ريبورتاج: تندوف.. يوميات قضية منسية

9
ريبورتاج: تندوف.. يوميات قضية منسية
ريبورتاج: تندوف.. يوميات قضية منسية

ترجمة بتصرف: المحجوب الرحماني

أفريقيا برس – الصحراء الغربية. بعدما كانت القضية الصحراوية على مدى عقود تملأ وسائل الإعلام العالمية متابعة ونقدا وتحليلا، تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب التحولات المستجدة في السياسة الدولية وعوامل أخرى متداخلة مختلفة. ومن نتيجة ذلك؛ أن معاناة اللاجئين الصحراويين المنسيين في مخيمات اللجوء الخمسة بجنوب غرب الجزائر، تفاقمت معاناتهم بتخلي المجتمع الدولي عنهم مع شح المساعدات الدولية، في ظل ضبابية المستقبل أمام الأجيال الجديدة التي توارثت المعاناة عن الآباء والأجداد. وتراجعت التغطيات الصحفية المكتوبة والمصورة – على غرار المساعدات الإنسانية– بشكل كبير.

الريبورتاج الميداني التالي، الذي نشرته مجلة فرنسية بقلم مراسلتها بالجزائر قبل أسبوع، يُسائل جزءا من اللاجئين الصحراويين المقيمين بمخيم السمارة، ويسألهم عن آلامهم وأحلامهم وآمالهم.

خلال زيارته في فبراير/شباط الماضي إلى الرباط، أكد وزير خارجية فرنسا ستيفان سيجورني على سيادة المملكة المغربية على الصحراء الغربية. وفي أثناء ذلك، يقاوم السكان الصحراويون الذين طُردوا من أراضيهم منذ العام 1975، ولجأوا إلى الجزائر من أجل البقاء، في ظل صمت مطبق من المجموعة الدولية.

في قاعة الاجتماعات الرسمية لمخيم اللاجئين الصحراويين الذي يحمل اسم السمارة، جلست العزة ابراهيم ببيه والي ولاية السمارة وهي تلتحف “ملحفة” صحراوية ملونة، تتلو خطابها ممثلة للسلطات الصحراوية أمام لجنة نائمة من قدامى المحاربين الفرنسيين والإسبان في مجال المساعدات الإنسانية. «أستطيع أن أؤكد لكم بأننا ما زلنا نحمل مشعل المقاومة. لقد توالت ثلاثة أجيال منا في المنفى، بعضهم توفوا من دون أن يروا الصحراء. وبعضهم الآخر شاخ. تمر السنوات بسرعة ونحن ما زلنا هنا، نحلم بأن نتمكن من تحرير بلدنا يوما ما، والعودة إليه من أجل العيش في ظروف أفضل».

كانت بعض وجوه أعضاء اللجنة مألوفة، بحكم أن أصحابها خصصوا سنوات عديدة من أعمارهم، لمعالجة جراحات المنفيين الصحراويين التي ما زالت متقرحة بعد مرور خمس عقود من الصراعات.

في العام 1975، قررت إسبانيا الجلاء عن الصحراء الغربية التي ظلت تستعمرها منذ أواخر القرن التاسع عشر. فوقعت مدريد اتفاقية مع المغرب وموريتانيا تخلت بموجبها عن مستعمرتها لهما، في مقابل الضمان لها مواصلة وضع يدها على خيرات المنطقة (الفوسفات والصيد البحري والرمال). لكن في جنوب الصحراء بالنسبة لموريتانيا، كما في شمالها بالنسبة للمغرب، كان على البلدين مواجهة مقاومة صحراوية مسلحة، كانت قد ظهرت قبل وقت قصير تحت الاحتلال الإسباني: إنها جبهة البوليساريو. فقد كانت غالبية القبائل الصحراوية مناهضة لتقسيم المُستعمِر للصحراء بين موريتانيا والمغرب، الذي قسمها أيضا بين البلدين بحيث أصبح جزء من القبيلة الواحدة في موريتانيا بينما الجزء الآخر في المغرب. وهو ما دفع الصحراويين إلى المطالبة بحقهم في تقرير مصيرهم على غرار باقي الشعوب المسجلة على قوائم الأمم المتحدة.

استفتاء موقوف التنفيذ

في مواجهة ضراوة الحرب، لجأ 50000 صحراوي نحو الجزائر المجاورة. كانوا نساء وأطفالا وشيوخا مرضى أو جرحى، فنصبوا خيامهم وسط صحراء جرداء لا شيء ينبت فيها. في الصيف، تكون الحرارة خانقة والأرض ومواردها المائية الشحيحة مالحة. الأرض مسطحة وصخرية ولا توفر أي نقطة مرجعية يمكن الاهتداء بها وسط الصحراء على مدى مئات الكيلومترات.

وفي هذا الصباح، كانت تنتشر في المجلس (قاعة الاجتماعات) رائحة اليأس. فما عدا بعض المتقاعدين وبعض نشطاء اليسار الشباب القادمين بالأساس من إسبانيا، لا يهتم كثيرون للقضية الصحراوية.

