم يقتل هذا من الباريسيين -الذين تعودوا الدخول في الملاجئ- سوى 400 شخص، وهو عدد -كما يقول المؤرخ- لا يمثل سوى جزء صغير من 42 ألف وفاة التي خلفتها المجاعة والبرد، وبالتالي فإن دور القصف كان إثارة الغضب بدلا من إضعاف الإرادة للمقاومة.

وفي النهاية أدى فشل جيوش الإغاثة إلى إنهاء الحرب، حيث تمت في معركة مان يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني هزيمة جيش لوار بقيادة تشانزي، ودفن آخر آمال الحكومة والقادة العسكريين، وبدأ النظر في الهدنة رغم مواجهة خطر تمرد “الحمر” الذين طالبوا مرة أخرى بتأسيس البلدية.

غير أن محاولة أخيرة لفك الحصار قامت على هضبة سان كلاود، وفي بوزنفال، وغابات سان كوكوفا، فشن 90 ألف رجل هجوما في 19 يناير/كانون الثاني تدعمهم مدفعية مونت فاليريان، إلا أن الألمان -الذين فوجئوا في البداية- صدوا الهجوم في غضون ساعات، ولقي أكثر من 4 آلاف جندي فرنسي حتفهم في هذه الكارثة، فأبرمت هدنة يوم 28 يناير/كانون الثاني، وفي نفس اليوم استسلمت السلطات في باريس.

وبعد 4 أشهر و10 أيام من الإحباط والمعاناة توقفت الحرب، لكن الباريسيين -حسب المؤرخ- ظلوا يشعرون بالإهانة، خاصة أن الألمان ساروا مسيرة النصر في الأول من مارس/آذار 1871 في شارع الشانزليزيه وسط باريس.