جريدة الشعب : الثّقافة الحسّانية في الجزائر.. مــوروث ثقــافي مهدّد بالاندثـار وعـــدم التّدويــن

38
جريدة الشعب : الثّقافة الحسّانية في الجزائر.. مــوروث ثقــافي مهدّد بالاندثـار وعـــدم التّدويــن
جريدة الشعب : الثّقافة الحسّانية في الجزائر.. مــوروث ثقــافي مهدّد بالاندثـار وعـــدم التّدويــن

أفريقيا برس – الصحراء الغربية. أثارت الثّقافة الحسانية المنتشرة في غرب الصحراء الكبرى، الكثير من التساؤلات حول ظروف نشأتها وتطوّرها وتعدّد مشاربها، وحول حقيقة ما خلّفته من تراث ثقافي متنوّع ومتميّز، الأمر الذي أدخل المهتمين بالثقافة الحسانية في رحلة بحث للإجابة عن بعض تلك التساؤلات بالرغم من شح المصادر وقلة المراجع والدراسات المتخصصة، التي حالت دون الوصول إلى أحسن النتائج.

الباحثون المتأخّرون يرون بأنّ الثقافة الحسانية بكل مكوناتها من عمارة، حرف وصناعة تقليدية، لهجة، أشعار، أمثال وحكم، موسيقى وفولكلور هي في مجملها ثقافة شعبية عربية إفريقية بامتياز، فريدة في نشأتها وتعدّد مناهلها ووقوعها في المنتبذ القصي عن كل المؤثرات الخارجية، ممّا ساعد على صفائها ونقائها لتكون مادة ثقافية خام جد دسمة توارثتها الأجيال منذ ما يربو عن 06 قرون من الزمن.

سميت الثّقافة الحسانية بهذا الاسم نسبة إلى بني حسان، عرب المعقل بعد هجرتهم من جنوب درعا، الأمر الذي أنتج هذه الثقافة المتميزة على إثر تمازج العرب بالعنصر الصنهاجي المحلي من بقايا المرابطين من الملثّمين، إضافة إلى المكون الزنجي الإفريقي، فهذا التمازج والانصهار الثقافي الفريد، أنتج تراثاً ضخماً عُرف في مجمله بالثقافة الحسانية أو ثقافة البيظان متمثلا في شقيه المادي واللامادي.

كلام البيظاناللّهجة الحسانية، هي تلك اللهجة العربية المنطوقة في كامل إقليم الثقافة الحسانية، وتتميز هذه اللهجة بغناها المثير بالأنماط التعبيرية الشفاهية المتنوعة، ذلك أنها نشأت في مجتمع صحراوي تغيب فيه كل وسائل الكتابة وإمكانياتها، لتصبح التعابير الشفهية هي وسيلة التواصل الوحيدة الناقلة للتجارب، والحافظة للذاكرة الجماعية التي بدورها تتجدد وتتزود من خلال جلسات السمر المميزة لليل الصحراء الطويل، حيث لا وسيلة للترفيه عدا الصور اللغوية المعبرة عما يجول في ثنايا الذاكرة الشعبية.

يرى الدكتور غالي الزوبير، بأنّ اللهجة الحسانية أتت كمحصّلة لعملية انصهار ثقافي ولغوي فريد يحتوي على عناصر صوتية واصطلاحية مستمدة من موروث كل تلك العناصر، والمجموعات الاثنية، وهو ما جعلها ـ يضيف المتحدث – تتفرد عن محيطها اللساني المعروف في المغرب العربي.

تتميز اللهجة الحسانية بخصوصية فريدة، وهي تخصيص المفردة الواحدة لحالة واحدة بعينها مع الصرامة الشديدة في تطبيق ذلك التخصيص، حيث يلحن المتكلم في حالة استعمال المفردة في غير موضعها، وربما يجد عتاباً من المتلقي بخروجه عن المتعارف عليه، كما تمتاز اللهجة الحسانية بالدقة والتحديد، حيث تُطلق أوصافا ونعوتا تتصف بالدقة المتناهية في نفس المجال بحيث لا يمكن استعمال تلك الاوصاف والنعوت في مواضع أخرى.

ومن مميزات اللهجة الحسانية استعمال الترميز والكنايات، وهي صفة لا تفارق بني حسان لأنهم لا يحبذون المباشرة في طرق المواضيع دون رمزية أو كناية عن الغرض المطلوب، حتى أن المتضلعين والمتمرّسين في الحسانية، يمكنهم التخاطب بتلك الرمزيات والكنايات دون أن يدرك الآخرون ما يعنون، كما يشاع في اللهجة الحسانية استعمال صيغ التصغير دون أن يسبب ذلك حرجاً، كما أن العبارات النابية والألفاظ البديئة قليلة في القاموس الحساني الأصيل، ويرجع ذلك إلى طبيعة هذا المجتمع الذي ينشد الفتوة ويمجدها في مجالسه وأفعاله.