خفضت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة نشاطها في مخيمات اللاجئين الصحراويين بنسبة 20%. والحال أن السكان هنا يعتمدون بنسبة 99% على المساعدات الإنسانية. ويعاني ثلث الأطفال في المخيمات من سوء التغذية، بينما تعاني ثلاثة أرباع النساء من فقر الدم المزمن.

بينما يلجأ المغرب في الجهة المقابلة إلى الاستعانة بلوبيات (مراكز تأثير سياسي) عدوانية للتأثير في هيئات دولية. وهو الحال في فضيحة “المغرب غيت” حيث تم تقديم رشاوى للعديد من الوجوه السياسية داخل البرلمان الأوروبي من طرف الرباط. كما أن المملكة لا تتردد في ممارسة الضغط على إسبانيا وفرنسا من خلال التلويح بالتهديد بورقَتَي الهجرة والإرهاب. بكل تأكيد لا يتحارب المغرب والصحراء الغربية بنفس الأسلحة.

«اللوبي الخاص بنا؟ إنه القانون الدولي والتاريخ. فالتاريخ يقدم الدليل على أن الصحراء الغربية لم تكن أبدا مغربية. وميثاق الأمم المتحدة يقر بأنه من دون القيام باستفتاء لتقرير المصير، فإن الاحتلال المغربي غير شرعي»، تقول العزة ابراهيم. في 1975، اعترفت محكمة العدل الدولية بالفعل بـ «غياب روابط قانونية بين المغرب والصحراء الغربية، بما من شأنه أن يغير القرار 1514 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن مبدأ تقرير مصير الشعب الصحراوي». وفي 1991، وفي مقابل اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين جبهة البوليساريو والمغرب بإشراف من الأمم المتحدة، طالبت هذه الأخيرة المغرب بتنظيم استفتاء لتقرير المصير. لكن تنظيمه ما يزال معلقا، لأن الملك محمد السادس الذي يعلم بأنه في حال تنظيمه سيصوت غالبية الصحراويين لفائدة الاستقلال، قام بدفن الاستفتاء.

هكذا، وبعد مرور خمسة عقود في المنفى، تم تعويض الخيام السوداء التقليدية للصحراويين ببيوت صغيرة بالبناء الصلب مشيدة بكتلة خرسانية أو بالطين المجفف. وإذا كانت الجزائر قد منحت اللاجئين الماء والكهرباء منذ خمس سنوات، فإن الأزقة المتربة غير المعبدة بالأسفلت محرومة من الإضاءة ولا يضيئها ليلا سوى القمر. في المنزل ذو السقف الصفيحي للصحراوية نوارة حمامد عبد الحي، التي لم يكن يزيد عمرها عن 17 سنة عندما تدخل المغرب في الصحراء الغربية، يأوي عدة أفراد من عائلتها. وفي غرفة المعيشة جلست على وسائد، تعيد سرد وقائع الحرب، مستحضرة أشباح الماضي.

«في ذلك الصباح الباكر (البعيد)، هربنا لنحتمي بمغارات من القصف. في تلك السنوات، رأيت أطفالا يموتون من الجروح الفظيعة ومرض السل. كان الموت في كل مكان، وما زلت أرى كوابيس رهيبة أشاهد فيها وجوه أولئك الصغار». تغطي نوارة وجهها بيديها لتخفي دموعها، تقول: «كنت مضطرة للفرار إلى الجزائر، تاركة ورائي جزءا من عائلتي في المناطق المحتلة. لم أرَ أبدا أختي بعد ذلك، ومن أجل سلامتها، لا نتحدث لأن المغاربة يعرفون نشاطي. لا أعرف حتى كيف هو شكلها اليوم».

إحساس بالانتقام

إن الجيل الجديد من الصحراويين الذي وُلد في مخيمات اللجوء، يحمل وزر الصدمات العائلية مثل عبء ثقيل. وتقول المعلمة السابقة بأنها تحس بداخلها بغضب شديد، «كثيرا ما كان الأطفال يسألونني: لماذا نعيش هنا (في مخيمات اللجوء)؟ ولماذا لا يتحدث العالم عنا أبدا؟. فنخبرهم بأن الأمم المتحدة سوف تنتهي إلى الاعتراف باستقلالنا ذات يوم، وتعيد لنا أرضنا». لكن الشباب الصحراوي يبدو أنه لم يعد يثق فعليا في القانون الدولي، وفي تطبيق استقلال لتقرير المصير الذي لا يأتي.

في 13 نوفمبر/تشرين الأول 2020، عندما خرق المغرب اتفاق وقف إطلاق النار (بعد تدخله عسكريا في الكَركَرات)، غرقت جبهة البوليساريو وسط طلبات المتطوعين الشباب الراغبين في الالتحاق بجبهة القتال. «في 2020، عاد ابني محفوظ الذي كان يشتغل في إسبانيا، للمشاركة في الحرب، أسوة بجميع الشباب من أبناء جيله. لكن الجيش الصحراوي اشترط مع ذلك بلوغ سن الرشد والتوفر على تكوين عسكري طويل، لمن يرغبون في التجنيد للحرب. وكان ذلك بمثابة كابح منع كثيرا من الصحراويين الذين كانوا مدفوعين بالرغبة في الانتقام»، تحكي المعلمة السابقة.

