نفحات معطرة من التاريخ

11
نفحات معطرة من التاريخ .
نفحات معطرة من التاريخ .

أفريقيا برسالصحراء الغربية. في يوم أغر من صيف 1967م ، غادر شاب في ريعان الشباب ليس بالطويل ولا بالقصير ـ ربعة من الرجال ـ المغرب متجها إلى أرض آبائه وأجداده ـ الصحراء الغربية ـ التي هجرها منذ الصبا صحبة ذويه ، بفعل عوامل طبيعية إجتاحتها في أربعينيات القرن الماضي ، من سيول جارفة أعقبها جفاف وقحط أدى بالعديد من الأهالي الصحراويين إلى النزوح في فترات زمنية مختلفة على نحو مماثل ، جنوبا وشرقا وشمالا ، فآله كانوا يقطنون منطقة ( الخط ) الممتدة من بوأكراع جنوبا إلى ( الكربان ) وغربا إلى (بوأصكيعة وأم أصكيعة) اللتان تحاذيان منطقة ( آفرافير) الشبه الساحلية .

نعم ؛ سافر لائذا بالوطن والشعب اللذين أحبهما وسكنا خلده ، حينما وضع حدا نهائيا لغربته وحدد لحياته خطا فاصلا بين الإهتمامات الشخصية والوطنية في مقالة صحفية معروفة نشرها تحت عنوان : ـ الصحراء للصحراويين ـ قبل التفكير في المستقبل السياسي بوقت طويل وهو بعيد ـ جغرافيا ـ عن التوافق المبطن في الصراع الدائر بين المستعمر ودول الجوار حول مصير البلد وأهله الأصليين خاصة ، النظام الملكي في المغرب والدادهي في موريتانيا ولكنه على أقصى تقديركان يقف قريبا منه ـ سياسيا وقانونيا ـ مثل العديد من معاصريه ، إلا أنه يفوقهم دراية وخبرة بحكم دراسته وإطلاعه على المناخ السياسي الدولي السائد ـ أنذاك وعملا بنصيحة مقرب من العائلة ، لديه حظوة لدى مركز القرار في المغرب ، أفشى لهم أن الشاب الصحراوي تقرر في حقه القتل إذا لم يغادر المغرب تلك الليلة في إجتماع سري ترأسه الملك المغربي الهالك ـ الحسن الثاني ـ .

فشد الرجل الرحال متجها صوب منطقة ـ رأس الخنفرة ـ على الحدود الشمالية ، حيث كان ينزل أهله وأقام عندهم ماطاب له من وقت، ليتوجه صوب مدينة السمارة في سيارة من نوع ( دود خي ) حمراء صحبة أخيه ـ مولاي أعلي وعائلته ،عيشتو بنت الحنفي ـ ليصلها يوم 5 مارس 1968م وما إن وطأت قدماه أرض الوطن حتى زف الخبر كالبرق للسلطات الإستعمارية الإسبانية ، نظرا لكثافة المخبرين المجندين ولكونه ـ أيضا ـ أبدى فيما سبق رغبة في الدخول حين فترة مكوثه في الحدود ولم يرغب أحد من المتنفذين مع المستعمر في ضمانه أوكفالته ليتسنى له ذلك ، الأمر الذي فرض عليه المجازفة من أجل مبتغاه ؛ إذ أعتقل من يومه وقبع في الحبس لمدة خمسة أشهر وبعد وساطات عدة ونتيجة لما أبداه من بساطة وتواضع وتصرفات حسنة أزالت عنه الشبهات تم الإفراج عنه وسلمت له وثيقة تسمح له بالتجوالى داخل الإقليم ولكن العيون بثت حوله من قبل السلطات الإستعمارية ، مما فرض عليه التريث والسير في مسعى تعليمي وتوجيهي بالطريقة الممكنة والمتاحة ضمن المقاربة الأمنية والإجتماعية التي تطوق بها الإدارة الإسبانية الإقليم أنذاك ، فكان يتحرك بحذر شديد ، منظم وواع إلى ماشاء الله له ، حتى كان يوم من الأيام ؛ فبينما ثلة من الصحب جلوس يستمعون لبرنامج في الإذاعة البريطانية : (ب ب س) في برنامج ـ الشؤون العربية في الصحافة البريطانية ـ فإذا بالبرنامج يورد خبرا مفاده : أن الإقليم الصحراوي سيقسم بين المغرب وموريتانيا ، فمن مدينة بوأجدور شمالا للمغرب ومنها جنوبا لموريتانيا، فأمبرا أحدهم ، ليعلم محمد سيد إبراهيم بصيري بالنبأ ويردعليه الفقيد : ذلك ما كنا نبغي ، هذ فرصة يجب أن نستغلها ، فتنادوا وكان التأسيس يوم 12 ـ 12 ـ 1969 م للحركة تحت إسم : ـ الحركة الطليعية لتحرير الصحراء التي أقرت مايلي : ـ العمل في سرية تامة بهدف التوعية العامة والتأطير الشامل .

