ابراهيم عامري
أفريقيا برس – أرض الصومال. تعتمد إستراتيجية أيّ دولة من الدول على مقومات أساسية أهمها: العقيدة السياسية التي يقوم عليها النظام السياسي في هذه الدولة، والوضع الجيوستراتيحي للإقليم الذي توجد عليه، والموارد الطبيعية، وعدد السكان، ودرجة التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، ثم القوة العسكرية. ولكل دولة سواء كانت صغيرة أو متوسطة أو كبرى، إستراتيجية عليا، تحدد أهدافها القومية في الداخل والخارج، وتحافظ على مصالحها الحيوية، وتحمي أمنها القومي. وفي ضوء ذلك كله، يتم تحديد وتنظيم علاقاتها مع الدول المجاورة لها في المنطقة الإقليمية، وعلاقتها مع بقية دول العالم.
وقد اتفق المفكرون والباحثون المتخصّصون في الدراسات الصهيونية وال”إسرائيل”ية على أن إستراتيجية “إسرائيل” العليا، تقوم في الأساس على العقيدة الصهيونية التي تعتبر الكيان الغاصب لفلسطين “”إسرائيل”“ ثمرة لها. وهي تتأثر بشكل قوي ومباشر بالكيفية التي نشأ بها هذا الكيان كـ”دولة” على جزء هام وأساسي من إقليم فلسطين، والوضع الجيوستراتيجي لهذا الإقليم في قلب العالم العربي، وفي منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة.
من هنا يتبين أن الأمن القومي بمعناه الشامل، يمثل الهدف الأول في التخطيط الاستراتيجي ال”إسرائيل”ي على جميع المستويات السياسية والعسكرية والجغرافية. وبالتالي فإن التوسع الإقليمي وزيادة مساحة الأراضي التي تحتلها “إسرائيل” بصورة مباشرة في فلسطين والبلدان العربية المجاوِرة أو التي تسيطر عليها سيطرة نفوذ سياسي أو اقتصادي في مدى الدوائر الحيوية لأمنها القومي، حسب تصوُّرات قادتها ومفكريها الاستراتيجيين، إنما ترمي إلى زيادة عمقها الحيوي لتطبيق سياسة الهجرة والاستيطان وإلى إيجاد حقائق بشرية ومادية على أرض الواقع تمثل تحدياً بالغ الخطورة في وجه عودة الحقوق العربية السليبة.
ولذلك ترفض “إسرائيل” ذكر الحدود في وثائقها الرسمية وفقاً لسياسة بن غوريون الذي كان يقول: “إن الحرب سوف ترسم حدود الدولة وستكون هذه الحدود أوسع من تلك التي خصّصتها الأمم المتحدة”.
وأوضح موشي ديان في أعقاب حرب جوان 1967 أن “الهدف الأول للطريق الذي نسلكه هو أن نضع خريطة جديدة وننشئ حدوداً جديدة. ونهاية الصراع سوف تتحقق في التحليل الأخير الذي يتضمن الحقيقة الشاملة لوجود دولة يهودية. هنا تكون من القوة والأهمية بحيث يصبح من المستحيل تدميرها وسيكون من الضروري التعايش معها “.
لقد تأكدت أهمية القارة الإفريقية بالنسبة لـ””إسرائيل”” على لسان الكاتب الصهيوني مردخاي كرينين في كتابه “”إسرائيل” وإفريقيا” بقوله: “ثمة مميزات واضحة لسعي “”إسرائيل”” من أجل كسب أصدقاء لها في الكتلة الأفروآسيوية المتزايدة الأهمية. وبسعيها ذلك، تكسر طوق العزلة الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها في الشرق الأوسط”. ولهذا، فإن التغلغل ال”إسرائيل”ي في القارة الإفريقية تصاعد مع الزمن وتحوّل إلى قوة اقتصادية وسياسية تستقطب عددًا وافرًا من الدول الإفريقية، في استغلال لحاجة هذه الدول للنظم التكنولوجية والعلمية الحديثة.
من هنا، يجب النظر إلى التغلغل ال”إسرائيل”ي في إفريقيا على أنه: أولًا، عمل مكمل للنشاط الاستعماري في القارة الإفريقية وحلقة وصل بين الدول الصناعية الاستعمارية سابقًا والدول النامية.
ثانيًا، مجال للجهد الصهيوني الهادف إلى كسب أكبر عدد ممكن من الأصدقاء وتأمين التأييد السياسي لـ””إسرائيل”” في المحافل الدولية.
وثالثًا؛ ميدان عمل للاقتصاد ال”إسرائيل”ي وتأمين الأسواق الخارجية. بلغت العلاقات ال”إسرائيل”ية-الإفريقية ذروتها في أواخر الستينيات، إذ اتّسمت هذه المرحلة بدعم العلاقات ال”إسرائيل”ية مع دول شرقي إفريقيا وإجراء اتصالات واتفاقات جديدة مع زعماء الحركات الوطنية في بعض المناطق الإفريقية التي لم تكن قد نالت استقلالها بعد، ووصل نجاح التغلغل الصهيوني قمته عقب حرب 1967.
