الثقافة : رؤية ، تجليات وجبهة للصمود

6
الثقافة : رؤية ، تجليات وجبهة للصمود
الثقافة : رؤية ، تجليات وجبهة للصمود

محمد جسنة الطالب

أفريقيا برس – الصحراء الغربية. الثقافة هي كلمة تحمل الكثير من الدلالات الزمنية والمكانية لوجود تجمعات بشرية لها رابط مشترك، بل وتتعدى ذلك إلى ربط ماضي هذه التجمعات بكل مظاهره، بحاضرها المتجدد في بيئتها الأصلية، لينتهي كل ذلك نحو مستقبل تحدد معالمه من خلال سيرة المجتمعات ومدى تشبثها وحفاظها على كل ما يميزها عبر مسيرتها الحياتية، ولعل ما ترسمه الأمم على مر التاريخ من أهداف ومزايا على طريق الكينونة والوجود المتميز، يبقى دائما نبراسا مشعا تتضح تحت نوره معالم الهوية والأصالة لأي شعب من الشعوب.

وحتى لا ينحصر مفهوم الثقافة في جانب معين من جوانب الحياة، أو في مفهوم من المفاهيم الكثيرة التي تتفاوت عن بعضها البعض في تعريفها للثقافة، فمن الأفضل أن نعتبر أن الثقافة بكل بساطة هي الحياة المتميزة للشعوب والأمم منذ النشأة وتطورها التاريخي دون أن تخرج عن خصوصياتها وعمقها المادي، والشفهي، وحتى المعنوي مهما بلغت بها السبل من احتكاك وتعايش وتصادم مع الآخر، لان ماضيها يعد نمطا حياتيا متميزا من إفرازات تعامل الإنسان القديم مع البيئة والطبيعة، وحاضرها هو تمسك بقيم ومزايا وخصوصيات ذلك الماضي، ومستقبلها هو مبتغى موعود لا يخلو من آثار الماضي والحاضر مهما حصل من تطور عبر مسيرة الحياة، وهاهنا تكمن الأصالة والهوية باستمرار، ويتضح الإرث التاريخي لكل شعب محافظ، ارث تعرف به الشعوب وتميز به عراقتها في التاريخ، وكينونتها في الأرض وأثرها فيها.

لاشك أن طريق الوجود والتميز لأي شعب من الشعوب هو طريق معبد بمختلف مظاهر الحياة التي عاشها الإنسان ويعيشها عبر مسيرة لا تتوقف بزوال جيل من أجياله، لهذا كانت الثقافة أمانة مصونة يحرس على أدائها كل من يؤمن بالخلود والاستمرارية لامته وشعبه، وهذا لاعتبارها أثرا غائرا ونقشا بارزا على جبين الزمن، تقرأ من خلاله ملامح وتقاسيم من عاشوه ويعيشونه على أمل أن تخلد آثارهم وسيرتهم المتميزة بديمومة التاريخ.

وإذا كانت الثقافة هي الحياة التي نعيشها بكل مراحلها ومعطياتها، بدءا بالماضي ومرورا بالحاضر، واستشرافا للمستقبل، فأن الحفاظ، والصمود في معتركها، خلدا أمما وشعوبا رغم عواتي الدهر وصروف الزمن، وهذا ما جعل التمسك بالماضي يعد زادا لا ينفذ يمكن أن يعول عليه في الحاضر وفي الطريق إلى المستقبل، ولهذا ظل الصحراويون بدورهم مجتمعا بدويا عريقا، يهوى التميز والوجود، بل ويستل سيف المقاومة والصمود كلما ساومه جائر أو طامع على هويته أ وعلى أرضه، التي هي منبع الصفاء لسريرته، ونضارة وجهه المتميز في شمال غرب إفريقيا.

إن الشعب الصحراوي، وبلغة الثقافة هو سليل عروبة منذ النشأة، إسلامي الديانة في الأساس، هاجر من شبه الجزيرة العربية إبان الفتوحات الاسلامية، ينشد السلام والوئام، متسلحا بثقافة سيمتها التسامح والتآخي بين بني البشر، ثقافة عريقة شملت كل ميادين الحياة التي زاولها الإنسان الصحراوي بكل مظاهرها وصنوفها ومضامينها ورمزيتها، فكانت محسوسة ملموسة، مروية مسموعة، و محكية متداولة.

ومن مظاهر ثقافة هذا الشعب الأصيلة وتجلياتها، هو ما أملته الحاجة والضرورة للعيش، فكان على الإنسان الصحراوي أن يجد مخرجا له من بوتقة العجز والتسليم بصعوبة الحياة في سالف الزمن، و لذلك عرف الكثير من الحرف التقليدية المختلفة، بفضل جرأته وتصميمه على ابتكار الأداة وتصميم الوسيلة بما يتماشى ومتطلباته في العيش، ومنذ ذلك الزمن وبهذه الطريقة حصل على كم هائل من التراث المادي المحسوس والمتنوع، شمل كل ميادين الحياة، لاسيما في تدبير المأكل والمشرب، الملبس والسكن، الحل والترحال، الزراعة والصيد، تربية الحيوانات وترويضها، الطب والعلاج، ومختلف وسائل الحرب والقتال، بالإضافة إلى الألعاب ومختلف وسائل الترفيه، وعلاوة على مختلف الآثار الاركيلوجية، من نحت ونقش ورسومات، ومغارات، وكهوف كان يسكنها قديما، بالإضافة إلى أضرحة شهداء المقاومة في مختلف الحروب و الغزوات، والى العديد من المعالم الأثرية كأضرحة الهلاليين الكبيرة التي مازال الإنسان الصحراوي يحكي أساطيرها حتى الساعة.

