الخرطوم بلا “الدعم السريع”… تحول مفصلي في مسار حرب السودان

14
الخرطوم بلا
الخرطوم بلا "الدعم السريع"... تحول مفصلي في مسار حرب السودان

أفريقيا برس – السودان. في أهم تحوّل في مسار الحرب في السودان منذ 15 إبريل/ نيسان 2023، باتت الخرطوم التي انطلقت منها أول رصاصة بين الجيش السوداني ومليشيات الدعم السريع لتعلن الأخيرة بذلك انشقاقها وتمردها رسمياً على سلطة الجيش وتخوض ضده حرباً طاولت معظم ولايات البلاد، شبه خالية من “الدعم”، أمس الأربعاء، بعد هزائم متلاحقة تعرضت لها المليشيات وأجبرت من تبقى من عناصرها على الانسحاب والخروج من المدينة. وحسِمت المعركة في الخرطوم لصالح الجيش، الذي كانت “الدعم السريع” تمثل أكبر وحداته البرية، مع إحرازه مزيداً من التقدم، ولا سيما باتجاه جنوب العاصمة، وسيطرته على مواقع استراتيجية كانت بقبضة “الدعم” منذ بداية الحرب، من بينها مطار الخرطوم الدولي، وسط فرار مليشيات “الدعم” من آخر معاقلها في العاصمة باتجاه جبل أولياء جنوبها. ويعد جسر جبل أولياء الذي يعبر النيل الأبيض، المنفذ الوحيد لقوات الدعم السريع إلى خارج الخرطوم باتجاه معقلها في إقليم دارفور في غرب البلاد، والذي تسيطر على كامل ولاياته الخمس، باستثناء الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور.

ومساء أمس، خرج قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للقول من القصر الرئاسي: “انتهى الأمر. الخرطوم حرة”، فيما أظهرت لقطات مصورة تجوله في القصر برفقة عدد من الجنود قبل أن يغادر المقر. وجاءت هذه التطورات بعد سلسلة من التحولات بدلت خريطة السيطرة على الأرض، منذ بدأ الجيش والقوات المساندة له، في 26 سبتمبر/ أيلول الماضي، عملية عسكرية متعددة الاتجاهات لطرد مليشيات “الدعم” وحلفائها من مدن الخرطوم الثلاث؛ الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان. ومنذ أسابيع وبوتيرة متسارعة، بدأت تتناقص مساحات سيطرة “الدعم السريع” لصالح الجيش في ولايات أخرى مثل الجزيرة والنيل الأبيض وشمال كردفان وسنار والنيل الأزرق، في ظل تعرض مدن ومناطق في هذه الولايات لهجمات من مسيّرات “الدعم السريع” وقصفها المدفعي، في استراتيجية كثفت اعتمادها أخيراً عند كل خسارة تتكبدها أمام الجيش وحلفائه.

معقل “الدعم” في جبل أولياء

ومنذ يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلن الجيش مرحلة جديدة من معاركه ضد “الدعم” في الخرطوم، بعد استعادة السيطرة على القيادة العامة للقوات المسلحة وسلاح المدرعات، متقدماً بذلك إلى وسط العاصمة، ما مكّن قواته من الالتقاء مع وحدات الجيش في الخرطوم بحري وأم درمان. ولعل أبرز مشهد لاستعادة السيطرة على العاصمة كان الدخول إلى القصر الجمهوري، يوم الجمعة الماضي، مقر الحكم في البلاد، إلى جانب وزارات ومراكز حكومية من بينها البنك المركزي. وبعد محاصرة جبل أولياء، الذي كان المحطة التالية بعد السيطرة الكاملة على الخرطوم، خصوصاً أنه يقع جنوبها، أعلن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة نبيل عبد الله علي، في سلسلة بيانات على منصة فيسبوك، أمس، أن قوات الجيش تسلّمت “معسكر المليشيا بطيبة الحسناب بمحلية جبل أولياء وهو المعسكر الرئيسي لمليشيا آل (قائد الدعم السريع محمد حمدان) دقلو بوسط البلاد وآخر معاقلها بالخرطوم”. وأضاف أن “ما تبقى من وجود للأوباش مجرد جيوب هنا وهناك سيتم القضاء عليها عاجلاً”. كما أعلن أن “القوات المسلحة وقوات الاحتياطي المركزي والقوات المساندة لها تواصل تقدمها في محور شرق الخرطوم وتقوم بتطهير مقر اللواء الأول مشاة آلي بالباقير (غرب الخرطوم) وتمشيط المنطقة وتكبيد مليشيا آل دقلو الإرهابية خسائر كبيرة في المعدات والأرواح”.