الشّعر في الثّقافة الحسانيةالشعر الحسّاني هو طابع فني متجذر في الثقافة الحسّانية المتنوعة الألوان والطبوع، وله مكانته في مجتمع «البيظان»، يغذّيه حب الإنسان الحسّاني للهجته واعتزازه بها، فالحسّانية هي لهجة دارجة محلية في جنوبي غرب الجزائر وخاصة بولاية تندوف، وتمتد إلى جنوب ولاية أدرار إضافة إلى مناطق أخرى وتتشارك كلها مع ولاية تندوف في نفس الثقافة والعادات والتقاليد مشكّلةً بذلك إقليماً ثقافياً حسّانياً.

مباركي سعدي بيه، رئيس فرع بيت الشعر الجزائري بتندوف يوضّح كيف تشكلت الثقافة الحسّانية التي هي مزيج مختلط بين عدة ثقافات، فالامتداد التاريخي للثقافة الحسانية لا يكاد يخلو من البعد العربي القُح، البعد الأفريقي الزنجي والبعد الصنهاجي الأمازيغي، هذه الثقافات الثلاث امتزجت عبر الزمن شيئاً فشيئاً، لتنتج هذه الثقافة الناضجة التي تسمى اليوم بالثقافة الحسّانية بشعرها المتميز، زيها التقليدي، عاداتها وتقاليدها ومجتمعها الذي يسمى مجتمع «البيظان» في أبهى حلله، وتشكل العربية الفصحى في لسان «البيظان» نسبة كبيرة جداً، وهي اللغة السائدة في اللهجة الحسانية، بالإضافة إلى بعض الثقافات كالزنجية الإفريقية والصنهاجية.

«أزوان» طابع فني جدير بالاهتمامالشعر الحسّاني له عَروضه الخاص وأبحره الشعرية وميزانه الموسيقي، وله ارتباط وثيق بالموسيقى الحسّانية التي تسمى «أزَوان»، وبحور الشعر الحسّاني سبعة متداولة و أخرى كثيرة تم هجرانها ونسيانها عبر الزمن، أما الموسيقى الحسّانية التي تسمى «أزوان» فهي طابع فني قائم بذاته يراه الشاعر مباركي سعدي بيه جدير بالاهتمام، وقابل للتدريس ووضعه في قالب أكاديمي مناسب له، وإعطائه حقه من الدراسة التي ستساهم بشكل كبير في اتساع دائرة المعرفة بين الجزائريين لهذا اللون.

كما أن الشعر الحساني أكثر تشعّباً وتقسيماً من الشعر العربي العمودي، فمن مكوناته «الطلعة»، وهي بمثابة القصيدة في المعنى، أما شكلاً فهي تبدأ بثلاثة أشطر من نفس الروي تسمى بحُمُر الطلعة، والشطر الرابع يأتي مخالفا للأشطر الثلاثة الأولى ويسمى بالكسرة، وعليه تكون القافية والروي حتى نهاية الطلعة.

ومن مميزات الشعر الحساني عن الشعر العربي العمودي نجد الصبّة أو الكرزة، وهي شكلا بمثابة القصيدة العمودية، إلا أنها مقفاه بقافيتين، قافية الصدر وقافية العجز، وعادة ما تتناول مواضيع الحماسة والفخر والملاحم، وتأتي مطولةً بشكل لافت للانتباه، وقد عرف هذا النوع انتشارا واسعا زمن الإمارات العشائرية وهيمنة القبيلة، وبرع وأجاد فيه الفنانون الحسانيون المعروفون بـ «المجادين» و»الهيدانة» و»إيقاون»، أما أغراضه فهي تكاد تكون مشابهة للأغراض الشعرية الفصيحة من غزل ومدح وهجاء ورثاء.

«التبراع».

.

لون شعري تنفرد به النّساءفي مسيرة تطوّره عبر الزمن، أفرد الحسّانيون من سكان الصحراء الكبرى لوناً شعرياً خاصاً بالنساء أطلقوا عليه اسم «التبراع»، وهو لون شعري تنفرد به النساء في مجتمع البيظان، ويتكون من شطرين فقط، قد يسيلان من العواطف والحبر ما لم يسله الكثير من الرجال في قصائدهم لبلاغة وعمق معانيه.

