الاستبداد ليس خيارا؛ لماذا انهارت التجارب الديمقراطية الحديثة؟

13
الاستبداد ليس خيارا؛ لماذا انهارت التجارب الديمقراطية الحديثة؟
الاستبداد ليس خيارا؛ لماذا انهارت التجارب الديمقراطية الحديثة؟

صقر أبو فخر

أفريقيا برس – أرض الصومال. في أُوار الحروب المستعرة اليوم في سورية واليمن وليبيا، وبطريقة مختلفة في العراق ولبنان والسودان، وفي خضم النتائج السياسية التي تمخض عنها استيلاء الجيش على السلطة في مصر والانقلاب على الدستور في تونس في العامين 2013 و2021 على التوالي، وإزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم في مصر، راح مثقفون ومفكّرون والكُتّاب يعاودون الكلام على أن حل مشكلات عالمنا العربي إنما يكمن في الديمقراطية، لا في أي أمر آخر. وبهذا المعنى، باتت الديمقراطية وَصفةً خلاصية أو يوتوبيا جديدة، أو من عجائب القديسين والأولياء الصالحين التي من شأنها، في ما لو تحققت، أن تشفي أجسادنا ونفوسنا ومجتمعاتنا من أمراضنا المتفاقمة. وجاء هذا “الاكتشاف” في سياق الخذلان الفكري والسياسي والشعبي لمشروع الخلافة الاسلامية الذي رفعت رايته منذ نحو قرن جماعة الإخوان المسلمين ثم حزب التحرير الاسلامي، وكذلك في ميدان العيش تحت رحمة السلطات المستبدّة. غير أن الأكثر أهميةَ في إدارة أعناق الناس اليوم نحو الديمقراطية كان فشل الدول التسلطية في إدارة مصالح الشعب، مثلما فشلت الدول شبه الديمقراطية وشبه الليبرالية في مصر وسورية والعراق في هذا الأمر. لكن لا أحد قدّم، حتى اليوم، الإجابة الشافية عن تلك الديمقراطية الموعودة، معنى ومبنى وتفصيلات وهويات ودساتير وقوانين ونظم. وما بين أيدينا من أطروحات في هذا الشأن، إنما هو في معظمه مطارحات فكرية وسرديات تاريخية متفاوتة القيمة والفاعلية والواقعية.

يعتقد كثيرون أن الديمقراطية تعني، أولاً وأخيرًا، حكم الأغلبية، ولتذهب الأقلية إلى المعارضة، وهو كلامٌ صحيح شكليًا، لكنه ساذج، وربما خبيث في المضمون، لأن ذلك سيُترجَم في سورية، على سبيل المثال، إلى حُكم السُنّة، أو إلى حكم الشيعة في العراق، أو إلى حكم الزيدية في اليمن، وإلى حكم الشيعة في البحرين وربما في لبنان. فالأغلبية عند هؤلاء هي الأغلبية الطائفية لا الأغلبية السياسية كما هي الحال في ديمقراطيات العالم المعاصر. والسؤال الملحاح هو: لماذ تفشل عملية الانتقال إلى الديمقراطية في كل مرّة تتحرّك فيها نخب المجتمع وطلائعه نحو الديمقراطية؟ وكيف يتحوّل تحرّك اجتماعي كالاحتجاج الشعبي، وهو شأنٌ ديمقراطي خالص، إلى سلطة جديدة غير ديمقراطية مدجّجة بأجهزة عاتية لفرض القمع، كما يجري في شمال سورية وفي اليمن وليبيا والعراق؟

لقد نجحت حركة الاحتجاجات في ليبيا واليمن في إسقاط سلطة الحكم في البلدين، لكنها سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية دمّرت الدولة. وفشلت حركة الاحتجاجات في سورية في إسقاط الحكم، غير أنها تحوّلت، هي أيضًا، إلى حرب أهلية متمادية. وعلى هذا النحو، فشلت جميع حركات الاحتجاج العربية في ابتداع حتى إدارة ديمقراطية في المناطق التي سيطرت عليها، بل هَوَتْ إلى سلوكياتٍ منفّرة في معظم النواحي والمناطق التي تسلطت عليها بالقوة القاهرة، وما برحت، مع ذلك، ترفع لواء الديمقراطية. وهذا التناقض هو من مفارقات التاريخ الحديث الذي برهن أن الثورات الشعبية لا تؤدّي بالضرورة إلى الديمقراطية. فالثورة الروسية في سنة 1917 ضد الاستبداد القيصري حملت إلى الشعب الروسي الاستبداد الستاليني. وثورة الجيش ضد الملكية في مصر في سنة 1952 لم تأتِ بالديمقراطية قط. والثورة الشعبية ضد الشاه محمد رضا بهلوي في سنة 1979 جاءت بدكتاتورية الخميني والاستبداد الديني. والسؤال الحائر والمحيّر هو: لقد عرفت بعض الدول العربية مثل مصر وسورية والعراق النظام البرلماني الديمقراطي منذ نحو 75 عامًا، أي غداة استقلالها عن الاستعمارَين الانكليزي والفرنسي. وتجلى ذلك النظام البرلماني في دورية الانتخابات وتداول السلطة والحريات السياسية والنقابية والصحافية… إلخ. فلماذا فشلت إذاً تلك التجربة الديمقراطية في الدول المذكورة؟ ومَن يضمن ألا تفشل الديمقراطية مرّة أخرى كما فشلت في الماضي؟