ولاحقاً، نشرت القوات المسلحة السودانية على منصة فيسبوك، ما قالت إنها “مشاهد الهروب الجماعي بالأرجل لبقايا مليشيا آل دقلو الإرهابية عبر جسر خزان جبل أولياء بعد أن أجبرتهم القوات المسلحة على ترك عدتهم وعتادهم”. وفي وقت سابق أمس، طوّق الجيش، وفق مصدر عسكري في الجيش تحدث لوكالة فرانس برس، جسر المنشية من الجانبين، وهو أحد الجسور التي تعبر النيل الأزرق شرق الخرطوم، تاركاً جسر جبل أولياء جنوب غرب العاصمة منفذاً أخيراً لخروج “الدعم السريع” من المنطقة. في الأثناء أعلنت إدارة مطار الخرطوم الدولي، أمس، استعادة الجيش للمطار بالكامل بعد أن ظل تحت سيطرة “الدعم السريع” منذ بداية الحرب. والمطار أحد أهم مطارات البلاد وأكبرها وأنشئ في أعقاب الحرب العالمية الثانية في عام 1947. وكانت تقارير ذكرت، أمس، أن الجيش استعاد مطار الخرطوم. وأوردت صحيفة “السوداني” أن الجيش “يُحرر مطار الخرطوم من مليشيا الدعم السريع المتمردة”، فيما نقلت “فرانس برس”، عن المصدر العسكري، أمس، أن الجيش سيطر على مطار الخرطوم الذي “تمّ تأمينه بالكامل”، بعد عامين من تمركز قوات الدعم السريع داخله.

من جهتها أوردت وكالة الأناضول، أمس، أن من بين المناطق المحررة في العاصمة أحياء بري والرياض والمعمورة وأركويت والجريف غرب، وذلك شرق الخرطوم، إلى جانب أحياء النزهة والصحافة وجبرة والكلاكلة اللفة في الجنوب. وأضافت أن عشرات المواطنين خرجوا في الشوارع احتفالاً بدخول الجيش إلى أحيائهم للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب. وفي السياق، قال شهود عيان لوكالة الأناضول إن الجيش انتشر في الشوارع الرئيسية؛ بينها شارع الستين، والصحافة زلط، وأوماك، بجانب شارع الكلاكلة اللفة المؤدي إلى منطقة جبل أولياء، فيما قال شهود عيان لـ”رويترز” إن قوات الدعم السريع تمركزت في جنوب الخرطوم لتأمين انسحابها من العاصمة عبر الجسور المؤدية إلى أم درمان. وواصلت وحدات من الجيش والقوات المساندة له عمليات تمشيط واشتباكات متقطعة منذ أول من أمس، مع مجموعات من “الدعم السريع” في جنوب غرب مدينة أم درمان.

وكان ياسر العطا عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام للقوات المسلحة، قد أشاد بسلاح المدرعات والقوات المساندة “وتصديهم للعدوان الغاشم لمليشيا آل دقلو الإرهابية على مدى عامين كاملين”، مضيفاً خلال زيارته التفقدية، أول من أمس الثلاثاء، لقيادة سلاح المدرعات بمنطقة الشجرة العسكرية، أن المدرعات “ظلت عصية على المتمردين والمرتزقة”. وجدد “عزم الدولة القضاء على التمرد”، مؤكداً أن “معركة الحسم في طورها الأخير”. أما قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، فقد سبق أن أعلن أن “المعركة ماضية ولن تتوقف”، مضيفاً خلال زيارة تفقدية لمدينة الكاملين بولاية الجزيرة، قبل أيام قليلة: “لن نتراجع ولن نتأخر، وسنقف مع المواطن حتى النهاية”.

