هل يولد الإنسان مجبولا على الخير أم الشر؟

34
هل يولد الإنسان مجبولا على الخير أم الشر؟
هل يولد الإنسان مجبولا على الخير أم الشر؟

أفريقيا برسالصحراء الغربية. هل لدينا استعداد فطري للتمييز بين الصواب والخطأ أم أن الحس الأخلاقي يتطور لدينا مع الوقت بالتعلم والممارسة؟

انشغل الفلاسفة على مدى قرون بمسألة ثنائية الخير والشر في الطبيعة البشرية، ففريق رأى أن الإنسان مجبول على الخير، في حين رأى الفريق الآخر أنه ميال إلى الشر.

وقد رأى أرسطو أن الفضائل الأخلاقية تكتسب بالتعلم، وأن الإنسان يولد بلا أخلاق، بينما رأى سيغموند فرويد أن الإنسان يولد كالصفحة البيضاء لا هو خيّر ولا شرير.

وتوحي رواية “سيد الذباب” للروائي البريطاني وليام غولدنغ بأن الأطفال معادون للمجتمع منذ نعومة أظافرهم، يتحينون اللحظة التي يتحررون فيها من القيود التي فرضها عليهم البالغون حتى يشكلون طائفة دينية لها طقوسها الخاصة، ثم يشرعون في قتل بعضهم بعضا بوحشية.

وقد دار بين توماس هوبز وجان جاك روسو أبرز السجالات حول هذه القضية، إذ وصف هوبز الإنسان بأنه “بشع” و”همجي”، لا يمكنه التعايش مع بني جنسه في سلام إلا في وجود مجتمع وقواعد لكبح جماح غرائزه وشهواته، ولكن روسو عارضه على الملأ، زاعما في المقابل أن الإنسان يظل لطيفا ونقيا طالما كان بمنأى عن فساد النظام الطبقي الذي يفرضه المجتمع وما ينطوي عليه من ظلم وجشع.

وقد أثبتت دراسات حديثة في علم النفس التطوري وجود شيء من “الخير الفطري” لدى البشر، أو بعبارة أدق، أن بعض الأطفال على الأٌقل يتطور لديهم الحس الأخلاقي الذي يمكنهم من التمييز بين الصواب والخطأ في سن أصغر مما كنا نعتقد.

وفي إحدى حلقات برنامج “العالم المثير للأطفال الرضع” على قناة “بي بي سي 2″، عُرضت إحدى الدراسات التي تبحث في مدى قدرة الأطفال على تمييز السلوك الحميد من الذميم، وفي أي عمر تتطور لديهم هذه القدرة.

إذ شاهد أطفال رُضع دون السنة من عمرهم عرضا لعرائس تمثل أشكالا هندسية بألوان مختلفة، وكانت هذه الأشكال تبدي سلوكيات أخلاقية حميدة أو ذميمة لا تخطئها عين. ففي إحدى المرات كانت الدائرة الحمراء تحاول الصعود إلى أعلى، بينما كان المربع الأزرق “الشرير” يدفعها لأسفل، وفي الوقت نفسه، كان المثلث الأصفر “الطيب” يحاول مساعدة الدائرة الحمراء بدفعها إلى أعلى.

وبعد انتهاء العرض، خُيّر الأطفال بين المربع الأزرق الشرير والمثلث الأصفر الطيب. وربما كما توقعت، اختار جميع الأطفال المثلث الأصفر، الذي كان متعاونا وأظهر سلوكا ينم عن رغبة في الإيثار.

وقد لوحظت هذه القدرة على التمييز بين السلوك الحميد والذميم لدى الأطفال الرضع بدءا من الشهر السابع من العمر.

وانتهت دراسة أخرى أجراها مركز التطور المعرفي لدى الأطفال الرضع التابع لجامعة ييل في عام 2010 إلى نفس النتائج، إذ كان الهدف من الدراسة إثبات أن الأطفال يختارون عرائس دون الأخرى بسبب سلوكياتها وليس بسبب متغيرات أخرى، مثل الميل الفطري للون أو شكل بعينه.

ولهذا، كرر الباحثون العرض مرة أخرى أمام الأطفال، ولكن في هذه المرة أدى كل شكل دورا نقيضا لذلك الذي أداه في العرض السابق، فاختار معظم الأطفال الشكل الذي كان أكثر تعاونا أيضا.

وأجرت جامعة كيوتو دراسة مشابهة في عام 2017، باستخدام نفس الأساليب التي استخدمتها الدراستان سالفتا الذكر، ويبدو أنها تؤيد نتائجهما أيضا.

إذ عُرض على مجموعة من الأطفال، كان أصغرهم في سن ستة أشهر، مقاطع فيديو تظهر ثلاث شخصيات تشبه شخصية “باكمان” الكرتونية.

وكان أحدهم “المتنمر” يدفع الآخر “الضحية” بعنف نحو الجدار، بينما يحاول “العميل الثالث” التدخل لمساعدة الضحية، فكان تارة يضع نفسه في المنتصف بين الضحية والمتنمر وتارة يحاول الفرار.

وبعد مشاهدة هذا المقطع، كان على الأطفال الاختيار بين الشخصيات الثلاث. واختار أغلبهم العميل الثالث، الذي كان يحاول مساعدة الضحية.

وتوالت الدراسات التي تثبت أن الأطفال الرضع يظهرون سلوكيات تنم عن الإيثار وحب الخير، مثل الدراسة التي أجرتها جامعة هارفارد وأطلقت عليها اسم “مراقبة الأم”، إذ لاحظ الباحثون أن الصغار كانوا يتصرفون بلطف ويتعاونون مع بعضهم البعض رغم أنهم لا يعلمون أنهم يخضعون للمراقبة، وهذا يدل على أن هذه السلوكيات الحميدة لا تكتسب بالتعلم لتفادي العقاب أو التوبيخ من الشخص المراقِب فحسب.

هذه الدراسات، رغم أنها لا تدحض تماما آراء فرويد وهوبز الأكثر تشاؤما عن الطبيعة البشرية، إلا إنها تبرهن على أن الأطفال الرضع ينزعون بالفطرة إلى تفضيل السلوكيات التي تنم عن الإيثار وحب الخير للآخرين.

كما أنها تؤكد للآباء والأمهات أنهم لو تركوا أطفالهم في جزيرة مهجورة، وإن لم تكن هذه فكرة سديدة، فلن يحاولوا سحق أضعفهم بالصخرة العملاقة، (على عكس ما اقترحه ويليام غولدنغ في روايته “سيد الذباب”).