الاندماج والمدينة والدولة

أدّى انتكاس التجارب الديمقراطية في الدول الثلاث، في المحصلة، إلى تأسيس سلطة الحكم على قوائم غير ديمقراطية بعد مرحلةٍ ديمقراطيةٍ قصيرة، وكان ذلك نتيجة أولى، بحسب اعتقادي، لظهور دولة إسرائيل في قلب المشرق العربي التي شكّلت تحدّيًا قوميًا غير مسبوق، وخلاصة مهيبة لفشل تلك الدول في سياسات التنمية، ولتعثر الاندماج الاجتماعي والوطني بين العناصر التكوينية لتلك الدول، ولإخفاق السلطات الجديدة في تطوير نظامٍ عصريٍّ للتعدّدية Polysystem. وكان لهذا الإخفاق في إدارة التعدّدية الشأن الأبرز في العودة إلى الولاءات الوشائجية، وإلى العلائق التراحمية، والهويات الإثنية والطائفية، وتراجع فكرة الولاء للوطن قبل أي ولاء آخر. ولا ريب عند كاتب هذه المطالعة أن مفتاح الاندماج الوطني والاجتماعي هو بناء الدولة الوطنية العصرية التي وحدَها تستطيع إنجاز التدامج من خلال مؤسساتها الكبرى، كالجيش وجهاز التعليم والثقافة وهيكل الدولة البيروقراطية، علاوة على مؤسّسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة. وهذا ما لم يحدث إلا جزئيًا، وبالتالي كان من المحال الوصول إلى مرحلة الاندماج الوطني من دون دولة حديثة.

الاندماج الاجتماعي والوطني هو الذي يرسّخ، بالضرورة، مجتمعًا مدنيًا حقيقيًا. وشرط نشوء المجتمع المدني وتوطيده وجود مجتمع حديث مؤلف من دولة وحكومة ومواطن، أي من مواطنين أحرار ومتساوين. والمواطن هنا هو دافع الضرائب الذي يموّل الجزء الأكبر من نفقات الدولة. وبهذه الصفة، يصبح شريكًا سياسيًا للحكومة في اتخاذ القرارات، وله الحق في محاسبة الحكومة بجميع ضروب المحاسبة، كالتظاهر والاضراب والاحتجاج، على أن تحمي الدولة بقوانينها ذلك الحق، خلافًا للدول الريعية التي يعتاش المواطن فيها على بيت مال الدولة وأُعطياتها ومكرمات حاكمها. وهذا المواطن لا يستطيع أن يقول لا للحكومة أو لأُولي الأمر في الدولة، ما دام يأكل من معجن حاكمها ويضرب بسيفه.