ـ إنشاء مكتب يضم الإخوة التالية أسماؤهم : ـ محمد سيد إبراهيم بصيري .

ـ عبد الحي سيد أمحمد .

ـ غالي سيد المصطفى .

ـ سالم لبصير .

ـ سلامة الداي ، رحمه الله .

ـ سيدي لبصير .

بعد أداء اليمين بشكل جماعي ، حيث وضع الفقيد يده اليمنى على المصحف الشريف ، ليضع أعضاء المجموعة أيديهم بالتوالي فوق يده ويكررون على نحو تلقيني مرددين بعده ؛ المين التالية : ( أقسم بالله العظيم أن لا أخون وأكون مخلصا لوطني وشعبي ، والله على ما أقول شهيد ) ومن المفارقات الغريبة والعجيبة التي حدثت في دورة الوجود من وجهة طبيعية والتي يراها البعض من ذوي الألباب مصادفة غير عادية ، أن ذلك العام ـ 1970 م ـ كان خصبا بصورة لم تشهده الصحراء الغربية منذ ردح من الزمن ؛ كلأ وغطاءا نباتيا رعويا دام لما يقارب ثلاث سنين متتالية ، مما سبب في توافد الكثيرمن البدو الرحل على المدن لإقتناء الحاجيات أو للإ ستجمام في تلك الصائفة ، فتهاطلت الأمطار الغزيرة بعد ثلاثة ليال من التأسيس .

وأغرب منه مالم يتفطن له ـ ربما إلى وقت قريب ـ أي إنسان مهما كان عقله وهو أن هذا المثقف الذي إمتلك أسباب تحقيق المطامح والمبتغيات الدنيوية في مقتبل عمره ، أعرض ونأى بجانبه عنها وأنتحى المسالك الوعرة في ظرف عسيرمن جميع النواحي أدنى حالاته ، الجهل والتخلف الوطني والهيمنة الإستعمارية الفاشية والتآمر الدولي والإقليمي الخفي ـ أنذاك ـ على حقوق شعبنا في الحرية وبناء الكيان الوطني الصحراوي المستقل.

واليوم وبعد مرور واحد وخمسين عاما على فقد هذا العلم الوطني النادر في عظام الصفوات البشرية ، علينا أن نستلهم منه العبرة والأسوة الحسنة ونشد الأحزمة ونستزيد زادا من الوفاء والإخلاص للشعب والوطن لتستمر جذوة الكفاح الوطني متقدة ، بل مشتعلة حتى يتحقق مراد الشهداء أو نستن ـ جميعا ـ بسنتهم التي قالها في إعجاز أحد الشباب الذين كنوا حضورا حين أذيع نبأ التقسيم ( ما أنكدو أنتمو أمركدين إلين نكسمو ) والذي زف الخبر وجسدالمقولة ـ ميدانياـ سنوات بعد ذلك وهو الشهيد ، حمودي ولد لحبيب ولد البو ـ رحمه الله ـ وجميع الشهداء الأبرار وكل من سار على الدرب إلى يوم القرار .