هل يتسبب البشر حقا في تدمير جميع أشكال الحياة على وجه الأرض؟

19
هل يتسبب البشر حقا في تدمير جميع أشكال الحياة على وجه الأرض؟
هل يتسبب البشر حقا في تدمير جميع أشكال الحياة على وجه الأرض؟

افريقيا برسالصومال. يبدو أن نهم البشر بالاستهلاك يغير ملامح كوكبنا وأشكال الحياة عليه، لكن هل بإمكاننا تغيير سلوكياتنا؟

هناك الكثير من المخاطر الكارثية العالمية التي يعرفها البشر، لكن الإعلام يسلط الضوء على بعض هذه المخاطر أكثر من غيرها. فقد تناولت السينما الأمريكية تداعيات اصطدام النيازك بكوكب الأرض، وانفجار البراكين وتغير المناخ، ولا أحد ينكر أن كل كارثة من هذه الكوارث خلفت تداعيات مدمرة على أشكال الحياة على ظهر الكوكب في الماضي.

غير أن ثمة تهديدا عالميا جديدا كفيلا بتدمير جميع أشكال الحياة على ظهر الأرض، قد أخذ يتطور في الخفاء. ويغذي هذا التهديد نهم البشر الشديد باستهلاك السلع المادية. والمفارقة أن هذا التهديد هو أحد تبعات أنماط حياة البشر أنفسهم.

فإذا نظرت من حولك، ستجد أنك محاط بالسلع المادية، سواء كنت تحتاجها أو في غنى عنها. مع العلم أن كل جزء من السلعة التي تستخدمها، كان محصلة لعمليات وسلوكيات عالمية تؤثر ببطء على الصحة النفسية للبشر، وتستنزف الموارد الطبيعية على وجه الأرض وتتسبب في تدهور المواطن الطبيعية للأنواع الحيوانية على ظهر الكوكب. فهل من الممكن أن تتسبب الأنماط الاستهلاكية المفرطة للبشر، في حال عدم إعادة النظر فيها، في تحويل كوكب الأرض إلى عالم لا يصلح للعيش فيه؟ وهل بوسع البشر تغيير هذه السلوكيات قبل فوات الأوان؟

ونشر فريق من الباحثين من معهد وايزمان للعلوم في “إسرائيل”، مؤخرا دراسة تقارن بين كتلة المواد الاصطناعية الناتجة عن الأنشطة البشرية – أو الكتلة بشرية الصنع- وبين الكتلة الحيوية الطبيعية في العالم، أو إجمالي كتلة الكائنات الحية على وجه الأرض. واكتشفوا أنه للمرة الأولى في تاريخ البشرية، تجاوزت الكتلة بشرية الصنع إجمالي الكتلة الحيوية أو أوشكت على أن تتجاوزها في السنوات المقبلة.

وأشار الباحثون إلى أن كل شخص على وجه الكوكب ينتج في المتوسط كتلة مواد ناتجة عن الأنشطة البشرية أسبوعيا تفوق وزن جسمه. ويقول رون ميلو، الذي أجرى مختبره هذه الدراسة: “إن هذه النتيجة التي تثبت أن الكتلة بشرية الصنع (المواد التي صنعها البشر)، تعادل وزن جميع الكائنات الحية على وجه الأرض، وأن هذه الكتلة تتضاعف بوتيرة متسارعة، تكشف بوضوح أن البشر يؤدون دورا رئيسيا في تغيير شكل كوكب الأرض. فسلوكيات البشر تؤثر تأثيرا كميا كبيرا على الحياة على وجه الأرض”.

ولم تكن هذه النتيجة مستغربة للكثيرين الذين يرون أن البشر قادوا العالم إلى حقبة جيولوجية جديدة أطلق عليها بول كروتزن الحائز على جائزة نوبل وعالم الكيمياء، مصطلح “الأنثروبوسين”، أو حقبة البشر. ولا يختلف اثنان على أن البشر أصبحوا القوة المهيمنة على ظهر هذا الكوكب، ويغيرون بسلوكياتهم جميع أشكال الحياة.

وقد أصبح حجم المواد الناجمة عن الأنشطة البشرية مخيفا. فقد شهد عام 1907 على سبيل المثال، ميلاد عصر البلاستيك المعاصر، لكننا اليوم ننتج 300 مليون طن من البلاستيك سنويا. وقد أصبحت الخرسانة الآن أكثر المواد التي صنعها الإنسان استخداما على وجه الأرض.

وتسارعت وتيرة مشروعات هندسة المناخ في ظل توافر مواد مثل الأسمنت وركام الخرسانة. وأسهمت هاتان المادتان في تزايد الكتلة الناجمة عن الأنشطة البشرية. وأسفرت الاستكشافات الفضائية أيضا، التي بدأت منذ 60 عاما مضى، عن مشكلة نفايات فضائية كارثية. وفوق ذلك، نراقب الآن ذوبان الغطاء الجليدي القطبي والطبقة الجليدية دائمة التجمد وارتفاع درجات الحرارة العالمية.