أرست البلدان التي شهدت تطورًا برجوازيًا حقيقيًا، أي بلدان أوروبا الغربية، نظامها الديمقراطي على قاعدة الانصهار القومي، بل يمكن القول إن هذا الانصهار هو الذي مهد الطريق للديمقراطية، ووفّر شرطها الموضوعي الأول، فهو مقدّمة لا بد منها، لا للتقدّم فحسب، بل لتأسيس قاعدة متينة للبناء القومي الشامل أيضًا. وهذا ما كتبه المفكّر السوري، ياسين الحافظ، قبل نحو نصف قرن (راجع: ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا، بيروت: دار الطليعة، 1979، الطبعة الثانية، ص 187). ولأن ديناميات الاندماج الاجتماعي كانت ضعيفة، ولأن الحكومات “الديمقراطية” فشلت في الانتقال الحاسم بمجتمعاتها من الروابط القرابية (القبيلة والعشيرة والعائلة والمذهب) إلى الروابط الترابية (الوطن والدولة)، فإن الاتجاه نحو الدولة التسلّطية لم يكن خيارًا بل إرغامًا، إذ لم تكن لدى الدول العربية الجديدة التي نالت استقلالها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خيارات كثيرة، بل أُكرهت، إلى حد كبير، على اللجوء إلى شكل من أشكال الحكم التسلّطي، كي تحمي الكيان الهش للدولة حديثة الولادة، وتحمي المجتمع من التفسّخ. وكان من المحال تأسيس تلك الدول على قواعد الديمقراطية والتعدّد ما دامت لم تحقّق اندماجًا حقيقيًا بين مكوّناتها المبعثرة، فاتجهت إلى قانون التسلط، أو الحكم الشديد، إما بالجيش (مصر وسورية والعراق والسودان)، أو بالتدين المقترن بالثروة (السعودية ودول الخليج العربي)، أو بمقادير من هذا وذاك (الجزائر وليبيا). وفي هذا الميدان التاريخي، قال الملك فيصل الأول عن العراق: “إن البلاد العراقية من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، وهو الوحدة الفكرية والملّية [القومية] والدينية. فهي والحالة هذه مبعثرة القوى منقسمة على بعضها. وفي اعتقادي أنه لا يوجد في العراق شعبٌ عراقي بعدُ، بل توجد تكتلاتٌ بشريةٌ خالية من أي فكرة وطنية، ومشبعةٌ بتقاليد وأباطيل دينية، ولا تجمع بينها أي جامعة؛ سمّاعون للسوء، ميّالون إلى الفوضى، مستعدّون دائمًا للانتفاض على أي حكومة كانت” (أنظر: عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية في العهد الملكي، خمسة مجلدات، صيدا، مطبعة العرفان، 1953، الجزء الثالث، ص 286-287)، ولم تتغير الحال في العراق حتى يومنا هذا.

الديمقراطية الحديثة الغائبة عن سمائنا العربية هي النتاج الطبيعي لغياب المدينة الرأسمالية، أي المدينة التي تغلبت على أريافها الفلاحية بالانتاج الرأسمالي، لا بالاجتياح البدوي، وتمكّنت من تطوير تلك الأرياف بالتدريج. بينما ظلت المدينة العربية مجرّد مكانٍ مكرّس لمؤسسات الحكم وثكنات الشرطة والعَسس وسكن الموظفين ودكاكين التجار ومستودعاتهم ومشاغلهم الحرفية، أي أن هذه المدن لم ترتقِ إلى طراز المدن الحديثة ذات البنية الشبكية والأحياء المتفاعلة، بل استقرّت على أحياء متجاورة قليلة التفاعل، خصوصًا إذا اتخذت أحياؤها سماتٍ طائفية (حارة النصارى، حارة اليهود، حارة الأرمن، حارة المسلمين). فالمدينة City تتألف من المواطنين Citizens، بينما المدينة العربية أقرب إلى أن تكون Towns أي مجموعة من المباني المشيّدة. لذلك ليس من المستغرب في تلك الأحوال أن تظهر في المدن العربية الحديثة دعواتٌ مناوئةٌ للحداثة ولسفور المرأة وتعليمها وعملها، وضد اختلاط الجنسين، وضد ارتداء الملابس الافرنجية، وضد اعتمار القبّعة، وضد حرية الصحافة والأحزاب وضد الديمقراطية بالتحديد. وقد توسّعت المدينة العربية التقليدية نحو أحياء جديدة (القدس، دمشق، حلب، القاهرة)، وهو ما يمكن أن تُؤرّخ به بداية الحداثة المدينية أو العصرنة التي كان من سماتها خروج العائلات الثرية من قلب المدينة القديمة إلى الأحياء الحديثة المجاورة. وهنا ظل التفاعل بين الأحياء القديمة والجديدة مباشرًا ويوميًا، لأن أماكن العمل بقيت في أسواق المدينة القديمة، فيما صارت أماكن السكن خارجها. وعلى هذا المنوال، صار في المدينة مجتمعان متخالفان في المكان، ومتوافقان، إلى حدٍّ ما، في المصالح وعلاقات القربى. لكن ما جرى لاحقًا بعد فشل مشروعات التنمية وتدفق سكان الأرياف على المدن بحثًا عن العمل والوظائف، كان ظهور الضواحي التي، خلافًا للأحياء الجديدة، أعرضت، بحكم تكوينها البشري، عن التفاعل مع المدينة، إلا في الحد الأدنى، كالعمل والمعاملات والمبادلات والبيع والشراء، وظلت على تفاعلها اليومي مع منابتها الأصلية، أي مع عائلاتها وعشائرها القاطنة في المناطق الريفية المتحدّرة منها. ومن البدهي أن تعود الولاءات الطائفية والإثنية والعشائرية بقوة فور اندلاع أي حركةٍ من حركات الاحتجاجات الشعبية التي تُحرِّر، بقوة اندفاعها، التناقضات الكامنة من قبضة السلطات.

