أفريقيا برس – أرض الصومال. تحوّلت محافظة أريانة، الواقعة شمال غربي تونس، إلى لوحة فنية نابضة بالحياة، تزيّنت شوارعها وأزقتها بالألوان والعطور احتفالا بذكرى مهرجان الورد، الذي دأبت المدينة على تنظيمه مع نهاية شهر مايو/أيار من كل عام.
في هذا الحدث، تزهر المدينة بكل تفاصيلها التي تشمل واجهات المحلات والساحات العامة وحتى الأطفال الذين ارتدوا أزياء مستوحاة من أشكال الورود، في مشهد فسيفسائي يفيض حيوية وجمالا.
تناثرت روائح الزهور في الأرجاء، واكتملت الأجواء بمقطوعات موسيقية مرهفة، عزفت كلماتها على وتر الورود، فأضفت على المكان سحرا خاصا يمزج بين البهجة والحنين.
ولا يقتصر المهرجان على الجانب الاحتفالي فقط، بل يشكّل فرصة مهمة للحرفيين والعارضين، خاصة النساء، لعرض منتجاتهم التقليدية والمبتكرة، والترويج لمهاراتهم في فضاء مفتوح استقطب مئات الزوّار من مختلف المحافظات التونسية، ليصبح بذلك المهرجان محطة سنوية للاحتفاء بالورد وبالحياة.
تقطير الورود.. فن متوارث
وسط أجواء معرض مهرجان الورد في محافظة أريانة، تنتشر أكشاك باعة الورود والنباتات العطرية، حيث تعرض أنواعا مختلفة من المنتجات التي تميزها روائحها المنعشة والمميزة.
وأكدت الخالة عزيزة عبيد، وهي حرفية تبلغ من العمر 61 عاما، أن الحرفيات المحليّات ينتظرن هذه المناسبة بفارغ الصبر لتقطير مختلف النباتات واستخراج زيوتها بوسائل تقليدية، مع التركيز على نبتات مثل النارنج والورد والنسري والأكليل.
تقول عزيزة: “تُستخدم مياه هذه النباتات في إضافة نكهات فريدة على العديد من الحلويات التونسية التقليدية.”
وتضيف: “بدأت رحلتي مع تقطير الورود منذ أن كنت في العشرين من عمري، ففي هذا الشهر تتجمّع العائلة كلها لقطف الورود،و تستمر العملية عدة أيام، ثم نأتي بها إلى المعرض لنبدأ في تقطيرها أمام الزائرين مباشرة.”
وتجلس عزيزة أمام الأواني التقليدية المستخدمة في التقطير، موضحة أن أغلب النساء ما زلن يعتمدن على الطريقة التقليدية لأنّها تُضفي نكهة خاصة فريدة، وهي تقنية متوارثة من الأجداد يسعون جميعًا للحفاظ عليها.
تبدأ العملية بوضع الورود في وعاء من النحاس يُسمّى “القطّار”، يُضاف إليه القليل من الماء، ثم يُغطّى بإحكام وتُوقد النار تحت الوعاء، ويفضل السكان استخدام الحطب لما له من أثر في جودة التقطير.
ومع غليان الماء، يتحول إلى بخار ينتقل عبر أنبوب طويل إلى إناء آخر كبير مصنوع من الفخار يحتوي على ماء بارد، حيث يبرد البخار ويتحول إلى سائل يُجمع في قارورة بلورية تُسمى “فاشكة”، تملأ بقطرات ماء الورد المقطّر النقي.
توضح عزيزة أن لماء الورد والزهر استخدامات عديدة، فهو يدخل في الطهي، ويُستخدم كعلاج منزلي لتخفيف آلام الرأس والبطن لدى العديد من العائلات التونسية، مما يعكس أهميته الثقافية والطبية ويستخدم أيضا للعناية بالبشرة.
تشهد تجارة مياه الورد وزيوتها إقبالا متزايدا خلال مهرجان الورد، حيث يباع اللتر الواحد من مياه الورد بـ30 دينارا تونسيا، بينما يُباع اللتر من الزيوت العطرية بأسعار تتجاوز 300 دينار، مما يعكس القيمة الاقتصادية الكبيرة لهذه الحرفة التقليدية التي تجمع بين التراث والاقتصاد المحلي.
فرصة لإنعاش اقتصاد المدينة
وأكد طارق الشابي، صاحب منبت من محافظة جندوبة شمال غرب البلاد، أن مهرجان الورد في أريانة يُشكّل فرصة ثمينة للتقرب أكثر من المستهلك والتعريف بأنواع النباتات التي يزرعها، سواء كانت من الأشجار المثمرة أو أشجار الزينة.
