عدوى الانقلابات تُحاصر «القارة السمراء» والمصير الأسود يبدو قدراً!

12
عدوى الانقلابات تُحاصر «القارة السمراء» والمصير الأسود يبدو قدراً!
عدوى الانقلابات تُحاصر «القارة السمراء» والمصير الأسود يبدو قدراً!

رلى موفّق

أفريقيا برس – أرض الصومال. ليست سيرة الانقلابات العسكرية في القارة السمراء جديدة، إنما هي سمة ملازمة للدول الأفريقية منذ استقلالها عن المستعمرِين الأوروبيين في ستينيات القرن الماضي. تتحدّث بعض الإحصاءات عن تجاوز عدد الانقلابات الـ200 خلال 70 سنة الماضية، ويمكن القول إن نصفها نجح.

على أن وتيرة الانقلابات تراجعت كنتائج حتمية للتحوّلات التي طرأت على النظام العالمي ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي والتي انعكست تأثيراتها على الأنظمة الشمولية سالكة درب التغيير طوعياً أو جبرياً نحو أنظمة أكثر ديمقراطية. وظهرت أولى مؤشرات القرار الأفريقي نحو عدم تسامح القارة مع الانقلابات العسكرية في المستقبل في القمة الأفريقية في زيمبابوي عام 1997 وتمَّ تأكيده في قمة الجزائر عام 1999 دون أن يعني ذلك نجاحاً محققاً ولا سيما أن طاولة القمم الأفريقية غالباً ما ضمّت قادة وصلوا إلى الحكم عن طريق الانقلاب. لكن البدايات غالباً ما تكون بطيئة وهشّة ومشوبة بالحذر، ويمكن تقويض خطواتها الإيجابية ومسار التقدّم نحو تكريس أنماط الحكم المدني، خصوصاً إذا كانت تلك الدول ينطبقُ عليها وصف الدول الفاشلة حيث الفقر والفساد والاستبداد والعنف على حساب نشر الثقافة الديمقراطية وممارستها بشكل سليم هي الحاضر الأقوى فيها.

عادت الانقلابات العسكرية لتشهد نمطاً متصاعداً في القارة الأفريقية خلال السنتين الماضيتين استهلتها مالي في 18 آب/أغسطس 2020 لتكرّ السُبحة من بعدها، وتلحق بها تشاد في نيسان/أبريل 2021 وغينيا في أيلول/سبتمبر 2021 وبوركينا فاسو في كانون الثاني/يناير 2022 وأخيراً النيجر في 26 تموز/يوليو 2023. ويمكن لبعض الباحثين أن يضيفوا تونس في 25 تموز/يوليو 2021 والسودان في تشرين الأول/اكتوبر 2021 من باب الانقلاب على «ثورات الربيع العربي». في قراءة لمشهد الانقلابات في أفريقيا، يعتبر مدير الاتصالات السابق في المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا «إيكواس» أداما غايي، وهي المنظمة التي لها سجل حافل في التدخلات العسكرية في الدول التي تشهد انقلابات لفرض عودة الأنظمة المدنية، أنه حين يخرج العسكريون من ثكناتهم، فهذا معناه أن السلطات المدنية أخفقت ولا تقوم بدورها وتنخرط بالفساد وتُمارس استبداداً على المدنيين، وتستخدم العنف على حساب حقوق المدنيين وتراجع الحريات الفردية. وفي رأيه، أن الانقلابات والتي يؤيدها 53 في المئة من الشعوب الأفريقية هي ردّ على الخيانة للميثاق المجتمعي الذي اتفق عليه القادة الأفارقة في قمة الجزائر بعودة العسكر إلى ثكناتهم تعزيزاً للسلطات المدنية حفاظاً على السلام ووحدة الدولة.

ورغم الإثارة التي أحدثها وجود أعلام روسية في تظاهرات النيجر المؤيدة للانقلابيين وإحراق العلم الفرنسي، وذهاب كثير من المحلّلين إلى اعتبار أن روسيا قد تكون هي التي تقف وراء انقلاب النيجر متّكئين على ترحيب قائد مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين بالانقلاب وعرضه تقديم المساعدة للانقلابيين، استبعد غايي أي دور روسي في العملية، لافتاً إلى وجود فاعلين داخليين وعوامل داخلية للانقلاب، حيث فشل المدنيون في الحكم وتواطؤا مع فرنسا التي تسيطر على الثروات الطبيعية واليورانيوم على حساب مصالح الشعب هناك الذي يربط بين الفساد العميق في السلطة برئاسة محمد بازوم والغطاء الفرنسي.

من الطبيعي أن تستفيد روسيا من حال الفراغ أو تراجع النفوذ الغربي، والفرنسي تحديداً، كما حصل في مالي وبوركينا فاسو، لكن ثمّة أسباباً عدّة تكمن وراء «وباء أو عدوى الانقلابات» وفق توصيف الأمين العام للأمم المتحدة للحال في القارة السمراء.