وفي أي حال، ما إن تلوح أي مبادرة انفتاح من النظم التسلّطية حتى ترى فيها العصبيات المقموعة علامة من علامات ضعف الدولة، فتبادر إلى الإنفلات من إسار المركز، أي من مدينة السلطة، أو من سلطة المدينة. وبهذا الانفلات تنتقل العصبيات المقموعة من رفض النظام السياسي إلى رفض الدولة نفسها (راجع: غسّان سلامة، أين هم الديمقراطيون؟ في ديمقراطية من دون ديمقراطيين: سياسة الانفتاح في العالم العربي الاسلامي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000).

عياء الديمقراطية

الحكم الديمقراطي غاية سامية تتطلع إليها الشعوب العربية قاطبة. ولستُ أدري على وجه اليقين هل إن هذا الاستنتاج بدهي لا جدال فيه، أم إنه مجرّد رغبات صاغتها النخب العربية المتنوّرة. ومهما تكن الحال، فإن التجربة الواقعية لمسار الديمقراطية في الدول التي انطلقت منها حركة الاحتجاجات منذ سنة 2010 فصاعدًا، أفصحت، بجلاء ووضوح، عن أمورٍ لم تكن في الحسبان مثل اندلاع الصراعات الأهلية، وتقاتل الهويات الرثّة، وصعود مكانة الجماعات الدينية المعادية أصلًا للديمقراطية. وفي هذا الميدان، أظهرت المعارضات العربية، المفترض في أسباب نشوئها أن تسعى إلى الحرية والديمقراطية، عجزًا مفضوحًا عن تبنّي قيم الديمقراطية كقبول الآخر والتعدّدية السياسية والدينية والحق في الاختلاف، وراحت تتبعثر وتتشظّى، وتخوضُ، بكل استمتاع، صراعات بينية مسلحة حتى أضحت عنوانًا للمصائب في كل مكانٍ حلّت زُمرها فيها، وباتت نموذجًا للحماقة السياسية وللفاشية المسلكية في الوقت ذاته. وحريٌّ بنا أن نتذكّر أن من أصعب الأمور على أي سلطة شرعية هو إدارة الانقسامات في المجتمع، دينية أَكانت أم إثنية أم قبلية، خصوصًا في مجتمعاتٍ تشهد تذرّرًا جرّاء صعود الجماعات المتطرّفة المسلحة، كما وقع في العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا. وفي هذه المجتمعات، لا تصبح الديمقراطية لدى المعارضات الطائفية المسلحة أولوية سياسية، بل تصبح الأولوية للهويات الطائفية، وتُمسي غايتها تكثير الوزن السياسي لهذ الجماعة أو تلك، وتأمين الحماية لها من خلال التبعية للخارج. وقد برهنت المعارضات العربية، في معظمها، واستثنى منها بعض المعارضات العلمانية واليسارية، أنها لا تختلف في وَخَمها عن السلطات الحاكمة التي تعارضها، بل إنها، في تكوينها الأصلي، أُسّست على غرار السلطات إياها وروافعها الإثنية أو القبلية أو الطائفية.

من نافل الكلام إن المجتمعات التي تكون الانقسامات الإثنية والطائفية فيها واضحة وجلية وعميقة، تكون الديمقراطية فيها هشّة ومضطربة ومخصية في أحيان كثيرة. والديمقراطية، بحسب تاريخها في المشرق العربي، ليست نظامًا قويًا بالضرورة كي تواجه الدولةُ بها التفسّخَ الاجتماعي والتشققات الهوياتية. ودليلنا على ذلك أن الديمقراطيات الوليدة في سورية والعراق، وحتى في مصر، لم تصمد أبعد من خمسينيات القرن المنصرم. كما أن الثورة في سبيل الحريات والديمقراطية والعدالة ربما لا تُفضي في أحوالنا الحاضرة إلى إقصاء السلطات غير الديمقراطية وإزاحتها، بل إلى انهيار الدولة بكاملها. والخطاب الطائفي للجماعات المسلحة هو الذي حوّل شرائح واسعة من الناس إلى الاحتراس من عقابيل تلك الاحتجاجات، وجَعَل علمانيين ويساريين كثيرين ممن تعاطفوا مع حركات الاحتجاج في البداية يشعرون بالتهديد المباشر لهم. وبالتدريج راحوا يميلون إلى الحياد تجاه السلطة القائمة. وكان الخوف على أجهزة الدولة ومؤسساتها الحيوية والضرورية لحياة الناس اليومية هو الدافع الأساس إلى اتخاذ ذلك الموقف، وليس الخوف على السلطة الحاكمة أو على النظام غير الديمقراطي. ولا ريب أن جانبًا من الأجوبة اللجوجة عن عياء الديمقراطية ومصاعبها، وربما استحالتها، يكمن لا في رؤوس المفكّرين المجتهدين المتنوّرين، بل في المجتمع نفسه، أي في بنيته الموروثة وتكوينه البشري (ريف/ مدينة، بدو/ فلاحون، سنة/ شيعة، عرب/ كرد، مسلمون/ مسيحيون). ويكمن كذلك في مستوى الاندماج الوطني، ومدى شيوع قيم الليبرالية في أوساط النخب المؤثرة، وفي عمق انقساماته، وفي تنافر العقائد التي تعتنقها جماعاته المختلفة وإثنياته المتفرقة. وقد أعاقت تيارات الاسلام السياسي، بصنوفها المتعدّدة، عملية الاندماج الوطني وتطوير النظام الديمقراطي في الماضي. وها هي اليوم، ومعها السلطات الحاكمة، تعيق السعي إلى وضع حدٍّ للحروب الداخلية التي لم تؤدّ قط إلى أي نتيجة غير التدمير والخراب.