للشعر الحسّاني أبحر عدّة، لها أوزانها وقواعدها النحوية، وهي أوزان عروضية متعددة يمكن تمييزها من خلال إيقاعها العروضي المنتظم الذي ينبني على حساب عدد الأحرف المتحركة في كل شطر، والبحر في مصطلح العروض الحسّاني يسمى «لبتيت»، ومن أمثلتها نجد «بت الكدعة»، «بت امريميدة»، «بت بوعمران»، «البت الصغير»، «بت لبير»، «لبتيت التام»، «لبتيت الناقص» وغيرها من «لبتوتة» الأخرى.

يقول الشاعر لبيز عبد الله من ولاية تندوفعيشوشة نوارة لعقول جمع الناثي عند اتجيهمتخْليهم لدارت لحفول وإلا خلاتو تخْليهمبراعة في اقتباس الآلات الوتريةمثلما ظهر الشعر الحساني عند البيظان، ظهرت موسيقى لصيقة به وكأنها وجدت لأجله، حتى أصبح من الصعب الفصل بينهما، كما برع فنانو الثقافة الحسّانية في اقتباس الآلات الوترية المستعملة، «التيدينيت» للرجال و»آردين» للنساء من وحي الموسيقى الإفريقية بالجوار، إلا أن هؤلاء الموسيقيون استطاعوا تطويرها وترويضها بما يضمن لهم تميزهم عن الأفارقة، فأسسوا الموسيقى الحسانية التي تسمى «أزوان» مرتكزين على خمس مقامات موسيقية خاصة وهي «مقام كر»، «مقام فاقو»، «مقام لكحال»، «مقام لبياظ» و»مقام لبتيت».

ولأن الموسيقى مرادفة عادةً للرقص، فقد عرف البيظان كغيرهم من المجتمعات أنماطاً من الرقص التقليدي لها دلالتها التعبيرية وإيحاءاتها الجسدية وطرقها التي تؤدى بها، ومن أشهر هذه الرقصات نجد «رقصة سيد أحمد لمغومت»، وهي تمثيل لبعض قيم المجتمع الحساني، حيث يتكئ رجل ويُلبِس إحدى رجليه لباساً رجالياً عمامة، وتُربط عليها عصا بمثابة يدين فيقرع الطبل ويغنى بعبارة «اسكي سيد أحمد لمغومت»، وهو يرقص الرِجل على هيئة الآدمي حتى يقول أحدهم: «جاتك نسيبتك»، عندها يُنزل تلك الرِجل كالمستلقي ويتوقف الغناء، تعبيرا عن الحياء من أم الزوجة التي لا يمكن الغناء أو الرقص في حضرتها، حتى ينادي أحدهم: «راهي مشاة»، فيستأنف الرقص من جديد.

ومن الرقصات المشهورة في الثقافة الحسانية نجد «رقصة تغنجة»، وهي رقصة تؤدى من أجل الاستسقاء، حيث تحمل النسوة مجسم عروس وتطفن بمرابض الحيوانات وتنشدن: «تغنجة ظفرت راسها يا ربي بل أخراسها، تغنجة شقت لمراح يا ربي سيل لبطاح».

كما يشتهر مجتمع البيظان بأنماط عديدة من الرقص لكلٍ منها مغزاها وتعابيرها، وحتى المناسبة الخاصة بها، كما أن لكل من الرجل والمرأة رقصهما الخاص بهما، فلا يمكن لأحدهما تأدية رقصة الجنس الآخر، باستثناء المديح الديني الذي يحظر فيه الرقص لكلا الجنسين كما تغيب فيه الآلات الموسيقية في الأصل تعظيماً لاسم خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

الدراعة والملحفة.

.

لباس البيظان في الصّحراء الكبرىأوجد الحسانيون لأنفسهم زيهم الخاص الذي يميزهم عن غيرهم من الشعوب المجاورة، ويتخذ هذا اللباس نفس الشكل والنمط للكبار والصغار، وهو لباس محتشم ومدعاة للفخر، فيتميز الرجل الحسّاني بلبس الثوب العريض الفضفاض المسمى بـ «الدرّاعة» وبألوان محددة هي اللون الأبيض والأزرق المتدرج من الفاتح إلى الغامق، وهو مفتوح من كلا الجانبين من الكتف إلى الكعبين أو منتصف الساق ويحتوي على جيب كبير في منتصف الصدر، إضافة إلى السروال القصير تحت الركبة المعروف بسروال العرب والعمامة، أما المرأة في مجتمع البيظان فتبرز في الثوب المعروف بـ «الملحفة»، لأنها تلتحف بها حيث تستر سائر جسدها، إضافة إلى الإزار التقليدي باللونين الأبيض والأزرق ويعرف لبس الإزار بالنقشة التقليدية.