التدهور الاقتصادي والفقر

تُعدِّد دراسة للباحث الأريتري عبد القادر محمد علي لـ«مركز الجزيرة للدراسات» العوامل المشتركة والمتشابهة بين الدول الأفريقية التي حصلت فيها الانقلابات، وفي مقدمها: الهشاشة الكبيرة لهذه الدول بالاعتماد على مؤشرات سياسية منها حقوق الإنسان وسيادة الدولة، واقتصادية كالتدهور الاقتصادي والفقر، واجتماعية كالضغوط الديموغرافية؛ صعوبة الانتقال السياسي ونزعات الحكام نحو تمديد ولايتهم؛ حالة التوتر والعداء في العلاقات العسكرية – المدنية على وقع قرار تحجيم دور الجيوش في الحياة السياسية لمصلحة الحكام المدنيين المنتخبين؛ التهديدات الأمنية مع تنامي جماعات الجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية المختلفة في دول الساحل وسيطرة المجموعات الإرهابية المختلفة على مساحات كبيرة داخل تلك الدول؛ التدهور الاقتصادي الكبير نتيجة الفساد وانعدام الشفافية وضعف كفاءة الدولة.

وتضيف الدراسة مزيداً من العوامل، ومنها التاريخ الطويل من الانقلابات والحكم العسكري ما رسَّخ انخراط المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية بشكل عميق ورؤية الجيش لنفسه باعتباره «المنظِّم أو الملاذ النهائي في الأزمات السياسية الخطيرة»؛ وقوع دول منطقة الساحل ضمن تنافس دولي اقتصادي وجيوسياسي بين فرنسا صاحبة الوجود القديم والصين وروسيا اللتين تهددان نفوذها وسط توسُّع للحضور التركي الإقليمي، بحيث تُعمِّق الأجندات المتضاربة لتلك الدول حالة عدم الاستقرار في هذا الجزء من القارة السمراء؛ عجز المؤسسات الدولية والقارية والإقليمية عن خلق كوابح رادعة للانقلابات وتكرارها بما في ذلك مجموعة «إيكواس» التي يُنظر إليها على أنها المنظمة الأفريقية الأكثر صرامة في الردِّ على محاولات التغيير بالوسائل غير الديمقراطية.

إمكانية التدخل العسكري

فقد فرضت «إيكواس» على النيجر عقوبات اقتصادية، وأمهلت الانقلابين حتى السادس من آب/أغسطس لإعادة بازوم إلى منصبه مهددة باستخدام القوة، وناقش وزراء الدفاع في أبوجا في الثالث من الشهر الجاري إمكانية التدخل العسكري في حالة فشل الجهود الدبلوماسية.

تبدو احتمالات التدخل العسكري مرتفعة. تشاد والجزائر وموريتانيا أعلنت أنها لن تُشارك، ومالي وبوركينا فاسو اعتبرتا التدخل في النيجر بمنزلة إعلان حربٍ عليهما، فيما قالت السنغال إنها ستنفّذ قرارات «إيكواس». في الواقع، ترغب نيجيريا التي تترأس حالياً المجموعة باستعادة تسيّدها على الساحل. هي أقدمت بالأمس على وقف مدّ النيجر بالكهرباء في إطار إجراءاتها العقابية، وتلوِّح باتخاذ المزيد منها، لمنع «عدوى الانقلابات» في دول المجموعة. فبعد مالي وبوركينا فاسو وغينيا، تعهّد قادة «إيكواس» بعدم التسامح مع أي انقلاب جديد. جاء اليوم انقلاب النيجر وسط توقعات بأن يفتح شهية دول أخرى على تكرار السيناريو ذاته في القارة الأفريقية التي تغرق في أزماتها.

فالنيجر كانت تحظى بمساعدات إنسانية غربية جرى الإعلان عن إيقافها بعد الانقلاب، الأمر الذي سيفضي الى استفحال التدهور المعيشي وأزمة الأمن الغذائي ويُفاقم من أزمة اللاجئين والنازحين، وقد تتعرَّض شراكتها مع الفرنسيين والأمريكيين في عملية مكافحة الجماعات المتطرفة إلى انتكاسة إذا سلكت نيامي طريق التصعيد تجاه الغرب، ما سيؤدي إلى استنزاف منظومتها العسكرية والأمنية وسيتيح الفرصة أمام الجماعات المتطرفة للتمدُّد والتحرُّك بسهولة، ولن تقتصر تداعيات الفوضى والانفلات الأمني ومخاطر الجماعات الإرهابية على الداخل بل ستتخطى الحدود إلى جيرانها: مثلَّث النيجر – مالي – بوركينا، محور النيجر – ليبيا، والخط الحدودي للنيجر مع نيجيريا البالغ طوله 1600 كيلومتر، وهي كلها دول تُعاني من الجماعات المتطرفة (القاعدة و«داعش» وبوكو حرام) وتُشكِّل تحدياً أمنياً كبيراً لها.

حين تشتدُّ الأزمات على أكثر من مستوى ويصير الأفق مسدوداً والنظام مأزوماً، والدولة مُباحة ومُستباحة بفعل هشاشتها، يُنظر إلى الجيش على أنه القوة الممكنة لإحداث التغيير لتصويب مسار الحكم المدني والخروج من المأزق وإصلاح النظام والحفاظ على سيادة البلاد وثرواتها من الأطماع. وغالباً ما تلتفُّ الشعوب الضعيفة خلف المؤسسة العسكرية بوصفها خشبة الخلاص، لكن النتائج كثيراً ما تأتي معاكسة، والقارة السمراء خير مثال على ذلك. فالطريق طويل وشاق وصعب عندما يتعلق الأمر بالتنمية والإصلاح والديمقراطية وآليات الحكم الرشيد وانتقال السلطة في دول العالم الثالث التي ما زالت شعوبها تعيش في حالة من الوهم والضياع والتخبُّط على صورة حكَّامها سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن أرض الصومال اليوم عبر موقع أفريقيا برس