مبدأ المساواة هو عماد الدول الحديثة، والأساس الذي تُبنى عليه عملية الاندماج الاجتماعي. لكن كثيرين من رجال الدين والمفكّرين الدينيين ظلوا يقاومون هذا المبدأ بشراسة، مستندين في ذلك إلى قوتهم الناجمة عن احتكار الأوقاف وإدارة المساجد والإشراف على التعليم الديني، فضلًا عن الإفتاء والقضاء الشرعي وغير ذلك، وإلى عفشهم الفكري المتقادم عن أن الاسلام لا يقرّ المساواة، لأن المؤمن لا يتساوى والكافر، ولا يتساوى مع الذمّي، والحرّ غير العبد، والرجل غير المرأة. ثم إن النص في الدساتير على أن الإسلام دين الدولة، وعلى أن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، يلغي المساواة ركنًا أساسيًا من أركان الديمقراطية. ثم إن الثقافة العامة للجماعات الاسلامية المعتدلة والمتطرفة معًا، تناوئ الديمقراطية بلا أي لَبس، فالإخوان المسلمون يرفضون الديمقراطية، لأنها تعني “حكم الشعب لنفسه من خلال الدستور”، بينما يرون أن “الحكم لله من خلال الشريعة”. وليس من المستغرب أن يقول المفكر الإسلامي عبد الحليم عويس إن “الديمقراطية أصل كل شر” (جريدة “الجريدة” الكويت، 3/9/2009)، أو أن يعلن المرشد الإخواني مصطفى مشهور إن الديمقراطية تحارب الاسلام (مجلة “الدعوة” العدد 57، كانون الثاني/ يناير 1981)، وأن يرفع عبد المنعم الشحات، المتحدث باسم الدعوة السلفية في مصر، الصوت محذراً من خطر الديمقراطية “لأنها تجعل مرجعية التشريع للشعب” (صحيفة الشرق الأوسط، 18/4/2011).

