أفريقيا برس – الصحراء الغربية. المثقف هوأيضا يعاني من أزمة، ونقصد خطابه السياسي أوالفكري.. لأنه لم يشتغل على ذاته، بقدر ما انْصَرف كليةً إلى نقد الآخرين، وكأن دور المثقف هو الاعتراض فقط من دون أن ينتبه إلى ما إذا كان خطابه يلقى الإصغاء وقابلا للتداول أم أنه ينشر دعوته في فيافي الصحراء.
لا يزال أغلب المثقفين والمفكرين والكُتَّاب يجترون نفس الخطاب، وينضوون تحت نفس العباءة الإيديولوجية، تسيطر عليهم المنظومة الفكرية الأولى التي شكلتهم ولم يعد لها شرعية الوجود في الظرف الراهن. من ذلك مسألة الخلافة الإسلامية، رغم سقوطها المدوي منذ قرابة القرن، لمَّا يزل الحديث عنها يجري كأمل أوكخطر على المسلمين والعالم. وكأن العالم لم يستبعد نهائيا هذا النوع من الإمبراطوريات وأنظمة الحكم التي لم تَعدْ تساوق إطلاقا الحياة السياسية في عالمنا الراهن، الذي صار يتطلع أكثر إلى منظومة من الحَكَامة العالمية التي توفر إمكانية العيش للجميع وفي لحظة زمنية ومكانية واحدة. ولعلّ الذي يفحم الجميع في موضوع الأفول النهائي لإشكالية الخلافة والحاكمية هو أن الثورة الدينية الوحيدة التي قامت في عز القرن العشرين، وبعد تراكم تجارب سياسية مختلفة، هي الثورة الإيرانية.
وهكذا، فأزمة المثقف العربي والمسلم، أنه لم يعد فاعلا، على ما يرى المفكر اللبناني علي حرب في كتابه «أوهام النخبة ونقد المثقف». ومن منظور الفعالية، نجد أن دور المثقف تراجع بشكل يكاد أن يكون تاما بسبب استمرائه لخطاب مستهلك ولم يعد من مستجدات اللحظة التي يعيش فيها هومع مجتمعه وعالمه في لحظة واحدة. والحقيقة أن المثقف الهوّاري عدّى في كتابه حول أزمة الخطاب الديني، لا يصدر عن فكر رجعي ومتهالك، لا بل صارع الواقع من أجل تجاوزه، وفضّل اللجوء إلى بلد اللغة التي يمتلكها ويكتب ويفكر بها ويعيش أيضا منها، ليؤكد أنه يساير العالم كوحدات ومناطق وأوطان مفتوحة على الجميع، أي أنه زمن الحراك البشري الهائل الذي يبحث دائما عن الحق والقانون والعدالة. وتلك هي أوطان المواطنين حيثما كانوا. والهوّاري عدّى، مثله مثل الآلاف العرب والمسلمين الذي لاذوا بالغرب ليس كلاجئين، بل بحثا عن الاستقرار والانسجام، مادام يمتلك اللسان الفرنسي المَسْكَن والمَوْطن الحقيقي للإنسان على حد رأي الفيلسوف الألماني هايدغر. وعليه، على ما فعل المفكر المصري الراّحل نصر حامد أبو زيد، المنْفَى هو الوطن الجديد. فبعد سنوات قضاها في هولندا، تبين له عدم التفكير في العودة لأنه في المنفى يقدم أفضل لمواطنيه وللعالم أجمع.
