استنفاذ أدوات الخداع

17
استنفاذ أدوات الخداع (بقلم: مبارك سيدأحمد مامين)
استنفاذ أدوات الخداع (بقلم: مبارك سيدأحمد مامين)

أفريقيا برسالصحراء الغربية. وضْع غير مريح هذا الذي يعيشه نظام المخزن المغربي اليوم، كنتيجة متوقعة لسنوات من (أَطْلَ عْلى لُوْبَرْ) بالحسانية و(لَعْكَرْ عَلَى لَخْنُونَ) كما يُقال بالعامية المغربية، وهي أزمة على كافة المستويات الداخلية والخارجية، وذلك بعد تنامي العوامل المُعمِّقة لأزمة الرباط الداخلية وتناقض خطابها الموجه للخارج والداخل؛ فرغم أن المخزن حاول التسويق “لاستقرار داخلي” مزعوم، من خلال انتخاباته الفلكلورية الأخيرة، إلا أن خبراء في الشأن المغربي أكدوا وجود أزمة سياسية داخلية، في ظل استنزاف المخزن لكافة أوراقه التي كانت تُستعمل لخداع الشارع المغربي وكذلك لتسيير الأزمات والقفز عليها للتنفيس السياسي ولو مرحليا، وهي أزمات كان ولازال السبب فيها تراكم الثروة المنهوبة في جيوب أقلية حاكمة مقابل ملايين المغاربة من المطحونين والفقراء، بالإضافة لبلقنة المشهد السياسي الذي أنتج ملايين المغاربة الذين لا يؤمنون بالممارسة السياسية ويقاطعون كل أشكالها، وهذا أثبتته الإنتخابات الأخيرة التي قاطعها 17 مليون من أصل 25 مليون مغربي لهم السن القانوني للتصويت، هذا مع تنامي الوعي بمسؤولية الحاكم الحقيقي للمغرب ودوره في الأزمة، والمتمثل في الملك الذي يعتبر رأس دار المخزن، الأخيرة التي كانت لسنوات تعتمد على “حكومات لا تحكم” وُضِعت في المواجهة والتصادم مع الشعب، ولكن هذه الخُدعة التي وضع فيها القصر حكومات لا تحكم في مواجهة الشارع أصبحت لا تنطلي على المغاربة، فحراك 20 فبراير، وبعد ذلك الريف، كانوا يخاطبون القصر وليس المحكومة، أي أن المغاربة الذين تأثروا بخطاب الدعاية بعدما كانوا يقولون “الملك زوين، المشكل فهذوك لدايرين بيه”، أصبحوا يقولون اليوم للمخزن وبسخرية “ما دام الملك هو الذي يحكم، الإنتخابات لاش؟)؛ ولكي نفهم الوضع الراهن للمغرب لابد من المرور على الماضي لفهم الحاضر، خصوصاً أن أساليب دار المخزن لم يطرأ عليها جديد، مع الأخذ بعين الإعتبار التطورات المهمة التي طرأت على المستوى الإقليمي سياسياً واقتصادياً.

لقد استعمل المخزن منذ الإستقلال الشكلي سنة 1956 عدة “أساليب وأدوات” للتنفيس لتجاوز الأزمات السياسية والاجتماعية الداخلية التي حلت بالمغرب “كحالة الإستثناء” من 1965 إلى 1971، وهي المرحلة التي سيطر بيها الحسن الثاني على مختلف المؤسسات بعد صراع عميق بين القصر وبعض الأحزاب المعارِضة (الإتحاد الوطني للقوات الشعبية)، نتج عنه احتجاجات عارمة (أحداث مارس 1965)، وهي أحداث واجهتها دار المخزن بلغة النار، فلم يجد نظام الحكم في المغرب من طريقة للتعامل مع الأزمة سوى “إعلان حالة الاستثناء” وحل البرلمان واعتقال قيادات الأحزاب المعارضة، ومن حينها أصبح النظام المغربي يحاول إيجاد سبل تضليلية واحتيالية للسيطرة على الأوضاع بأقل الخسائر الممكنة، فاعتمد النظام على أسطوانة “تعديل الدستور”، فتم ذلك مباشرة قُبيل رفع حالة الاستثناء، وتم تعديل الدستور سنة 1970، وهو الدستور الذي لم يأتي فيه النظام بأي جديد وبقت كافة السلط في يد دار المخزن؛ فتكتيتك “تعديل الدستور” من بين الأساليب التي لطالما اعتمد عليها النظام للقفز على الأزمات، ولعل تجربة 20 فبراير ودستور 2011 الذي تعامل به نظام المخزن مع رياح ما كان يعرف ب”الربيع العربي” خير مثال، فقد تغير الدستور ولازالت دار لقمان على حالها.