الدولة التسلطية

كل دولة هي تسلطية، لكن مقادير التسلط تختلف بين هذه وتلك، فالدولة الدستورية الليبرالية في غرب أوروبا وأميركا الشمالية هي تسلطية، وعلىى غرارها كانت رأسمالية الدولة في أوروبا الشرقية في عهد الشيوعية، وكذلك الدول الرأسمالية التابعة في العالم الثالث. وفي دول الرعاية Welfare States يزداد تسلط الدولة الحديثة على حياة الأفراد والجماعات من خلال الأجهزة المتشعّبة التي تريد معرفة كل شيء عن الفرد منذ ولادته، بذريعة ضبط سجلات الوقوعات الشخصية والتأمين والضرائب والرواتب والدخل والإنفاق ووضع الميزانيات، فضلاً عن تسجيل الوضع الصحي للفرد وتطوّراته وتقلباته، وكذلك أحواله النفسية واستعداداته الجرمية. وفي مجتمعات ما بعد الحداثة، لا تعمل السلطات بموجب الحق وحده، بل بموجب متطلبات التقنية التي تنحو إلى معرفة كل شيء. كما أنها لا تعمل بواسطة القانون فحسب، بل بواسطة الضبط؛ ولا بأسلوب العقاب المباشر أو الفوري، بل بواسطة الرقابة. ولأن التشققات الاجتماعية في بلدان مثل العراق وسورية (ولبنان بالتبعية) على ما علتم وذقتم، فقد تبنّى عبد الرحمن الشهبندر، في الماضي، نظرية “المستنير العادل” مقتفيًا في ذلك خُطى الإمام محمد عبده الذي رفض مبدأ التمثيل النيابي، وطوّر فكرة “المستبد العادل” المشهورة. وعلى منواله، لم يكن الشهبندر مغرمًا بالدولة البرلمانية الديمقراطية، وكثيرًا ما دعا إلى توافق إرادة النخبة الحديثة وإرادة الزعيم المتنوّر مع المصلحة العليا للأمة، ونادى بـِ “حكومة القاهرين” التي تسير بالناس إلى الأمام، وتحول دون تفتتهم، وتطبع في نفوسهم احترام الدولة (عبد الرحمن الشهبندر، حاجتنا إلى التجانس، مجلة المقتطف، القاهرة: نيسان/ إبريل 1934). ويضيف: “ليس من مصلحة بلادنا في شيء أن نطلب لها الحكم الديمقراطي، قبل أن نحصل على رُحى اجتماعية نطحن بها الجماهير العربية فنجعلها متجانسة، ونزيل من بينها الفروق التي تجعل وحدة الرأي فيها بعيدة التحقق. ومن العبث أن نسوس البلاد بالتعاون والاشتراك، والسواد منا يعتقد مثلاً أن الإدارة الكاملة هي إدارة القرون الوسطى” (الشهبندر، المصدر السابق نفسه). وعبارة “رحى اجتماعية” يقصد بها الشهبندر وسائل الاندماج الوطني. وكلمة “الطحن” تعني التدامج أو التجانس، وقد استعمل كلمة “الطحن” لتنسجم مع كلمة “الرحى”. أما “إدارة القرون الوسطى” فتعني الإمامة والخلافة. ويقول الشهبندر في مقالة أخرى: “إذا كان القُطر العربي متمتعًا باستقلاله التام فخير ما يناله أن تتاح له يد مستبدة عادلة تنقذه من الفوضى التي تتخبط فيها أكثر الأمم الحاضرة” (الشهبندر، مجلة المقتطف، القاهرة، آذار/ مارس 1934).

ويكاد هذا الرأي يتطابق مع ما دعا إليه مكيافيلي في كتاب “الأمير”، حين قال: “السلطة المفيدة ليست هي السلطة التي ينتزعها الشعب، بل السلطة التي يمنحها الشعب للحاكم، على أن يكون الحاكم فاضلاً ومترفعًا عن المصالح”. وكان سقراط رفض منذ قديم الزمان الديمقراطية التي كانت شائعة في عصره، أي سلطة الأكثرية التي آلت إليها بالخيار السياسي الحرّ لمَن يحق له الانتخاب. ودعا سقراط، عوضًا عنها، إلى الديمقراطية المؤسَّسة على العقل والأخلاق. أما تلميذه أفلاطون فأعرض عن الديمقراطية في كتاب “الجمهورية”، ونادى بالحاكم المتمتّع بالفضيلة، وهو ما يؤدّي، بالضرورة، إلى العدالة. والفضيلة لدى أفلاطون تقوم على ثلاث قوائم، ولا تنتصب من دونها: الحكمة والشجاعة والنزاهة، وهذا هو ثالوث العدل تماماً. لذلك رأى أفلاطون أن على الحاكم، كي يكون عادلاً، أن يكون فاضلاً ومستنيرًا. ومن هنا نشأ مفهوم الحاكم العادل والمستنير حتى لو كان مستبدًا.

ربّ قائل إن مواعظ سقراط وأفلاطون ونصائح مكيافيلي ما عادت تصلح لهذه الأيام، وإن أفكار محمد عبده وعبد الرحمن الشهبندر ربما كانت مقبولة أو ممكنة قبل نحو قرن، لكن ترويجها اليوم ربما يصبّ الماء في طاحونة الاستبداد العربي، ويعيق تطوير الأفكار الديمقراطية لتتلاءم مع المرحلة الانتقالية التي ستؤدّي إلى انبلاج فجر الديمقراطية في بلادنا. والحقيقة أنني لا أخدم في ما أكتب أي فكرة، ولا أُروّج أي نظرية، وإنما أنقد بعض المقولات الرائجة، وأحاول تفكيكها ثم إعادة تركيبها لاكتشاف هل من الممكن أن تتلاءم تلك المقولات مع أحوالنا، بما في ذلك مقولة الديمقراطية. وغايتي في ذلك المساهمة النظرية في مسألة بناء الدولة العادلة التي تقع على منكبيها مسؤولية تحقيق الاندماج الوطني والاجتماعي أولوية لا تتقدّمها أي أولوية أخرى، على أن تكون تلك الدولة المتخيلة دولة حامية للشعب وراعية له، وعادلة في الوقت نفسه، وعَلمانية من بابها إلى محرابها.