وبخصوص المغرب الإسلامي كتب الكاتب المغربي “خالد البوهالي” على موقع قناة الميادين (ماذا وراء محاولة التغلغل الصهيوني في دول الاتحاد المغاربي)؟ وقال إن “”إسرائيل”” كيانٌ وظيفيٌّ، فقد أُوجِدَت لخدمة الأجنداتِ الإمبريالية الراميةِ إلى تقطيع أوصال العالم الإسلامي والعربي وحرمانه من أي نزعة وحدويٍة ونهضويٍة. لذا، تحاول التمدد نحو الدول المغاربية في محاولة للتطبيع معها، ومن ثم التغلغل في مجتمعاتها بواسطة اليهود المغاربيين الذين عاشوا ردحاً من الزمن هناك، ويعرفون أدقّ تفاصيل حياة شعوب المنطقة ونمطها وثقافتها، بحكم الاحتكاك والتعايش مع المسلمين المغاربيين. لذا، يرى الكيان الصهيوني في التطبيع مع الدول المغاربية فرصة قد تمكّنه من تحقيق عدة أهداف على المدى البعيد، فكيف ذلك؟
تتشكَّل البنية العرقية لدول الاتحاد المغاربي من نسيجين رئيسيين هما الأمازيغ والعرب. وإذا كان العرب والأمازيغ عاشوا جنباً إلى جنب لقرون عديدةٍ تحت راية الوطن والدين الإسلامي، فـ””إسرائيل”” لن تتردّد في اللعب على وتر العرقية، كما فعلت في عديد الدول العربية والإسلامية، ولا يُستبعد أن تدعم بعضَ الجمعيات الثقافية التي تنشط هنا وهناك، لدق إسفين التفرقة وإشعال بذور الفتنة، للدفع نحو الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، لأنها تجيد مثل هذه الألاعيب. والأكثر دلالة على ذلك هو التصريحات التي أطلقها رئيس الموساد السابق عاموس يادلين، حين قال إنَّه “أرسى شبكةً من العملاء في تونس والجزائر والمغرب، جاهزة للتأثير والتخريب في أيّ لحظةٍ”.
ولا يُستبعد أيضاً أن تستعمل “”إسرائيل”” هذه الورقة مستقبلاً لابتزاز هذه الدول مالياً، وخصوصاً بعد تصاعد الأصوات فيها بتعويض اليهود العرب الذين هاجروا إليها وتركوا ممتلكاتهم، بزعم أنهم أُجبِروا على الهجرة إليها، رغم أن الأحداث التاريخية تشهدُ على زيف ادّعاءات “”إسرائيل””. وقد قُدِّر مجموع الممتلكات المتروكة بنحو 250 مليار دولار، وكان نصيب تونس وليبيا على التوالي 35 مليار دولار و15 مليار دولار.
ولا يغيب عن إدراك أصحاب القرار السياسي في كيان الاحتلال الأهمية الاقتصادية لدول الاتحاد المغاربي، إذ تعدّ الأسواق المغاربية سوقاً واعدةً بالنسبة إليه لتصريف فائض منتجاته، سواء في قطاع الخدمات والتكنولوجيا أو المنتجات الزراعية وغيرها، فضلاً عن وجود يدٍ عاملةٍ رخيصةٍ تتقاضى أجوراً أقلّ مما يتقاضاه العمال في “”إسرائيل””.
وفي هذا الصدد تقول الدكتورة “نجوى عابر”، أستاذة علاقات دولية بكلية العلوم السياسية بجامعة الجزائر 3، لقد دفع تراجع فرنسا كوكيلٍ للغرب في إفريقيا عموما ودول المغرب العربي خصوصا إلى ضرورة مراجعة جملة من التوافقات التي أبرمت بين “الإليزي” والحكومات الإفريقية في إطار قانون “غاستون” الذي أقر بفكّ الارتباط بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية مع الإبقاء على تبعية الأخيرة لفرنسا في المجالات الأمنية والاقتصادية والمالية وخاصة الثقافية… ما منح موقع الأفضلية لفرنسا لأكثر من ستة عقود… وهو الوضع الذي بات متعذرا حاليا بفعل اختلال التوازنات الكلاسيكية… ما وضع الغرب بقيادة الولايات المتحدة إلى ضرورة استبدال الدور الفرنسي ل”إسرائيل” التي باتت مكلفة ببذل جهد لتحقيق نتائج ملموسة على صعيد التواجد وحتى تسيير الملفات الكبرى كالملف الليبي، سد النهضة، الساحل الإفريقي وغيرها… في هذا السياق كان التوجه إلى تشكيل “ناتو عربي” بقيادة “إسرائيل” مدعوما بالإمارات ونظام المخزن في المغرب الذي لعب دورا هاما في تمكين “إسرائيل” من التوغل في عدة نقاط في إفريقيا… وما اتفاقية الدفاع المشترك بين “إسرائيل” والمغرب إلا تتويجٌ لتعاون مستتر كاد أن يجعل “إسرائيل” عضوا مراقبا في الإتحاد الإفريقي لولا جهود الجزائر التي نجحت في إجهاض المسعى..
