أزمة الغذاء مستمرة رغم اتفاق الحبوب

10
أزمة الغذاء مستمرة رغم اتفاق الحبوب
أزمة الغذاء مستمرة رغم اتفاق الحبوب

عبد التواب بركات

أفريقيا برس – أرض الصومال. أكاديمي وكاتب مصري، دكتوراه في العلوم الزراعية. أستاذ مساعد في مركز البحوث الزراعية بالقاهرة. متخصص في بحوث التنمية الزراعية وسياسات الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر الريفي. عمل مستشاراً بوزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر.

أدى الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية منذ نهاية شهر فبراير/شباط الماضي وعلى مدار خمسة أشهر إلى ارتفاع أسعار الحبوب إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيا، ما دفع ملايين الأشخاص إلى حافة الجوع بسبب أن أكثر من 20 مليون طن متري من القمح والذرة الأوكرانية محاصرة في ميناء أوديسا.

ورغم أنها كانت محملة بالذرة وليس بالقمح، ولكن بمغادرة السفينة رازوني ميناء أوديسا الأوكراني على البحر الأسود في الأول من أغسطس/ آب حاملة أول شحنة من الحبوب منذ الأيام الأولى للحرب الروسية في أوكرانيا، تنفست الحكومات في المنطقة العربية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا الصعداء، حيث تعتمد على الحبوب وزيوت الطعام الأوكرانية لتلبية احتياجات الشعوب اليومية.

وفي الوقت الذي أدت فيه اتفاقية إسطنبول إلى تخفيف أسعار الحبوب، فإن الشحنات المتأخرة في أوكرانيا ليست حلاً سريعًا لأزمة الغذاء التي تسارعت بسبب سنوات من الاضطرابات الإنتاجية والتجارية المرتبطة بوباء كوفيد 19، وموجة الجفاف والتغيرات المناخية التي تضرب أوروبا والأميركتين وسببت تناقص إنتاج الحبوب، وأيضا القيود الحمائية المفروضة على صادرات القمح، وتكاليف الأسمدة والشحن البحري المتصاعدة بفعل ارتفاع أسعار الوقود.

لكل هذه العوامل المتفاعلة، من المتوقع أن تستمر الأزمة لوقت أطول، وترتفع أسعار الغذاء عالميا. ومن الخطورة التعويل على أوكرانيا المنكوبة بالحرب والاحتلال لتأمين غذاء الدول التي تعيش في سلام.

بعد اتفاق الحبوب، حملت السفينة رازوني 26 ألف طن متري من الذرة، وحتى تعود مستويات الشحن إلى مستوياتها قبل الحرب، علينا أن نرى سبعا من هذه السفن تغادر أوكرانيا يوميا ولمدة 100 يوم متواصلة.

وهذا لم يتحقق في الواقع، حيث غادرت الموانئ الأوكرانية 14 سفينة فقط رغم مرور ثلاثة أسابيع على توقيع اتفاقية تصدير الحبوب. هذا بفرض أن اتفاق الحبوب ظل صامدا طوال الوقت، وهو محل شك، ومرهون بإرادة فلاديمير بوتين، أكثر من حماية رعاة الاتفاق، تركيا والأمم المتحدة.

ذلك أن بوتين تعمد قصف ميناء أوديسا، وهو أكبر ميناء لتصدير الحبوب في أوكرانيا، بعد أقل من 24 ساعة من ابرام الاتفاق، ما تسبب في انتكاسة لأسعار الحبوب بنفس قدر التعافي الذي حققه الاتفاق.

وتزامنا مع مغادرة رازوني ميناء أوديسا، قتلت القوات الروسية قطب تجارة وتصدير الحبوب في أوكرانيا وزوجته. وهي رسالة واضحة للولايات المتحدة وحلفائها.

ويمكن القول إن الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي عطّل الصادرات من منطقة البحر الأسود، كان له تأثير نفسي كبير على سوق الغذاء حول العالم، حيث ارتفعت أسعار الحبوب الغذائية الأساسية إلى مستوى قياسي في مارس/آذار وحتى يوليو/تموز. ساعد ذلك في دفع تضخم الغذاء العالمي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق.