وبعد الإنقلابين العسكريين سنتي 1971 و1972، استنتج النظام أن الخطر لم يعد مصدره السياسيين والأحزاب فقط، بل أصبحت الآلة القمعية، التي كانت دار المخزن تعول عليها لقمع الأصوات المعارِضة، أكثر خطورة من باقي الفاعلين، فلم يجد من أسلوب يتعامل به مع أزمة الإنقلابات تلك سوى بالتقدم نحو المغامرة الإستعمارية والدفع بالجيش المغربي نحو الصحراء الغربية لاحتلالها سنة 1975، والتخلص من خطر الجيش وإبعاده عن المركز لعشرات السنوات، مع اغتيال قيادات الجيش كما حدث مع الجنيرال الدليمي بداية ثمانينات القرن الماضي، بالإضافة للعمل استراتيجياً لتغيير قيادات الجيش واستبدالهم تدريجيا بضباط لم يراكموا تجربة سياسية وعسكرية، ولم يعيشوا مراحل الإنقلابات ومرحلة ما بعد الإستقلال الشكلي، مع إبعاد رموز القبضة الأمنية من الوزارات القمعية ذات المهام الحساسة كما حدث لإدريس البصري وزير الداخلية ولعنيكَري واستبدالهم بوجوه جديدة تقوم بنفس المهام كالحموشي مدير “ديستي” والمنصوري مدير “لادجيد” نموذجاً.

وما إن فشل المخزن في استعمال ورقة مغامرته في الصحراء الغربية لإقناع الجميع بالصمت، سياسيين وعسكريين، وفي نفس الوقت تأكد الحسن الثاني أن الخطر لم يعد كالسابق ما دام إبنه سيتسلم الحكم في ظروف يطبعها غياب جنرالات الإنقلابات بفعل الإعدامات والشاهدون عليهم بفعل الإغتيالات، وكذلك توفر نخب سياسية تم تدجينها فأصبحت مخزنية أكثر من المخزن نفسه، وقبل وفاة الحسن الثاني ولكي يتم القفز مجدداً على أي أزمة ممكنة في تلك المرحلة الإنتقالية للحكم داخل القصر، أظهر المخزن “تنازلاً شكلياً” بالدفع بالمعارض المغربي اليساري، عبد الرحمان اليوسفي، لرئاسة الحكومة الشكلية بعدما رفع الرجل الراية البيضاء أمام الحسن الثاني تحت غطاء “التناوب التوافقي”، فمرت تلك المرحلة واستمر الحكم بنفس آليات التنفيس والقفز على الأزمات، حتى وصلت مرحلة رياح “الربيع العربي”، وخروج المغاربة في حراك جماهيري قادته “حركة 20 فبراير”، وخرج الملك ليقول ما قاله والده في مراحل سابقة “سنغير الدستور” ونأتي بالمعارضة للحكومة، ولكن الدستور غيرت فيه الكلمات لا المضمون وجاء بحزب إسلامي للمحكومة.

استعمل المخزن اليساريين و”حكومة التوافق”، وبعد ذلك تسويق خطاب “العهد الجديد” لإدارة المرحلة الإنتقالية للحكم نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وعاش المخزن أزيد من عشر سنوات على هذه الخدعة، وبعد ذلك اعتمد على الإسلاميين وخدعة “تغيير الدستور” سنة 2011 للتعامل مع أزمة حراك عشرين فبراير، وعاش بها عشر سنوات أخرى، فعلى ماذا سيعيش المخزن اليوم بعد 2021؟.