لكن ما هي جذور المشكلة؟ وهل البشر مجبولون على حب المال والتملك إلى حد مدمر؟ وهل يصبح تراكم المواد التي صنعها البشر مقياسا على معدل إبادة الجنس البشري؟ أم هل تمنح الطبيعة سمات خاصة للبشر تساعدهم على التكيف مع المشكلة؟

صحيح أن ثمة أدلة على أن النزعة المادية تكتسب من الثقافة وتتأثر بها، إلا أن البعض يرى أن الاصطفاء الطبيعي أسهم في تهيئة الجنس البشري لتعلم الرغبة في مراكمة المقتنيات، إذ تمنحنا المقتنيات الحس بالأمان والمكانة، وكلاهما لعب بلا ريب دورا مهما في بداية التاريخ البشري.

وقد ترسخ ابتكار وخلق مواد جديدة في جميع جهود ومساعي البشر للتقدم والارتقاء، بدءا من القصص القديمة وحتى الأبحاث المعاصرة. ويبدأ سفر التكوين بعبارة: “في البدء خلق الله السماوات والأرض”. ودرج البشر على الاعتقاد أن خلق شيء جديد هو الهدف في الحياة وأنه السبيل الوحيد لتحقيق تطلعاتهم. لكننا نسينا أن نضع حدا للاستهلاك.

وقد لا تكفي الحلول التكنولوجية الخضراء وحدها لمواجهة هذه المعضلة، لأنها ستؤدي إلى تصنيع مواد جديدة وزيادة الاستهلاك، ولن تسهم في تغيير أنماط الحياة أو نماذج الأعمال التي أوقعتنا في هذه المشكلة في المقام الأول. فلو أصبحت جميع السيارات في العالم تدار بالكهرباء، على سبيل المثال، ستجد المدن صعوبة في استرداد المساحات المخصصة للطرق في المدن وزيادة المساحات الخضراء، ناهيك عن أن السيارات الكهربائية أيضا تستهلك حصة كبيرة من الموارد الطبيعية في العالم بسبب المواد المطلوبة لتصنيعها.

وتقول إيميلي إيلهاتشام، التي شاركت في إعداد الدراسة التي أجراها معهد وايزمان: “إن الزحف العمراني، وما ترتب عليه من تداعيات بيئية، أسهما أيضا في تراكم الكتلة الناجمة عن الأنشطة البشرية. ونأمل أن يساعد رفع الوعي في تغيير الأنماط السلوكية من أجل تحقيق توازن أفضل”.

ويكفي أن الأجهزة الإلكترونية والإنترنت والأنظمة الداعمة له، تسهم بنحو 3.7 في المئة في إجمالي انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهذه النسبة من المتوقع أن تتضاعف بحلول 2025. ومن الممكن خفض هذه الانبعاثات بتفادي إرسال رسائل غير ضرورية عبر البريد الإلكتروني أو مشاركة صور دون داع على مواقع التواصل الاجتماعي. فهذه السلوكيات التي تبدو طفيفة عندما يمارسها فرد واحد، قد تحدث تأثيرا كبيرا عندما يمارسها الملايين.

وقد تزعم شركات التكنولوجيا الكبرى أنها تتبنى ممارسات خضراء أو تضع أهدافا لخفض انبعاثات الكربون إلى الصفر، لكن في الحقيقة هذه الشركات نادرا ما تشجع الناس على إنفاق وقت أقل على مواقع التواصل الاجتماعي أو الحد من طلب السلع. بل إن الإعلانات والحملات التسويقية تحث الناس على زيادة الابتكار والاستهلاك.

وقد ترسخت الرغبة المفرطة في الشراء وجمع المقتنيات التي تغذي النزعة المادية في العادات والتقاليد والرموز الثقافية. ففي الولايات المتحدة، يحتفل الناس بالجمعة السوداء بعد عيد الشكر. ويصطف الناس يوم الجمعة السوداء في طوابير طويلة أمام مراكز التسوق. وكثيرا ما تقع إصابات وحوادث تدافع بين الزبائن، لكنهم رغم ذلك، مقتنعون أن المكسب يستحق العناء.

وفي حقبة الأنثروبوسين، قد يعلق البشر آمالا على التكنولوجيا لحل جميع المشاكل، حتى لا يضطروا للتخلي عن عاداتهم. ولهذا ابتكروا أكواب القهوة القابلة للتحلل الحيوي وأكياس الاستخدام المتكرر وماصات تصلح للاستخدام أكثر من مرة، لمواجهة مشكلة تراكم النفايات البلاستيكية في البيئة. لكننا في الحقيقة في حاجة إلى طرق مختلفة لتحقيق الاستدامة تركز على مشكلة النهم الاستهلاكي.