وجاء اتفاق الحبوب ليخفف من حدة التأثير النفسي للحرب. ولكن، بينما انخفضت أسعار القمح من ذروتها، إلا أنها لا تزال أعلى بنحو 30 بالمائة مقارنة بمتوسط الأسعار في السنوات العشر الماضية لأسباب أخرى غير الحرب.

ورغم أن مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء سجّل هبوطًا حادًا في يوليو/تموز الماضي بمعدل 8.5 في المائة عن الشهر السابق، فقد بقي أعلى بنسبة 13 في المائة من قيمته المسجلة في الشهر نفسه من العام الفائت.

وتقول المنظمة التابعة للأمم المتحدة إن الأسعار العالمية للقمح التي دفعت هذا التراجع هبطت بنسبة كبيرة بلغت 14.5 في المائة في يوليو/تموز، ويعزى السبب بجزء منه إلى الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين أوكرانيا والاتحاد الروسي، ومع ذلك، فإن الأسعار الدولية للقمح لا تزال أعلى بنسبة 25 في المائة من قيمتها المسجلة في يوليو/تموز من العام الماضي.

وتؤدي أزمة المناخ وموجة الجفاف الحالية إلى تفاقم الوضع. حيث أدى الجفاف في المناطق الرئيسية المنتجة للمحاصيل الغذائية، مثل أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، إلى تراجع إنتاج الحبوب وارتفاع أسعار السلع الغذائية.

الطقس الجاف هو تنبيه بأن الإمدادات الغذائية مهددة، سواء استمرت الحرب أو توقفت. هذا الأسبوع، سجل تقرير وزارة الزراعة الأميركية عن تجارة الحبوب حول العالم تراجع إنتاج القمح في رومانيا بنسبة 18%، وهي بديل لواردات القمح لمصر، أكبر مستورد للقمح في العالم. وكذلك توقع التقرير تراجع الإنتاج في فرنسا بنسبة 8%، وهي مورد رئيس للجزائر خامس أكبر مستورد للقمح في العالم.

تُظهر صور المناخ الملتقطة بالأقمار الصناعية صعوبة تغطية دول المنطقة العربية أي فجوة غذائية بأنفسها في هذا العام على الأقل. وتشير صور غطاء المحاصيل في المغرب، إلى موسم قمح كارثي، مع إنتاج أقل بكثير مما كان عليه في السنوات الأخيرة بسبب الجفاف الذي بدأ هناك في نهاية عام 2021 واستمر حتى أوائل هذا العام.

يحصل المغرب على خُمس إنتاجه من القمح من أوكرانيا المحاصرة بالحرب و40 في المائة من فرنسا التي يضربها الجفاف والحرائق. وتكلفة استبدال المصدرين ستكون كبيرة جدًا. تونس، تحصل على ما يقرب من نصف قمحها من روسيا وأوكرانيا لصنع خبزها اليومي. واشترت مصر 4 ملايين طن القمح المحلي وفشلت في شراء 6 ملايين طن من الفلاحين، وهي تستورد قرابة 13 مليون طن، 90 في المائة منها من المنطقة المشتعلة بالحرب في البحر الأسود.

ومن المتوقع أيضًا أن يكون إنتاج القمح في أوكرانيا أقل بنسبة 40% عن العام الماضي، حيث تأثرت حقولها بالحرب، مع صعوبة الحصول على الأسمدة والمبيدات والجفاف في غرب البلاد، وقد تستمر التداعيات حتى العام المقبل.

وبما أن الحبوب الأوكرانية مفقودة جزئيًا بسبب انخفاض الإنتاج وصعوبة التصدير، فسيؤدي ذلك إلى زيادة انعدام الأمن الغذائي حتى نهاية هذا العام والعام المقبل.

كشفت الحرب في أوكرانيا اعتماد أوروبا، التي كانت تبدو مكتفية ومصدرة للقمح لأفريقيا، على الأسمدة والغاز الروسي وبانت نقاط ضعفها. في حين أن دولًا كبيرة مثل مصر والكونغو وتنزانيا ومعظم الدول العربية هي من أكثر الدول اعتمادًا على القمح الأوكراني والروسي.