وقال الشابي: “ننتظر هذه المناسبة كل ربيع بفارغ الصبر لعرض نباتاتنا والترويج لها، لأن بقية أشهر السنة أضطر فيها إلى غلق المنبت خلال النهار والبحث عن عمل يومي لكسب المال”.
وتابع الشابي معبرا عن سعادته بالمناسبة التي تجمع تونس كلها تحت عبق الورود: “تونس بأكملها تتنفس وردا وتزداد جمالا في هذه المناسبة السنوية، التي تمثل فرصة حقيقية لإنعاش الحركة الاقتصادية في البلاد، خاصة بالنسبة للحرفيين والفلاحين الذين يعتمدون على مثل هذه المناسبات في عرض منتجاتهم”.
وعلى الجانب الآخر، يعج المعرض بحرفيي صناعة الأواني الفخارية التي نالت استحسان الزائرين، خصوصًا مع اقتراب عيد الأضحى المبارك، حيث ازدحمت الأكشاك بمنتجات تقليدية يعشقها الجمهور.
وتؤكد الخالة مريم، وهي أصيلة منطقة سجنان التابعة لمحافظة بنزرت غرب البلاد، أن أغلب الأواني المعروضة مصنوعة يدويًا وبطرق تقليدية.
وشرحت عملية صناعة الفخار قائلة: “نبدأ بعجن الطين بالماء لساعات طويلة للحصول على طين مرن يمكن تشكيله بسهولة على الطاولة الدوارة. وبعد تشكيل الإناء، نملّس سطحه بالماء، ثم نتركه يجف تحت أشعة الشمس لمدة ثلاثة أيام كحد أقصى، قبل وضعه في أفران النار. وبعد ذلك تبدأ مرحلة التزيين والنقش”.
وأردفت: “هذه الأواني المختلفة هي ثمرة أشهر من العمل اليدوي المخلص، صُنعت بكل حب وشغف لإرضاء الزبائن والحفاظ على التراث العريق لصناعة الفخار في سجنان، التي تزدهر بشكل خاص قبل عيد الأضحى المبارك، حيث يزداد الطلب على هذه المنتجات التقليدية”.
المحافظة على التراث ودعم الهوية الثقافية
وأكد العضو في جمعية “تراثنا” لسعد شبشوب، أن مهرجان الورد الذي يحمل شعار “ورد أريانة تونس مزيانة” يشكل فرصة فريدة للتعريف بأنواع الورود التي تزدهر في المدينة، ولتشجيع زراعتها والحفاظ عليها. وأوضح أن محافظة أريانة تُعرف بـ”زهرة المدائن”، وهي الوحيدة في تونس التي تنتج سنويًا أكثر من أربعة آلاف نبتة ورد تُوزع بأسعار رمزية خلال المعرض السنوي، الذي يشارك فيه المئات من الحرفيين والعارضين من مختلف المجالات.
وقال شبشوب إلى أن الاحتفال بمهرجان الورد يحمل أبعادا ثقافية وبيئية وتراثية، لا سيما وأنه يتزامن مع الاحتفال بشهر التراث.
وأضاف: “اختارت الجمعية أن تبرز بصمتها الخاصة في هذا المهرجان من خلال حضور اللباس التقليدي، خصوصًا بعد إعلان الجبة التونسية كجزء من التراث العالمي لليونسكو، وهو الأمر الذي أضفى إشعاعا خاصا على المهرجان”.
ولفت شبشوب إلى أن مهرجان الورد وموسم تقطير الزهور يشكلان جزءًا لا يتجزأ من التراث المادي واللامادي الذي يتعين المحافظة عليه وصونه للأجيال القادمة.
وخلال المهرجان، كان للزي التقليدي التونسي حضور بارز من خلال عرض ثقافي نظمته مجموعة شبابية، حيث تم تسليط الضوء على “الجبة التونسية”، و”الحرام”، و”الملية” في أجواء تعكس الروح الحقيقية للتراث المحلي.
وأعرب المشاركون عن تطلعهم إلى تطوير مهرجان الورد ليصبح تظاهرة عالمية، من أجل التعريف بالمنتوجات التونسية الفريدة من النباتات والزيوت والعطور، وبالصناعات اليدوية التي تمثل جزءًا هامًا من هوية تونس الثقافية، وذلك بهدف فتح أسواق جديدة محليًا ودوليًا تعزز من مكانة المنتجات التونسية وتدعم الاقتصاد الوطني.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن أرض الصومال عبر موقع أفريقيا برس