على هامش استقالة زعيمة نيوزيلندا

7
على هامش استقالة زعيمة نيوزيلندا
على هامش استقالة زعيمة نيوزيلندا

عمر كوش

أفريقيا برس – أرض الصومال. يثير إعلان رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، أنها ستستقيل من منصبها في 7 فبراير/ شباط المقبل، أشجاناً لدى المواطن العربي، حيث تتبادر إلى ذهنه أسئلة كثيرة عن رفض الحكام في بلادنا تقديم استقالاتهم، حيث إن معظمهم يتمسّكون بالسلطة حتى الرمق الأخير من حياتهم، ولا يتركونها إلا مرغمين أو مكرهين، وعادة ما يتم ذلك إما بالوفاة، أو بانقلاب عسكري، أو بعملية قتل، أو اغتيال، بل يتمسك معظمهم بالحكم حتى آخر رمق في حياتهم.

وعلى الرغم من أن أرديرن لم تتجاوز بعد سن الثانية والأربعين من عمرها، إلا أنها أعلنت عدم امتلاكها الطاقة اللازمة لتقوم بدورها كما يجب في خدمة بلدها وناسها، وليس في خدمة شخصها أو عائلتها أو طائفتها أو أزلامها، مثلما هو حاصل في بلادنا. كما أنها لم تحاول استدرار العطف أو التصنّع وهي تخاطب الشعب النيوزيلندي، بل حاولت التخفيف من وقع تقديم استقالتها بالقول إن تنحّيها أمرٌ بسيط، يرتبط بصعوبة التزامات ومتطلبات منصبها ووظيفتها في قيادة بلدها، فهي مجرّد إنسان استنزفت طاقته خلال الخمس سنوات ونصف الماضية التي قضتها في رئاسة الوزراء، وحان الوقت كي تفسح الدور أمام غيرها من النيوزيلنديين، كي يقود بلادهم بشكل أفضل.

تولت أرديرن، خلال مسيرتها السياسية، رئاسة حزب العمال النيوزيلندي في مطلع أغسطس/ آب 2017، ثم ترأسّت حكومة ائتلافية عام 2017، وبعدها قادت حزبها إلى فوز ساحق بانتخابات 2020، وحظيت بشعبيةٍ قياسيةٍ في داخل نيوزيلندا، وكذلك في خارجها. ويُحسب لها تجنيب بلادها دفع تكاليف باهظة، عبر نجاحها في إدارة أزمة كورونا، لكنها عندما شعرت بتراجع شعبيتها وشعبية حزبها، حسبما أظهرت استطلاعات رأي أخيرا، بادرت إلى إفساح المجال أمام قائد جديد لبلادها ولحزبها، بالرغم من أنها اعتبرت استقالتها ليست بسبب شعورها بعدم تمكّن حزبها من الفوز بالانتخابات التشريعية، المزمع إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بل لأنها تعبت في تأدية وظيفتها، أو بالأحرى استنزفت من العمل، فقرّرت التنحّي وعدم البقاء في مركزٍ لا تستطيع القيام بواجباته على أكمل وجه، وهي ما تزال في بداية عقدها الخامس، فيما لا يتعب حكّامنا العرب من العمل أبداً، ويتمسّكون بالسلطة حتى لو بلغوا عقدهم العاشر.

ويحسب لأرديرن أنها واجهت بشجاعة ما تعرضت له بلادها في 15 مارس/ آذار 2019، حين هاجم إرهابي أسترالي المصلين في مسجدين في مدينة كرايستشيرش خلال تأديتهم صلاة الجمعة، وقتل 51 مصلياً، فأعلنت الحداد الوطني، ودعت الشعب النيوزيلندي إلى الصمود بوجه الإرهاب، وإلى الوقوف إلى جانب المسلمين في مواجهته، ولم توفّر مناسبة إلا وتعاطفت فيها مع الضحايا وآزرت عائلاتهم.