المجتمع الحساني في طبعه مجتمع بدوي بالدرجة الأولى، إلا أنه استطاع أن ينشئ قرى ومدناً تاريخية بعد أن وضع بصمته الخاصة عليها، وذلك من خلال ما تركه من بقايا مدن لا تزال شاخصة للعيان كشنقيط، تمبوكتو، السمارة وتندوف، وتميزت هذه المدن في الغالب بتأثرها بالعمارة المغاربية الأندلسية في الشمال، وبالطابع السوداني في الجنوب، وتجدها على شكل قصور وقصبات متراصة تتوسطها المساجد العتيقة كنواة دينية لكل حاضرة، كما استطاع الصانع التقليدي الحساني في هذه المدن أن يحقق لمجتمعه الاكتفاء الذاتي من كل الوسائل والأدوات في أقصى البيئات، ما جعله اليوم يمتلك متحفاً تقليديا متكاملا، بدءًا من الخيمة التقليدية الحسانية السوداء هرمية الشكل المصنوعة من شعر الماعز أو وبر الإبل وكل ما ينضوي تحتها من أثاث وأواني وأدوات، ويبرز شكل «القتب» أو الراحلة بالحسانية المتميزة (لعبيدية) عن غيرها من وحي هذا الصانع المحترف، الذي استطاع أن يصنع الجمال والذوق الرائع واللمسة الفنية في عمق الصحراء الكبرى، حيث تتندر المواد الأولية وتستحيل إمكانية الصناعة.

دعوة للتّعريف بالثّقافة الحسانيةأشار الشاعر مباركي سعدي بيه، إلى أن الثقافة الحسّانية التي تمتاز بها ولاية تندوف كأحد مكونات الثقافة الجزائرية تعتبر عامل جذب سياحي، مؤكداً على أن المواطن الجزائري لا يعرف شيئاً عن هذه الثقافة ولا عن الشعر الحسّاني، بالرغم من كونه طابع وطني لجهة من جهات الوطن وله خصوصياته ويمثل لوحة من لوحات الفن الجزائري والثقافة الجزائرية، موضحاً بأن عدم معرفة الجزائريين بالثقافة الحسّانية يلقي على المثقفين وأعمدة الفن الحسّاني بولاية تندوف مسؤولية كبيرة، تفرض عليهم التجند للتعريف بهذه الثقافة التي لم تنل نصيبها من الاهتمام إعلامياً ورسمياً، داعياً إلى ضرورة أن يعرف الجزائري ثقافته الغنية بكل ألوانها وتنوعها قبل التعرف والانغماس في ثقافة الآخر.

وأضاف المتحدث أن المواطن التندوفي ذوّاق بطبعه للثقافة الحسّانية بكل مكوناتها من شعر وموسيقى، و»أزوان» حاضر في كل بيت من بيوت «البيظان» وفي كل المناسبات، فالموسيقى الحسّانية هي من تحمل الشعر الحسّاني، وهي أداة حاملة وحامية لنفسها من الضياع، فهي ساكنة في وجدان مجتمع «البيظان» لا تفارقهم وترفض الانصهار مع الثقافات الأخرى وتأخذ لنفسها مكانة سامية بين المجتمعات المجاورة، معرباً عن أسفه لما وصلت إليه الثقافة الحسانية في الجزائر من وضعية تهدد بقاءها واستمراريتها للأجيال القادمة، معتبراً أن الجهود الحالية للمحافظة على هذا اللون الثقافي هي جهود متواضعة من بعض الأكاديميين وشباب المنطقة الغيورين على ثقافتهم المحلية التي تلقفوها بطريقة فطرية من آبائهم، وهم يحاولون اليوم لملمة شتات هذه الثقافة، كما أكد أن تدوين الثقافة الحسانية هي من مهام الهيئات المختصة التي أوجدتها الدولة، والمكلفة بتدوين وحفظ التراث الحساني بشقيه المادي واللامادي، معرباً عن أمله في مضاعفة الجهود، قائلا «لا زلنا في نقطة البداية وينبغي تكاثف الجهود للمحافظة على هذا الموروث الثقافي الذي يتهدده الاندثار وعدم التدوين، وعدم إدراج الثقافة الحسانية في المقررات البيداغوجية لمراكز البحث والتعليم، فالثقافة الحسانية جزء من فسيفساء ثقافية جزائرية وجبت المحافظة عليها وإعطائها نصيب أكبر من الاهتمام».

المصدر: جريدة الشعب ـ علي عويش ـ تندوف

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصحراء الغربية اليوم عبر موقع أفريقيا برس