نعم، لستُ مغرمًا بالثورات الاحتجاجية التي ترفع صبحَ مساء لواء الديمقراطية. ومَن يتمكن من جلب الديمقراطية إلى ديارنا فلن ندعو إلى عرقلة سعيه قط، وسنرفع له القبعة بالتأكيد، ونعلق له النياشين. لكنني، في خضم هذه الأهوال التي تغمرنا، أتطلع إلى مشروع ثوري وواقعي في الوقت نفسه لبناء الدولة الحديثة، مقتفيًا فكرة هيغل عن الدولة، أي حضور العقل في المجتمع. ولعلني لا أضيف أي شيء إلى ما كتبه عزمي بشارة مرارًا أن الاصلاح المتدرّج هو البديل الأفضل. (راجع، عزمي بشارة “الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، بيروت- الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020). وكل إصلاح، ولو محدود، يؤسّس إصلاحًا آخر فوقه. وهكذا بالتراكم ربما تنتصب قوائم الدولة الحديثة الديمقراطية العلمانية. وبغير ذلك، بحسب اعتقادي، لن يُنتِج التأملُ في أحوالنا، والتطلع إلى التغيير السياسي، إلا أفكارًا هائمة وهائجة ومتقادمة أيضًا؛ فقد شهدنا خلال عشر سنوات عقابيل التجارب المدمّرة والدموية والمأسوية بما لا نحتاج معها المزيدَ لاختبار تلك الأفكار؛ فالاستبداد خيرٌ من الفوضى القاتلة والمهلكة. أليس كذلك؟ نقول هذا القول قياسًا على آراء الفقهاء في قولهم: الحاكم الظالم خير من الفوضى. وحريٌّ بنا هنا أن نتذكّر أن الديمقراطية هي إحدى منتوجات الحداثة والتنوير في أوروبا. لكن الحداثة الأوروبية أنتجت، في جملة مخلوقاتها، الاستعمار والهيمنة والتفاوت الاقتصادي والعلمي والثقافي وتدمير البيئة والحروب والتمييز العنصري وإبادة الشعوب القديمة. فإذا كان نقد الحداثة اليوم لا يكتمل إلا بنقد أسباب غيابها عن بعض نواحي العالم، فإن نقد الاستبداد لا يكتمل بدوره إلا بنقد تجارب الديمقراطية نفسها. ومدخل هذا النقد هو الجواب عن السؤال: لماذا لم تعِشْ طويلاً تجارب الديمقراطية في البلدان العربية الرئيسة؟ ولماذا كان عمرها قصيرًا؟ وهل كانت الدولة التسلطية خيارًا أم إكراهًا؟

الفئات التي تسلّمت الحكم من الاستعمار، والمؤلفة من أبناء مُلّاك الأرض والتجار ورجال الدين، حكمت بلادها استنادًا إلى نضالها ضد المستعمر في سبيل الاستقلال، وإلى مكانة عائلاتها الاجتماعية، ثم بموجب السلطة الدستورية التي أتاحها النظام البرلماني الموروث من حقبة الاستعمار (الديمقراطية المقيّدة)، غير أن تلك الفئات الجديدة عادت لتنقسم على نفسها ما إن شرعت في مواجهة المشكلات الاجتماعية، مثل تحديد سقوف عليا لملكية الأرض والاصلاح الزراعي وحدود تدخل الدولة في قضايا المجتمع والمواطنين. ولا ريب لدي في أن فشل التجربة شبه الليبرالية وقصر عمرها ناجمان عن عجز تلك الفئات عن التصدّي للمشكلات الاجتماعية والقومية، فيما تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد أملتْه ضرورات التنمية، وعجز القطاع الخاص عن توفير الاستثمارات لتحفيز عناصر التنمية. والتنمية كانت تعني أمرًا واحدًا فقط، هو اللحاق بالدول المتقدّمة، علاوة على الخوف من التحوّل إلى دول هشّة، على غرار دول أفريقيا التي كانت الشركات المستخرجة للمواد الأولية تتحكّم بها وبمصائرها السياسية. ولهذا، كان لتعاظم تدخل الدولة في الاقتصاد وفي حياة المجتمع الأثر الكبير في ظهور رأسمالية الدولة البيروقراطية ذات الصفات التسلّطية التي أضفاها عليها الجيش ومؤسساته الأمنية. وفي البدايات، أي في خمسينيات القرن المنصرم، لم تتعدّ احتجاجات الجيش المطالبة بتطهير مؤسسات الدولة من الفساد ومحاكمة الفاسدين وإزاحة المقصّرين في الشأن القومي. لكن، في سياق هذه العملية المتنامية، اكتشف العسكريون أن من المحال تلبية مطالبهم من خلال الأحزاب ونظام التعدّدية السياسية أو من خلال البرلمان. وبعدما امتلكوا السلطة بالانقلابات العسكرية، ولحماية سلطاتهم الجديدة من أذى القوى السياسية القديمة، تحوّلوا إلى التسلط بالتدريج. وفي هذا الميدان التاريخي، لنتذكّر أن بعض القوى السياسية القديمة، ويا للمفارقة، دعمت استيلاء الجيش على السلطة، مثل الحركة الديمقراطية للتحرّر الوطني (حدتو) وحزب الوفد وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، لأن تلك الجماعات اعتقدت أن في إمكانها تسلّم الحكم بعد أن يعود الجيش إلى ثكناته.