فمن يراقب المشهد السياسي الراهن في المغرب، خصوصا بعد انتخابات 8 شتنبر الأخيرة، سيستنتج غياب الأدوات التي يمكن لدار المخزن المراهنة عليها لمواجهة التحديات الداخلية، وهو ما يبرر لجوء النظام المغربي لسياسة العصى تجاه كل الانتفاضات التي تلت حراك عشرين فبراير، كحراك الريف وجرادة ومسيرات الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، واستهداف الصحفيين المغاربة المناهضين لسياسة المخزن، وهي مؤشر على استنفاد “سياسات لقوالب والخداع”، ولعل صعود حزب الحمامة الذي يقوده عزيز أخنوش إبن عتبة دار المخزن يؤكد غياب أي تكتل سياسي يمكن استعماله للقفز على الإضطرابات القادمة، في ظل استماتة جماعة العدل والإحسان في مقاطعة أي انتخابات أو أي تعامل مع دار المخزن، ونفس الشيء بالنسبة لحزب النهج الديمقراطي، رغم الفارق بين الجماعة والنهج من حيث التأثير والأتباع والإمكانيات.

وبعد مرور أشهر على عودة الحرب من جديد للصحراء الغربية بعد مغامرة المخزن في منطقة الكركرات 13 نوفمبر 2020، وتعيين أمين عام حزب الحمامة رئيساً للمحكومة وهو حزب أسسه أحمد عصمان الذي كان والده جندياً في الجيش الفرنسي، كما أن أحمد صهر الحسن الثاني وإبن دار المخزن المخلص، ومع صعود حزب الحمامة الذي يقوده اخنوش في هذه الظرفية، وتغيير الجنرال عبد الفتاح الوراق بالجنرال بلخير فاروق، الذي له تجربة في الحرب السابقة (1975-1991)، وتعيينه مباشرة بعد بدأ مشاورات تشكيل المحكومة، هو بمثابة مؤشر على توجه دار المخزن نحو ترتيب البيت الداخلي قُبيل “الإستثمار السياسي” في الواقع الميداني الجديد المتمثل في وجود الحرب في الصحراء الغربية، وسيكون اعتراف المغرب بالحرب في الأفق القريب، وقد يكون ذلك مباشرة مع أول عملية عسكرية كبرى في الجدار المغربي ينفذها الجيش الصحراوي، وبذلك ستحاول دار المخزن من جديد تصدير الأزمة نحو الصحراء الغربية “كأسلوب جديد قديم” للإلتفاف على الخطر الداخلي الذي أصبح يقوده الشعب بمفرده ميدانيا، بعدما تم تدجين السياسي وإبعاد العسكري.

تقول أغلب المؤشرات أن نظام المخزن لم يتوقع أن تعود جبهة البوليساريو وحكومة الجمهورية الصحراوية للحرب، وهذا بسبب اعتماد المخزن على معطيات وتقارير أمنية فرنسية سابقة همس بها الفرنسيون في أذن محمد السادس والنخبة الحاكمة اليوم في المغرب قائلين: “ماطِل وتراجع عن الإلتزامات، فالصحراويين لن يحملوا السلاح مجدداً”، وهو كلام فرنسي أخذته دار المخزن كقاعدة رياضية يصعب تغييرها، رغم أن السياسة رمال متحركة وطقس يتغير بتغير المعطيات والظروف، وهو ما حدث في 13 نوفمبر 2020 واستطاع الصحراويون التخلص من اتفاق وقف إطلاق النار، والعودة للحرب وجعلها مفتوحة لا أفق محدد لها، والأكثر أن الحرب عادت والبوليساريو استفادت من تجربة سيئة طويلة من المماطلة (1991 – 2020)، ما يعني أن الحرب الراهنة قد يستحيل توقفها دون تحقيق حل يضمن تقرير المصير والاستقلال.