وثمة مسألة أخرى تطرح في الغرب، ونعنى الإسلام والمسلمين، وتطرح ليس على سبيل المسألة المعارضة التي تعني أقلية على هامش الحياة الاجتماعية والسياسية وآيلة إلى أن تعود إلى بلادها. لا هذا الوضع لم يعد قائما اليوم، بعد المكوث الطويل للجاليات العربية والمسلمة في بلاد «برّة «، على ما كان يذكر منذ أكثر من نصف قرن، عندما كان الأمل يراود الجميع في بناء مؤسسات دولة القانون والحق. لكن، بعد الخيبة الكبرى، صار التعلق والرنو إلى الغرب الذي لم يعد غربا، هو الخلاص النهائي، على أمل أن يأتي زمن آخر بمنظوماته الفكرية وأطره المرجعية ويعيد النظر في ما هو قائم إلى ما هوأفضل. وبتعبير آخر يفيد ذات المعنى، أن نبحث هذه الأزمة ونلتمس لها الخروج ونصحح مساراتها ومصائرها، ليس من قبل أنظمة الغرب وحدها بل بكافة النظم المتوفرة في العالم. وأول ما يجب فعله هو تجاوز فكرة الأقليات والجاليات، كما تجاوزنا العنصرية والاستعمار، وفي انتظار تواري الصهيونية كإمبريالية مالية وسياسة دولية.
الأزمة كمفردة آلت إلى أن تتغيّر يوميا تقريبا، لأنها من القضايا التي تحايث حياة المثقف ورجل السياسة كليهما. ولا نجازف برأي عندما نقول، أن الأزمة ليست مفردة لها دلالة معينة فحسب، بقدر ما أنها تفرض حضورها كإمكانية ذهنية لصياغة الإشكاليات وطرح الموضوعات، وكل بداية لطرق موضوع الأزمة، هي عن أي أزمة نتحدث، خاصة حيال ظاهرة خلق الأزمات وإدارتها المفتعلة وصرف الشعوب عن قضاياها الحقيقية وتصنّع مآزق ومعضلات وهمية.
من متطلبات الأزمة ومقتضياتها النقد، ونقصد به البحث المتواصل مع إمكان جديد وتحقيق شروطه، من أجل تجاوزها إلى ما هوأفضل وأحسن. وبهذا المعنى نفهم جيدا دور الأزمة كآلية تحث على التفكير من أجل التجاوز، وهو ما تعمل به كافة الدول الغربية. وخلاف ذلك نجد أن الأزمات في العالم العربي، خاصة في الجزائر، فالأزمة مطلوبة لحفظ النظام وبقائه والأزمة تعاند في البقاء ليضاف لها أزمات أخرى، يسببها دائما النظام العسكري، الذي يعاني أزمة وجود غير شرعي، ليس فقط لأنه ماسك بأهداب وتلابيب السلطة، ومتحكم في نواتها الصلبة، بل هو صانع الأزمات ومغذيها بحالة عادية وطبيعية، يجب أن يعيشها المجتمع والدولة على السواء. وإذا عَنّ لنا أن نذكر الفرق بين العرب والغرب، رغم سيرورة تماهي الحدود والخصائص، هو أن الفرق يكمن في مشكلة الأزمة، فهي تطرح في الغرب على سبيل معالجتها، بينما تطرح في العالم العربي على خلفية إضافة أزمة أخرى إلى رصيد الأزمات التي لم تعرف الانفراج ولا الحل. ولعّل الأوضاع العربية الأخيرة تمخضت عن انفجار كبير لركام الأزمات التي بقيت تعاند ضمن دائرة إدارة الأزمات، كان دويه أكبر من دوي ميناء بيروت شهر أغسطس/آب 2020، الناجم عن ركام من المواد المتفجرة طالت أكثر من اللازم.
وفي المحصلة، وليست النهائية، وما دام أن المثقف العربي صار هوأيضا أزمة، فيجب المبادرة إلى تجاوزه وتخطيه، كأفضل سبيل إلى ترك فاعلين آخرين أفضل منه يمكن أن يساعدوا على تجاوز الأزمة العامة التي تعصف بالبلاد العربية والإسلامية. ولعلّ مثال الجزائر الذي انتحر فيها المثقف وأعدم نفسه حيال السلطة، شاهد قوي على خروج المثقف عن دوره الذي لم يُكَلَّف به أصلا.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصحراء الغربية اليوم عبر موقع أفريقيا برس