استعادة السيطرة على الخرطوم

وبعد أكثر من 23 شهراً من المعارك بسط الجيش السوداني، أمس، سيطرته على معظم أجزاء ولاية الخرطوم، مستعيداً بذلك مركز السلطة حيث مقر الحكومة والقصر الرئاسي والمطار الدولي الأول في البلاد، وقيادة الجيش. وكانت العاصمة مركز المعارك منذ الأيام الأولى للحرب بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة دقلو المعروف باسم “حميدتي”، إذ شهدت المدينة الرياضية جنوبي الخرطوم حيث كانت تتمركز قوات ضخمة لـ”الدعم السريع” انطلاق الاشتباكات الأولى، لتشتعل بعدها المعارك بسرعة في القيادة العامة للجيش والقصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي وبقية المقار العسكرية للجيش الموزعة وسط وحول العاصمة. وبعد نحو شهرين من المعارك الضارية تقاسم الطرفان السيطرة على أجزاء العاصمة التي شهدت دماراً كبيراً وموجات نزوح متواصلة حتى كادت تفرغ تماماً من سكانها، عدا القلة الذين لم يستطيعوا التوجه إلى أي مكان آخر. وتحولت الحكومة السودانية إلى مدينة بورتسودان في ولاية البحر الأحمر شرقي البلاد، واتخذتها عاصمة بديلة مؤقتة لإدارة أعمالها.

وبعد ما يقارب عامين من المعارك أطلق الجيش عملية عسكرية متعددة الاتجاهات في 26 سبتمبر الماضي في مدن ولاية الخرطوم الثلاث، لاقتحام مناطق تسيطر عليها “الدعم السريع” واستعادة العاصمة. وسيطر على عدد من المواقع حتى استعاد القصر الرئاسي المعروف محلياً باسم القصر الجمهوري في 22 مارس/آذار الحالي. وبعد سيطرة الجيش على القصر الرئاسي بدأ العد التنازلي لوجود “الدعم السريع” في العاصمة، إذ انسحبت مجموعات كبيرة منها بصورة متواصلة مع تقدم الجيش المتسارع نحوها، متوجهة إلى خزان جبل أولياء أقصى جنوب الخرطوم.

ويضم الموقع جسراً ضيقاً يُعبر من خلاله إلى مدينة أم درمان غرباً. وقبيل تفجر الحرب قبل نحو عامين تأزم الخلاف السياسي بين البرهان و”حميدتي” قبل أيام من الحرب، ليتفاقم الوضع بإقدام “الدعم” يوم 13 إبريل 2023 بنشر قواتها داخل العاصمة وعدد من مدن الولايات. واعتبر الجيش في بيان في اليوم نفسه حينها، أن “البلاد تمر بمنعطف تاريخي وخطير وتزداد مخاطره بتحشيد قيادة الدعم السريع القوات والانفتاح داخل العاصمة وبعض المدن دون موافقة قيادة القوات المسلحة أو مجرد التنسيق معها”. وأضاف البيان الذي صدر عن المتحدث باسم الجيش نبيل عبد الله، أن “محاولات القوات المسلحة في إيجاد الحلول السلمية لهذه التجاوزات لم تنقطع، حفاظاً على الطمأنينة العامة وعدم الرغبة في نشوب صراع مسلح يقضي على الأخضر واليابس”.

ورغم بيان الجيش هاجمت “الدعم السريع” وسيطرت على مطار مروي في الولاية الشمالية حيث كانت وحدات من الجيش المصري موجودة هناك بمعية عدد من الطائرات المقاتلة. واحتجزت الجنود والضباط المصريين، ثم أخلت سبيلهم بعد ذلك. وفي يوم 19 إبريل 2023 أعلن الجيش أنه تم بتنسيق مع مصر إجلاء 177 من الأطقم الفنية للقوات الجوية المصرية الذين تم الإفراج عنهم. وفي 6 سبتمبر 2023 أصدر البرهان قراراً قضى بحل قوات الدعم السريع. وجاء القرار بحسب نصه استناداً على تداعيات “تمرد هذه القوات على الدولة والانتهاكات الجسيمة التي مارستها ضد المواطنين، والتخريب المتعمد للبنية التحتية بالبلاد”. فشلت العديد من جولات التفاوض بين الطرفين عدا هدن قصيرة تم الاتفاق عليها، لكنها لم تحدث أثراً كبيراً على تحسين الأوضاع الإنسانية للمواطنين العالقين وسط القتال.

