كتابة التاريخ بين المنهج العلمي وضجيج السرديات المعاصرة.

0
كتابة التاريخ بين المنهج العلمي وضجيج السرديات المعاصرة.
كتابة التاريخ بين المنهج العلمي وضجيج السرديات المعاصرة.

سلامة مولود اباعلي

أفريقيا برس – الصحراء الغربية. كثر الكلام واللغط في الآونة الأخيرة حول المؤسسين وكتابة التاريخ، حتى بات هذا الموضوع يحتل مساحة واسعة في النقاش العمومي وعلى منصات التواصل الاجتماعي.

ولم يعد الجدل محصورًا في الدوائر الأكاديمية أو بين المختصين، بل أصبح شأنًا عامًا يتداوله الجميع، كلٌّ بحسب زاويته وقناعاته وميوله، وأحيانًا وفق انفعالات لحظية أو اصطفافات أيديولوجية.

ورغم أن اتساع النقاش قد يبدو مؤشرًا صحيًا على الاهتمام بالذاكرة والتاريخ، إلا أنه يخفي في عمقه إشكالات خطيرة تتعلق بطبيعة المعرفة التاريخية، وبمن يملك أهلية الكتابة فيها، وبالحد الفاصل بين البحث العلمي والرأي الشخصي.

فالتاريخ، في جوهره، ليس رأيًا ولا سردًا انتقائيًا للأحداث، ولا منشورًا عابرًا يُكتب تحت تأثير اللحظة أو المزاج العام.

إنه علم قائم على مناهج دقيقة وأدوات صارمة، يعتمد على الوثيقة، وعلى تعدد المصادر، وعلى النقد الداخلي والخارجي للروايات، وربط الوقائع بسياقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

غير أن ما نشهده اليوم هو خلط مقلق بين حرية التعبير، وهي حق مشروع، وبين ادعاء امتلاك الحقيقة التاريخية، حيث تُقدَّم الانطباعات الشخصية، أو القراءات المؤدلجة، أو حتى الإشاعات، في ثوب حقائق ثابتة لا تقبل النقاش أو المراجعة.

والكتابة التاريخية، وإن لم تكن حكرًا على فئة اجتماعية أو نخبوية بعينها، فإنها ليست مجالًا مفتوحًا بلا شروط أو ضوابط.

فالمؤهل لكتابة التاريخ هو من يمتلك تكوينًا معرفيًا ومنهجيًا في هذا الحقل، ويعتمد على مصادر موثوقة، ويُخضعها للمقارنة والنقد، ويدرك تعقيد السياقات التاريخية، ويتجنب إسقاط مفاهيم الحاضر وأحكامه الأخلاقية الجاهزة على وقائع الماضي.

أما الناشط السياسي أو المؤثر الرقمي أو الفاعل الإعلامي، فله كامل الحق في إبداء رأيه، لكن رأيه لا يتحول تلقائيًا إلى كتابة تاريخية ما لم يستند إلى المنهج والمعرفة والأمانة العلمية.

ومن أخطر ما يطال كتابة التاريخ في هذا السياق المتوتر هو طريقة التعاطي مع المؤسسين، حيث يُدفع النقاش غالبًا نحو أحد طرفين متناقضين: إما التقديس المطلق الذي يُحوِّل الشخصيات التاريخية إلى رموز فوق النقد والمساءلة، أو التجريم الشامل الذي يُفرغ التجربة التاريخية من تعقيدها، ويختزلها في أخطاء أو نوايا مُسبقة أو قراءات انتقائية.

بينما يقتضي المنهج التاريخي الرصين دراسة المؤسسين كفاعلين تاريخيين تحكمهم شروط زمانهم وإمكاناته وحدوده، لهم إنجازاتهم وإخفاقاتهم، ولا يُفهم دورهم إلا في سياقهم لا خارجه.

وتكمن الخطورة الكبرى في تحريف التاريخ أو تأويله لخدمة أجندات سياسية أو هوياتية ضيقة، لأن الأمر لا يتعلق بنقاش فكري معزول، بل بتداعيات تمس الوعي الجمعي والذاكرة المشتركة.

فتحريف التاريخ يؤدي إلى تشويه الذاكرة الوطنية، وإلى خلق أجيال مرتبكة في فهم ماضيها، كما يُسهم في تأجيج الصراعات والانقسامات، ويُستخدم أحيانًا لنزع الشرعية عن نضالات تاريخية حقيقية، أو لتبرير ممارسات راهنة باسم قراءة “بديلة” للتاريخ.

ولا يمكن في هذا السياق تجاهل دور وسائل التواصل الاجتماعي، التي ساهمت من جهة في تعميم الاهتمام بالتاريخ، لكنها من جهة أخرى فتحت الباب أمام فوضى السرد التاريخي.

فالخوارزميات لا تكافئ الدقة والمنهج، بل تُفضل الإثارة واللغة الحادة، مما يجعل التاريخ مادة للاستهلاك السريع، لا مجالًا للتفكير النقدي العميق.

وهكذا يتحول الماضي إلى ساحة صراع رمزي، لا إلى موضوع للمعرفة والفهم.

إن الدفاع عن التاريخ ليس دفاعًا عن الماضي فقط، بل هو دفاع عن الحاضر والمستقبل معًا.

فالأمم التي تفقد بوصلتها التاريخية تصبح أكثر قابلية للتلاعب، وتُعاد صياغة وعيها وفق منطق القوة لا منطق الحقيقة.

ومن هنا، فإن النقاش حول المؤسسين وكتابة التاريخ يظل نقاشًا مشروعًا وضروريًا، شريطة أن يُدار بعقلانية ومنهجية، وأن يبقى مرتبطًا بالعلم والأمانة، لا بالضجيج ولا بعدد المتابعين، حتى لا يتحول التاريخ من مجال للمعرفة إلى أداة للانقسام والتوظيف السياسي.

المصدر: المستقلة للأنباء

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصحراء الغربية عبر موقع أفريقيا برس