إن إرثا ماديا كهذا، لم تفنه السنون ولا الدهور، ومازال وافرا حتى يومنا هذا، لكفيل بإبراز البصمة الصحراوية المتأصلة في بلاد الساقية الحمراء ووادي الذهب، تلك الأرض التي احتك بها الصحراويون وخبروا دروبها ومواطن الدفء والظل فيها، حتى امتهنوا الذود عن حرمتها وعن كينونتهم التاريخية والثقافية داخل حدودها الجغرافية.

من مضامين هذه الثقافة أيضا ما كان مستترا وغير ملموس، ولكنه محسوس بالعاطفة والوجدان عندما يحكي بألسنة حسانية أصيلة وتسمعه تلك الأذان البيضاء التي تفهم مرامي القول و مقصد الكلام، ذلكم هو الإرث الشفهي المتداول من خلال الحكايات والنوادر، والروايات والقصص والأساطير، والشعر بتنوع أغراضه ومواضيعه، والرقص، والغناء بمختلف بحوره، والحكم والأمثال بتعدد مواردها و مضاربها، والأحاجي والنكت، والإحكام العرفية والدينية، ومختلف الأهازيج التي ترافق مختلف المناسبات كالزواج والعقيقة والختانة، وختم القران، والأعياد الدينية، والصلح والتفاوض، وزز الإبل والأغنام، والتويزة، وخياطة الخيمة، واللز وابراز، والشارة، ومآثر البطولة وما إلى ذلك، كل هذه الطقوس رافقها إرث شفهي متميز، ظل محفوظا، ومتداولا بين الصحراويين منذ القدم بلهجة حسانية أصيلة، وبلكنة صحراوية صرفة، وبإيقاع صحراوي مؤثر ومرموق.

لاشك أن اللهجة الحسانية لأهل الصحراء تشكل نسبة معتبرة من اللغة العربية التي أنزل بها القران الكريم، ولهذا فهي تعكس آدابا وتصورا مثاليا، لعادات وتقاليد وأعراف مستوحاة من البيئة العربية والإسلامية، والتي في مجملها تنم عن تعامل راقي وعلاقة وطيدة، وعن نهج سليم في الحياة يسوده الاحترام المتبادل، والطيب والإحسان، والكرم وحسن الضيافة، والصدق والمحبة، والوفاء والثناء، والعطف على الضعفاء، ونصرة الحق والمظلوم والتعاون والتآزر على تخطي المصاعب والمحن، وهذا كله من شيم الصحراويين وطبائعهم في الحياة، كونهم شعب مسالم، ويسعون دائما إلى مرضاة الله وكسب ود عباده مادام الخير بالخير والبادئ أكرم، وأكرم الناس عند الله أتقاهم.

أن وحدة الشعب الصحراوي وتلاحمه الوجداني، أبان عن ثقافة عتيدة ومتماسكة ظلت عصية على الابتلاع والتزوير، رغم مكائد الأعداء، وادعاءاتهم الواهية، ولهذا حرص الصحراويون منذ القدم على حماية هذا الإرث التاريخي وصيانته من كل أسباب التلف والضياع، ودأبوا على ذلك دون كلل أو ملل في إطار الدولة الصحراوية، الخيمة الحاضنة لهذا الشعب ولكل مقوماته، فكان أن أولت وزارة الثقافة في الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية عناية هامة لميدان الثقافة، فشجعت على البحث الأثري، والتدوين لكل ما هو شفهي، وعملت على تنظم مهرجانات سنوية، وندوات دورية، ومحاضرات وبرامج هادفة تشمل المسرح والعروض الفلكلورية والمعارض الأثرية و السهرات الفنية والأدبية، وكل هذا ساهم بدوره في إثراء مفهوم الثقافة وترسيخها بين مختلف الأجيال.

كما شكل هذا الاهتمام البالغ جبهة متينة وموحدة عصية على الاختراق من طرف أولئك الذين تراودهم أحلام الاستيلاء على ثقافة وهوية الغير، فكانت الثقافة الصحراوية رصاصة دقيقة الهدف أصابت الاحتلال المغربي في مقتل ظل يخفيه بالأوهام و المغالطات ردحا من الزمن، ولا أدل على ذلك من نزوح الصحراويين وحدهم دون المستوطنين المغاربة في مخيمات خارج المدن والمد اشر الصحراوية المحتلة، في أكديم ازيك، في السمارة وفي الداخلة للتعبير عن رفضهم البات للاحتلال ولكل أشكال الدمج و الغبن والتهميش التي ينتهجها النظام الملكي في المغرب ضد الصحراويين وعلى أرضهم.بفعل هذه الجماهير الغاضبة و نضالاتها المستميتة في مختلف مواقع المرابطة والمواجهة مع العدو أصبح الشعب الصحراوي المقاوم واعيا بأهمية الثقافة ودورها الجوهري في معركة الوجود التي خاض غمارها بالسلاح وحقق مكاسبا جبارة، ويخوضها بثقافته المتميزة لنفي أي صلة له بأعدائه الطغاة.

لهذا فالقضية الصحراوية هي قضية أجيال تتلاحق لفرض الدولة الصحراوية المستقلة، واثبات الذات المتميزة لشعبها، ومن هنا يوضع حدا لسياسات الأعداء ومطامعهم، وتبرز إرادة الشعوب في التحرير والتميز والبناء، ويزيد الاهتمام بالثوابت والقضايا المصيرية لها و التي من ضمنها الثقافة والهوية الوطنية هذه الأخيرة التي يعد الحفاظ عليها مهمة ومسؤولية الجميع دون استثناء، باعتبار أن الشعب بكل شرائحه هو الوصي عليها وعلى استمراريتها.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصحراء الغربية اليوم عبر موقع أفريقيا برس