وفي ذات السياق أكد الدكتور “أسامة بوشماخ”، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، أن التطبيع المغربي ال”إسرائيل”ي الرسمي، أدى إلى دخول منطقة المغرب العربي مرحلة جديدة أفرزت تحديات في مختلف المجالات، فالتطبيع في العقلية ال”اسرائيل”ية هدفه الظاهر أن يجعل “إسرائيل” طرفا مقبولا في الدول العربية، أما هدفه الكامن فهو عقيدة تمدد في المنطقة ونقل المعركة خارج دول الطوق بعد المعركة الأخيرة “سيف القدس” في ماي 2021 والتي أحدثت الردع الاستراتيجي مع حركات المقاومة في فلسطين كما بيّنه مركز موشي دايان لأبحاث الشرق الأوسطية والإفريقية.
وثمة مؤشرات في غاية التعقيد تُبرز أن التغلغل ال”إسرائيل”ي في منطقة المغرب العربي من بوابة المملكة المغربية هو بداية لفوضى خلاقة أو حروب قادمة من الجيل الرابع والخامس تهدف إلى خرق النسيج الاجتماعي للدول تمهيدا لزعزعة استقرار شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، من خلال تحالفات المخزن مع القوى الأجنبية (فرنسا، “إسرائيل”) ضد إرادة شعوب المنطقة أو ما يعرف بإستراتيجية ضربة البولو، على اعتبار أن الرباط باتت منطلقا بارزا للتهديدات اللاتماثلية وفق التقارير الدولية كالمخدرات أو التنسيق الأمني مع تل أبيب ضد الجزائر على ما بات يعرف بالحروب ذات الصفر تكلفة، إذ تقع الجزائر في الدائرة الرابعة من الأمن القومي للكيان الصهيوني، فتل أبيب حريصة بتحالفاتها الدولية على تأمين هذه الدوائر وفق إستراتيجية العشر سنوات تستهدف من خلالها الدول التي تقع في حيز أمنها القومي، تطبيع العلاقات مع مصر في 1979، السلطة الفلسطينية عبر أوسلو 1993، والأردن عبر اتفاقية واد عربة في 1994، تدمير العراق (2003-2010)، ليبيا، اليمن وسوريا (2010-2020)، استهداف الجزائر… ويبرز ذلك من خلال الاهتمامات الاكاديمية في الجامعات العبرية بصورة كبيرة منذ سنة 2005، بمحاولات العبث بالنسيج الاجتماعي، أو بحروب سيبرانية تستهدف تشويه صورة الجزائر، واستهداف المؤسسة العسكرية عبر تحريف التاريخ وتزييف الحقائق وتوجيه الأحداث، أو فضائح التجسس “بيغاسوس” لممارسة الابتزاز في سقطة أخلاقية هزت قادة دول العالم.
إضافة على كل ذلك سهرت الرباط على مساعدة الكيان الصهيوني في الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي بصفة مراقب، وما يمثله من خطر على القارة في فتح أزمات وتوترات جديدة داخلية خدمة للمشاريع الدولية، لولا الدور الجزائري المحوري ونجاح دبلوماسيتها في تجميد القرار.
وختاما أقول إن تضحيات شعوب إفريقيا في سبيل نيل استقلالها وحريتها تتنافى مع الترحيب بمن لعنهم الله عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُواْ يَعْتَدون.
وهي الدولة التي تشكل الامتداد التاريخي للاستعمار الغربي. وإذا كانت الهواجس الأمنية حاضرة بقوة عند الحديث عن التغلغل الصهيوني في الدول الإفريقية، فإنَّ الجانب الأخلاقي يجب ألا يغيب هو أيضا عن حساباتنا.
ليست الاعتبارات الأمنية ولا الجيوسياسية هي وحدها التي تستفزّ الأحرار من الدول العربية والإفريقية للتصدي للتغلغل ال”إسرائيل”ي المشبوه في إفريقيا، بل أيضا الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية والدينية؛ فالمكانة والشرف اللذين حصلتهما الشعوب الإفريقية في نضالها ضد الاستعمار يجب ألا يُلطّخا بالتعامل مع ربيبة الاستعمار؛ دولةِ الاحتلال ال”إسرائيل”ي.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن أرض الصومال اليوم عبر موقع أفريقيا برس