واشترت دولة مثل إريتريا 100% من الحبوب حصريًا من البلدين في عام 2021. فرض الدول المنتجة للغذاء سياسات حمائية مشكلة كبيرة أيضًا. مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية في أعقاب الغزو الروسي، بدأت الدول في تقييد الصادرات.

خفضت الهند، أكبر منتج للسكر في العالم، صادراتها من السكر إلى 10 ملايين طن، وحظرت صادرات القمح. اليوم، تعتمد أكثر من 20 دولة نوعا من القيود المفروضة على الصادرات، ما يبدد الآمال في أن هذه السياسات الحمائية قد تساعد في التخفيف من الجوع في بلدان أخرى.

ثم هناك قضية أسعار الأسمدة التي لا تزال مرتفعة لأن إنتاجها يتعلق بنسبة 70% على الغاز والطاقة، وروسيا وأوكرانيا من الموردين الرئيسيين لمكوناتها الرئيسية، اليوريا والبوتاس والفوسفات.

مع انخفاض استخدام الأسمدة في الزراعة، سنرى عوائد أقل من إنتاج محاصيل الغذاء والأعلاف في عام 2023.

وبينما كان القلق الرئيسي ينصب على إمدادات الحبوب، يوجد قلق من إنتاج الأرز أيضا في الهند وجنوب شرق أسيا. والأرز هو حجر الزاوية في العديد من النظم الغذائية في آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء، ويمكن أن يتضرر الإنتاج بسبب ارتفاع تكاليف الأسمدة.

ورغم وجود مخزونات عالية من الأرز في الوقت الحالي، فإن السياسات الحمائية ومنع الصادرات وتوجه الناس إلى الأرز كبديل للقمح يمكن أن تؤثر على الأسعار.

دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء تستورد معظم الأرز في العالم المتاح للتجارة العالمية، لذلك إذا ارتفع سعر الأرز، فإن هذه الدول الضعيفة ستتأثر بشكل كبير.

بعد سنتين ونصف السنة من اندلاعها، أكدت التداعيات أن أزمة الغذاء التي تضرب العالم اليوم أسوأ بكثير من تلك التي وقعت في الفترة من 2007 إلى 2008، ومن 2010 إلى 2012، وكلتاهما أثارتا أعمال شغب في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك ثورات “الربيع العربي”.

وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، زاد مؤشر الجوع العالمي بشكل كبير من 135 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في عام 2019، إلى 345 مليونًا في عام 2022. منهم نحو 50 مليون شخص في 45 دولة يعانون مجاعة حقيقية.

بسبب أزمة الغذاء المستمرة، شهد هذا العام بالفعل زعزعة الاستقرار السياسي في سريلانكا ولبنان ومالي وتشاد وبوركينا فاسو، وأعمال شغب واحتجاجات في كينيا وبيرو وباكستان وإندونيسيا.

هذه مؤشرات وجرس إنذار فقط على أن الأمور القادمة ستزداد سوءًا. في القرن الأفريقي، أدى الجفاف الذي استمر أربع سنوات إلى انعدام الأمن الغذائي والمجاعة، وفقًا لجماعات الإغاثة.

المرافق الصحية الصومالية تشهد مستويات قياسية من سوء التغذية بعد سنوات من مواسم الأمطار الفاشلة وتضاعف أسعار القمح والتداعيات الاقتصادية لوباء كوفيد.

ومثلما أظهرت كورونا أزمة في منظومة الصحة العالمية، كشفت الحرب في أوكرانيا أزمة في الإنتاج الزراعي في الدول العربية.

يؤكد خبراء البيئة والأمن الغذائي استمرار تفاقم تأثيرات التغيرات المناخية، وتكرار أزمات الغذاء في السنوات القادمة، ما يستلزم أن تعود دول المنطقة إلى سياسة الاكتفاء الذاتي طوعا قبل أن تكون كرها، وتدعم شبكات الأمان الاجتماعي حتى تمر الأزمة الحالية بأقل خسائر سياسية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن أرض الصومال اليوم عبر موقع أفريقيا برس