وقد ساعد تفشي فيروس كورونا في تذكيرنا بمدى هشاشة الحضارات البشرية وعدم استعدادها لمواجهة مثل هذه الأوبئة، وعلمتنا أيضا أن سلوكيات البشر من الممكن تعديلها بتصرفات بسيطة، مثل ارتداء كمامات، لتخفيف فداحة المآسي العالمية.

وينطبق الأمر نفسه على تعاظم الكتلة الناجمة عن الأنشطة البشرية، فتجاهل المشكلة ليس بسبب قلة الوعي بآثارها، بل لأن البشر بشكل عام ينزعون إلى إنكار الحقائق التي تخالف رؤيتهم للعالم.

وقد يجد البشر عزاءهم في فكرة أن الطبيعة قد تجهز هذه الكائنات ببعض الصفات التي تمكنها من البقاء على قيد الحياة، مهما كانت سلوكياتنا مضرة بالبيئة. وقد اكتشف أن التطور البطيء والتدريجي بالاصطفاء الطبيعي قد لا يحدث في الكثير من الأحيان في بعض البيئات شديدة التلوث.

إذ عثر فريق من العلماء في اليابان في عام 2016، على سلالة من البكتيريا في مصنع لإعادة تدوير القوارير يمكنها تحليل البلاستيك وتحويله إلى طاقة. وهذا يكشف عن الطرق الخفية التي تغير بها سلوكيات البشر أشكال الحياة على وجه الكوكب.

ويعد تكيف الكائنات الحية استجابة للملوثات ظاهرة معقدة. وتقول أليساندرا لوريا، عالمة بيولوجيا بجامعة ماكغيل في كندا، وشاركت في الدراسة: “إن تزايد الكتلة الناجمة عن الأنشطة البشرية سيؤدي على المدى الطويل إلى فقدان المواطن الطبيعية أو تغيرها من خلال التلوث بالمواد التي يصنعها البشر”. وأشارت الدراسة إلى أن الآثار السلبية للتلوث تتفاقم على مدى أجيال عديدة، وإن كانت أساليب التأقلم معها تختلف باختلاف الأنواع المتضررة منها.

وأشارت دراسات إلى أن التكيف التطوري للأنواع من غير المتوقع أن يمضي بالوتيرة التي تكفي لحمايتها من آثار التغيرات البيئية التي سببتها الأنشطة البشرية.

صحيح أنه لا يوجد دليل على أن البشر يدمرون أنفسهم، إلا أنه من الواضح أننا نعرض أنفسنا للمخاطر بتجاهل آثار أنشطتنا على البيئة. فعلى مدار التاريخ، حدثت بعض الانقراضات الجماعية، على سبيل المثال، لأسباب لها علاقة بزيادة حموضة المحيطات. إذ تمتص المحيطات نحو 30 في المئة من ثاني أكسيد الكربون في الجو، ومن ثم تزيد نسبة الحموضة فيها. لكن معدل حموضة المحيطات الآن يزيد بوتيرة أسرع مقارنة بما كان عليه في الـ 300 مليون سنة الأخيرة، بسبب الأنشطة البشرية.

تقول لوريا: “ستتأثر حياة البشر سلبا بفقدان الكثير من المزايا والخدمات التي كان يوفرها لها التنوع البيولوجي. فتلوث المياه على سبيل المثال سيؤثر على خدمات النظام الإيكولوجي، مثل الطعام والمياه، لأنه يتسبب في تراجع تنوع الطعام وجودته وسلامته. فضلا عن أن تدهور الأنظمة الإيكولوجية يمثل خطرا على متطلبات الحياة على وجه الأرض، ولا سيما على بقاء الجنس البشري على المدى الطويل”.

فتأثير الأنشطة البشرية على الكوكب يتجاوز تأثير انبعاثات الكربون أو الاحترار العالمي، وقد تطغى آثار الكتلة الناتجة عن الأنشطة البشرية على هوية كوكب الأرض وأشكال الحياة عليه.

وقد لا يسهم التخلص من بعض المواد، مثل الخرسانة أو البلاستيك، أو البحث عن مواد بديلة عنها، في حل المشكلة الأساسية التي تتمثل في سلوكيات البشر الاستهلاكية ونهمهم بالشراء والتملك. فقد تحولت النزعة المادية إلى عامل خطر واضح قد يؤدي إلى كارثة عالمية.

وإذا عجز البشر عن التكيف والتطور لمواجهة التغيرات البيئية، قد يعتمدون على الذكاء فقط للبقاء على قيد الحياة. لكن أبراهام لويب، أستاذ العلوم بجامعة هارفارد وعالم الفلك يقول: “إن القدرة على تحسين المستقبل هي المؤشر الحقيقي على الذكاء. فإذا تمسكنا بهذه السلوكيات وواظبنا عليها، قد لا نبقى على قيد الحياة لفترة طويلة. وفي المقابل، قد تصبح أفعالنا مصدر فخر لأحفادنا، إذا أسهمت في قيام حضارة تتمتع بذكاء يكفل لها البقاء لقرون طويلة”.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here