وبعد نحو ثلاثة أسابيع من اندلاع القتال، نجحت الوساطة السعودية الأميركية في عقد مفاوضات بين الطرفين بمدينة جدة، تمخض عنها التوقيع في 11 مايو/ أيار 2023، على ما عرف باسم “إعلان جدة”. نص الاتفاق، والذي تعذر تطبيقه، على الالتزام بحماية المدنيين في السودان وتيسير العمل الإنساني، والسماح بمرور آمن للمدنيين لمغادرة مناطق الأعمال العدائية الفعلية على أساس طوعي في الاتجاه الذي يختارونه. كما نص على التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، والامتناع عن أي هجوم من المتوقع أن يسبّب أضراراً مدنية عرضية من التي تكون مفرطة مقارنة بالميزة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة. أما سياسياً فكانت أبرز خطوة تتخذها “الدعم السريع” في تحدّ للحكومة السودانية، هي إعلانها والقوات المتحالفة معها، الشهر الماضي، حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها. ويعني ذلك حكومة في إقليم دافور، وسط مخاوف من أن يمهد ذلك لمحاولة فصله عن البلاد مع انحسار قوات “الدعم” باتجاهه.

انعكاسات على مشهد الحرب

في هذا الصدد رأى المحلل السياسي مجدي كنب، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “قرب إعلان سيطرة الجيش بشكل كامل على العاصمة ستكون له انعكاساته على مجمل مشهد الحرب من خلال التقدم السريع والسيطرة على المراكز المهمة التي كانت توجد فيها الدعم السريع”. ويجعل ذلك، بحسب كنب، “الحرب في وسط السودان على مشارف النهاية”. وأوضح أن السيطرة على العاصمة بشكل كلي لها انعكاساتها، فهي “سياسياً مركز الدولة الذي توجد فيه كل المؤسسات التي لها رمزيتها كالقصر الرئاسي والوزارات السيادية”، ومن ثم تعني “نهاية مشروع الدعم السريع السياسي، خصوصاً ما أطلقت عليه الحكومة الموازية”. وباعتقاد كنب فإن “سيطرة الجيش على العاصمة تعني سيطرة الدولة على مركز القيادة فيها، واستعادة سيادتها، وبالتالي ستحدث تغييرات كبيرة في مواقف الدول سواء التي تدعم مشروع السيطرة على البلاد أو التي تقف ضده”. وأوضح أنه بالنسبة للأولى فإن مشروع السيطرة على البلاد فشل تماماً، وبالنسبة للأخيرة التي كانت تعارض هذا التوجه، فإنه “تأكيد لصحة موقف مبدئي”.

من جهته قال المستشار في الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية في السودان، اللواء معتصم عبد القادر، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “اقتحام الجيش لوسط الخرطوم ودخوله القصر الجمهوري يبدو أنه كان قاصمة الظهر المُهلكة للمليشيا المتمردة”. وأوضح أن “الدعم” سرعان “ما هربت قياداتها وهلكت قواعدها وانهارت في كافة أنحاء ولاية الخرطوم بأسرع مما يتخيل أي مخطط أو مراقب عسكري”. يعود ذلك وفق عبد القادر إلى “الاختلالات البنيوية التي تعاني منها المليشيا، إذ تعتمد على الولاء والهياج أكثر من اعتمادها على المهنية والاحترافية والتخطيط السليم والتنفيذ المحكم، رغم توفر الإمكانيات والمعينات العسكرية والإمدادية”. وأشار إلى أن “ما جرى من هزائم ساحقة للمليشيا في الوسط وولاية الخرطوم يؤشر لقرب نهايتها وزوالها في إقليمي كردفان ودارفور غربي البلاد، بنفس معدل السقوط الدراماتيكي” في الخرطوم. وفي رأيه “فقدت (الدعم) كل الزخم الاجتماعي والدعم الخارجي الذي كانت تستند عليه في السابق، ما يجعلها صيداً سهلاً للجيش السوداني الذي سيوجه كل معرفته وقدراته وإمكانياته وخبراته المتراكمة إلى تلك المناطق”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here