إغراء السلطة كبير، وقلائل أصحاب النفوس العلياء في السياسة، لكن الأمور تختلف كثيراً ما بين الدول الديمقراطية التي تجري فيها انتخابات، نزيهة ودورية، ويجري فيها تداول السلطة سلمياً، والدول القمعية والديكتاتورية، التي لا يتم فيها أي تداول سلمي للسلطة، بل تؤخذ السلطة غلاباً، وغالبا بانقلاب عسكري دموي، ثم يسعى فيها الحاكم إلى تأبيد حكمه، وتوريثه إلى أبناء سلالته، فينتفي أي حسابٍ للشعب، حيث يتحوّل الناس إلى مجرّد رعايا، عليهم إطاعة راعيهم، والتسبيح بحمده.

وقد يصل التعلق بالسلطة أحياناً إلى درجاتٍ غير مسبوقة من البشاعة والشناعة، وبسبب تمسّك الحاكم المفرط بها تنشب المعارك والصراعات، وتزهق الأرواح. والمثال الأبرز الحاضر أمام أنظار العالم كله، يجسّده حاكم سورية، أو بالأحرى ما تبقى منها، بشار الأسد، الذي خاض، من أجل استمراره في السلطة، حرباً شرسة ضد المنتفضين السوريين، عندما خرجوا إلى الشوارع والساحات في منتصف مارس/ آذار 2011، مطالبين بالتغيير والانفتاح الديمقراطي، ومن أجل نيل حقهم في الحرية والكرامة. ولم يكتف بقتل مئات آلاف السوريين منهم، بل تسبّب في تشريد أكثر من نصفهم ما بين نازح ولاجئ، فضلاً عن استقدامه الروس والإيرانيين ومليشياتهم متعددة الجنسيات. ورغم ذلك كله، ما يزال مستمرّاً في نهجه الساعي إلى البقاء في الحكم إلى الأبد.

هل المسألة متعلّقة بأننا نعيش في منطقة لا مكان فيها لأمثال جاسيندا أرديرن، التي تمتلك قدرة سياسية إلى جانب عمق إنساني، والأهم امتلاكها شجاعة دفعتها إلى التخلّي عن أعلى مراتب السلطة في بلدها حين شعرت بالتعب. وهي شجاعة لا تتوفر في حكامنا، بينما قدمت بلدان أوروبية وفي أميركا الشمالية أمثلة عديدة كأرديرن، إذ تحتفظ ذاكرتنا بصورة شارل ديغول، الذي قاد حرب استقلال فرنسا ضد جحافل النازيين الألمان، وحكم “فرنسا الحرّة، أرض الحرية”، لكنه تنحّى عندما رأى أن مزاج الشعب الفرنسي لم يعد معه بالقدر الذي يرضيه قائدا تاريخيا، فاعتزل السياسة، وكذلك فعل رئيس وزراء بريطانيا التاريخي، ونستون تشرشل، الذي اعترف بهزيمة حزبه في الانتخابات البرلمانية، فقرّر التنحّي والاعتزال وهو القائد المنتصر في الحرب العالمية الثانية على النازيين، والأمثلة كثيرة في هذا المجال. أما عربياً، فلا يحضر سوى مثال يتيم، جسّده عبد الرحمن سوار الذهب، الذي ترأس المجلس الانتقالي في السودان بعد انقلاب عام 1985، ثم سلّم السلطة إلى حكومة مدنية. وربما ينسحب الأمر إلى الرئيس السوري شكري القوتلي الذي تنحّى عن السلطة لصالح جمال عبد الناصر، بعدما قَبِل بالوحدة مع مصر عام 1958.

كان الأمل معقوداً على ثورات الربيع العربي في أن تأتي بأنظمةٍ تؤمن بالتداول السلمي للسلطة، لكنها أُجهضت وأُفشلت، وعادت منظومات الاستبداد إلى دوائر الحكم. ومع ذلك لا نملك سوى إثارة الأسئلة على هامش تقديم أرديرن استقالتها، وسيظل يحدونا الأمل بذلك اليوم الذي نرى فيه أول دولة عربية ترسي تقاليد الانتقال السلمي للسلطة، ونشهد على تنحّي أحد حكامنا بسبب تعبه أو مرضه، أو تراجع شعبية حزبه… ترى هل سيأتي ذلك اليوم، أو بالأحرى متى سيأتي؟

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن أرض الصومال اليوم عبر موقع أفريقيا برس