والملاحظ أنه وبعد 13 نوفمبر، تاريخ عودة الحرب، تسارعت تطورات السياسية على المستويين الإقليمي والدولي، بدءاً بتغريدة ترامب وإعلانه “الإعتراف بمغربية الصحراء” وعزم الولايات المتحدة فتح قنصلية بمدينة الداخلة المحتلة، وهو الأمر الذي تراجعت عنه الإدارة الجديدة بقيادة بايدن، ولم يتم افتتاح القنصلية حتى كتابة هذه السطور، كما زاد المخزن من هجومه على دول الجوار وتهديد أمنها، بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” وما يشكله الأمر من تهديد للأمن القومي الجزائري وفتح الحدود أمام آلاف المغاربة للهجرة نحو إسبانيا وقبل ذلك قطع العلاقات مع ألمانيا وهو ما اعتبرته أوروبا عدواناً مغربيا على أمنها واستقرارها.

ومن المرتقب أن تنعكس الخطوات المريضة للمخزن، المشار لها أعلاه، على الإقتصاد المغربي، وبالتالي تعميق المشاكل الإجتماعية أكثر من السابق ، في انتظار قرار محكمة العدل الأوروبية نهاية الشهر فيما يتعلق بالطعون التي قدمتها جبهة البوليساريو تجاه الإتفاق “الأوروبي/ المغربي” الذي يشمل الثروات الصحراوية، وما يشكله هذا الأمر من خسارة كبيرة للإقتصاد المغربي الذي يعتمد بشكل كبير على نهب الثروات الصحراوية، وكذا وجود تنافس جديد على السوق الإفريقية، خاصة في السوق الموريتانية والسنغالية باعتبارهما دولتان كانتا في السابق سوقاً للمنتجات المغربية بشكل كبير خاصة الخضر، ومناطق عبور للمخدرات المغربية في نفس الوقت.

ويُعتبر التوجه الإقتصادي الجديد للجزائر تجاه دول الجوار الإفريقية مفيد بشكل كبير وله انعكاسات إيجابية على الإقتصاد الجزائري، ولكن بدرجة أكبر محاصرة قوى الشر التي تعبث بالمنطقة وتعتدي على جيرانها كالمغرب وحلفائه، مع فتح الحدود مع عدد من الدول المجاورة وتعبيد الطرق لتسهيل الحركة التجارية، ومساعدة اقتصاد عدد من البلدان بمساعدتها في دفع ديونها الخارجية، والدفع نحو حل أزماتها الداخلية لخلق الإستقرار الداخلي لتلك البلدان وتنمية قدراتها العسكرية لمواجهة المخاطر الإرهابية؛ كلها عوامل تجعل البلدان الإفريقية، خصوصا المجاورة للجزائر تجد في الأخيرة حليفاً استراتجياً، على عكس نظام المغرب الذي يسير بمنطق الوعود و بيع المشاريع الإقتصادية الوهمية للكثير من بلدان القارة، بالإضافة لمنهجية الإبتزاز كونها ركيزة للسياسة الخارجية المغربية، وأخيراً تهديد الوحدة الترابية للجزائر وما ترتب عن ذلك من إعلان الجزائر قطع العلاقات مع المغرب وانعكاس هذه الخطوة على اقتصاد المخزن الذي كانت عدد من القطاعات تعيش على ما تجود به الجزائر، كأنبوب الغاز مثلاً، الذي يمر من التراب المغربي نحو أوروبا والذي كانت تحصل منه الرباط على أزيد من 600 مليون متر مكعب من الغاز، أي أزيد من نصف الإستهلاك الإجمالي للمغرب والمقدر ب750 مليون متر مكعب سنويا؛ وهي ظروف راهنة ستضاعف من تأزم الرباط وستزيد من تراجع تأثيرها السياسي في محيطها وستعمق من أزمتها الإقتصادية وما يشكله ذلك من مخاطر على وضعها الداخلي الهش أصلاً.

(بقلم: مبارك سيدأحمد مامين)