يحتاج احتكار السلطة إلى احتكار بعض مؤسسات الدولة وأجهزتها كالجيش والأمن والشرطة والقضاء والجهاز البيروقراطي، فهذا كافٍ تماماً. أما احتكار مصادر القوة، وهو الأصعب، فيعني احتكار ثروة الدولة ومواردها والتحكّم بالانتاج والتنمية من خلال القوانين ثم التحكم بالمجتمع من خلال الإصلاح الزراعي مثلاً. وبهذا المعنى فإن الجيش لم يحتكر السلطة وحدها، بل احتكر مصادر الثروة بالتحالف مع التكنوقراط والقوميين العقائديين من أبناء الطبقة الوسطى التي كانت مقصاة إلى حد كبير عن الوظائف العليا في الدولة. وهكذا بات الجيش والدولة والثروة وفئات واسعة من المواطنين هيكلاً متشابكًا ومتداخلاً بحيث أن أي تفكيك له يؤدي إلى كوارث مروّعة.

في العراق، تتشقّق جرّة الماء فلا يرمونها بل يقيّرونها، أي يطلونها من الداخل بالقِير (أو القار وهو الزفت). وفي لبنان تتشقّق جرة الماء أو الزيت فينثني ربّ البيت إلى تمليطها بمادة غَرينية تشبه الترابة الإسمنتية فتتماسك. ومجتمعاتنا السائبة اليوم، من بيروت إلى البصرة، تحتاج، أكثر ما تحتاج لبقائها، إلى القِير أو المِلاط. وما القِير والمِلاط هنا غير الحكم المتشدّد الذي لا يسمح للعناصر الإثنية أو القومية المتعّصبة أو الطائفية بالانفلات عن المركز، الأمر الذي من شأنه أن يُفكك الدولة ويُفسِّخ المجتمع. أما الدولة الديمقراطية البرلمانية، وهي غايتنا المرجوّة، فلم تبرهن الوقائع على صلاحيتها في تمليط جرار بلادنا المتشققة أو تقييرها. فلترتح الديمقراطية الرومانسية قليلًا في عماء هذا السديم المضني الذي يلف أدمغتنا ويغشى على أبصارنا، ولتُخلِ مكانها في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة لأفكار مسؤولة متجدّدة ترنو إلى إعادة بناء الدولة على أسس حديثة وعادلة. وربما تتحوّل هذه الحقبة الانتقالية التي نتمنى حقًا ألا يطول مداها، إلى جسر متين للعبور من التفسخ إلى الديمقراطية الحقيقة. ومن دون ذلك ستصبح الديمقراطية نفسها مشروعا سياسيا مستقبليا، مستحيلا أو بلا جدوى.

كانت حقبة الخمسينيات من القرن العشرين في عالمنا العربي حقبة الانتقال من المرحلة شبه الليبرالية إلى مرحلة الحكومات التسلطية. أما حقبة التسعينيات فكان من بين سماتها التحول إلى “الديمقراطية” الجزئية، فهل تشهد عشرينيات القرن الحادي والعشرين بداية التحوّل إلى التسلط من جديد؟ ولعلني لا أخالف المنطق إذا استنتجتُ أن ما نشهده حالياً في بلادنا العربية ليس الانتقال من الدولة التسلطية إلى الدولة البرلمانية الديمقراطية، بل الانتقال من الدولة التسلطية ذات الملامح القديمة المعروفة إلى دولة تسلطية جديدة ذات ملامح مغايرة ومختلفة وجديدة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن أرض الصومال اليوم عبر موقع أفريقيا برس