و”بدا الداه البندير” البالغ 18 سنة بدوره من الشباب الصحراويين، الذين يرغبون في الالتحاق بالجيش الصحراوي لتلبية رغبته في الانتقام. ففي 6 أبريل/نيسان 2021، طرق بابه رجال يرتدون زيا عسكريا ليبلغوه باستشهاد والده. «كان والدي ضمن أربعة رجال في سيارة، عندما توقفوا ونزل اثنان منهم ليستريحا من عناء الرحلة. ونزل ثالث من السيارة بينما بقي والدي ينتظرهم بداخلها، عندما قصفتها طائرة بدون طيار. فتفحمت جثثه من قوة القصف»، يحكي الداه الابن. كان الداه البندير الأب ضابطا في صفوف البوليساريو، وكان عمره عند مقتله 61 سنة.

«إن الشعب الصحراوي ليست لديه قناعات كثيرة. لكن الموت هو إحدى قناعاته»، تضيف فاطمتو أرملة الداه البندير. عندما ازداد ولدها غرست شجرة في ساحة بيتها، معتقدة بأنهم سوف يعودون إلى وطنهم (الصحراء الغربية) قبل أن يأتي عليهم اليوم الذي سيستظلون بظلها. لكن السنوات مرت وكبرت الشجرة حتى تجاوزت الطفل الصغير وتجاوزت حتى البيت طولا، ولم يعودوا بعد.

منذ استئناف الحرب في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أصبح المغرب يستهدف مدنيين يعيشون في الأراضي المحررة التي تخضع لإشراف البوليساريو. وبحسب الجبهة، فإن عدد القتلى في صفوفهم بلغ 86 منذ 2020، قُتلوا بواسطة مسيرات مغربية من صنع إسرائيلي أو تركي. وتقع هذه المناطق خلف الجدار الرملي الهائل المفخخ بعشرة ملايين لغم، والذي يبلغ طوله 2700 كلم وشيدته الرباط بمساعدة من إسرائيل، من أجل حماية الجزء “النافع” من الصحراء (الواقع تحت سيطرة المغرب بنسبة 80%) من هجمات مقاتلي جبهة البوليساريو. فشرق الجدار ما زالت تعيش بعض الأسر البدوية الصحراوية.

مُسَيّرات وأهداف مدنية

بعد أن طردتها الطائرات بدون طيار المغربية من المناطق المحررة في يناير/كانون الثاني 2022، التحقت خديجتو علي البالغة 69 عاما برفقة 10000 آخرين من الصحراويين بالجزائر. وعلى بعد كيلومترات من مخيم السمارة، وفي مكان ما وسط الصحراء، نصب هؤلاء البدو خيامهم. كان ثمة جمهرة من الأطفال في سن صغيرة ينصتون إلى رواية حول ما جرى للبدو الصحراويين قبل عامين. «قصفت مسيرة إحدى سياراتنا، فقُتل أحدنا. كانت السيارة تحمل كامل مؤنتنا وأموالنا وملابسنا. فتشتتنا بعد ذلك وقد أصابنا الرعب. كان بعض الأطفال قد أصابتهم شظايا من القصف وانغرست في أماكن متفرقة من أجسامهم، كما كانت معنا امرأة حامل. لكن لحسن الحظ اقتفى أثرنا بعض الصحراويين، فهربنا بعد ذلك إلى هنا في الجزائر. وعندما تحلق فوق رؤوسنا طائرة يصاب الأطفال بالرعب».

ويحكي لنا عبد الإله عيسو الملازم السابق في صفوف القوات المسلحة الملكية، الذي يعتبره المغاربة “خائنا” لكونه انشق عن الجيش المغربي في عام 2000، لأسباب من ضمنها رفضه المشاركة في حرب الصحراء الغربية، بأنه سبق أن تلقى أكثر من مرة الأمر بقصف رعاة صحراويين. «كنت حينها أجعل مدى القصف قصيرا جدا أو طويلا جدا، لمنحهم الوقت للتحرك. ضميري مرتاح. لقد طرح العديد من الزملاء أسئلة حول هذه الحرب، لكن لم يجرؤ أحد على رفع صوته، خوفا من انتقام النظام. هذا الصراع هو مأساة»، يقول عيسو.

في الماضي، كان الرحل الصحراويون يتبعون أثر المطر على الدوام، حتى حملوا لقب “أبناء الضباب”. أما اليوم، فإنهم يحلمون برؤية القانون الدولي يسقط عليهم من السماء، بعد أن أصبح على ما يبدو أكثر ندرة من الذهب الأزرق (الماء) في الصحراء.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصحراء الغربية اليوم عبر موقع أفريقيا برس