الذباب الإلكتروني: معركة الوعي في زمن التضليل الرقمي

6
الذباب الإلكتروني: معركة الوعي في زمن التضليل الرقمي
الذباب الإلكتروني: معركة الوعي في زمن التضليل الرقمي

أفريقيا برس – السودان. في عصر التكنولوجيا والمعلومات، لم تعد الحقيقة هي الأساس الوحيد في تشكيل الرأي العام، بل باتت القدرة على التلاعب بالوعي الجماهيري من خلال الأوهام والأكاذيب هي التي تحدد مسار الأحداث وتوجه النقاشات.

في هذا السياق، برزت ظاهرة الذباب الإلكتروني كأحد أخطر الأدوات الرقمية التي تستخدمها جهات عديدة لبث الفوضى وتشويه الحقائق، وإسكات الأصوات الحرة.

لا يمكننا النظر إلى الذباب الإلكتروني على أنه ظاهرة عشوائية، بل هو جزء من إستراتيجيات مدروسة تستخدمها أنظمة حكم للحفاظ على نفوذها، أو أحزاب لتشويه خصومها

الذباب الإلكتروني: تعريف وظاهرة

الذباب الإلكتروني هو مجموعة من الحسابات الوهمية أو المدارة بشكل مدروس على منصات التواصل الاجتماعي، تهدف إلى تضليل الرأي العام، ونشر الأخبار الكاذبة، والهجوم المنظم على المعارضين.

هذه الحسابات لا تعبر عن رأي شخصي طبيعي، بل هي أدوات مبرمجة أو ممولة من جهات معينة، سواء كانت حكومات أو أحزابا أو حتى مجموعات خاصة، لتوجيه النقاش العام في اتجاه معين.

صناعة التشويش والضياع

في زمن تختلط فيه المعلومات الحقيقية بالكاذبة، يساهم الذباب الإلكتروني في زيادة الضبابية التي تحيط بالقضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية.

بدلا من أن يصبح الإنترنت مساحة للحوار الحر والبنّاء، تتحول المنصات الرقمية إلى ساحات صراع مرهِقة، يضيع فيها صوت الحقيقة وسط زحام الأكاذيب.

الأدهى من ذلك أن من يديرون هذه الحسابات هم في الأساس فاشلون في إقناع الآخرين بالحجة والمنطق؛ فاختاروا السلاح الأرخص: التشويه والهجوم الشخصي والتضليل. هذا الأسلوب يكشف عن ضعفهم الحقيقي، ويجعلهم أعداء للوعي والحق، لا أبطالا في ساحات الرأي.

أهداف وأطراف الذباب الإلكتروني

لا يمكننا النظر إلى الذباب الإلكتروني على أنه ظاهرة عشوائية، بل هو جزء من إستراتيجيات مدروسة تستخدمها أنظمة حكم للحفاظ على نفوذها، أو أحزاب لتشويه خصومها، وأحيانا حتى شركات تجارية لتسويق منتجاتها عبر التضليل.

في الوطن العربي، برزت هذه الظاهرة بوضوح خلال الثورات والأحداث السياسية الكبرى، حيث استُخدمت كأداة لقمع الأصوات المعارضة، وتشويه صورة الناشطين، ومحاولة التحكم في مسار الحراك الشعبي.

وقد أثبت الذباب الإلكتروني فعاليته في تحويل النقاش من مواضيع جوهرية إلى صراعات جانبية، وفي شخصنة القضايا.

دراسة لـ”مؤسسة بيرسيت” سنة 2022 بينت أن 60% من الشباب العرب يواجهون صعوبة في التمييز بين الأخبار الحقيقية والأخبار الكاذبة على الإنترنت، ما يجعلهم أكثر عرضة لتأثير الذباب الإلكتروني

الخطر على المجتمع والوعي

الذباب الإلكتروني لا يهاجم الأفراد فقط، بل يهاجم المجتمع بأكمله من خلال نشر ثقافة التشكيك في الحقائق الواضحة والفاضحة، وتعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية، وحتى العائلية. عندما تصبح الحقيقة محل نزاع، ويصبح كل شيء قابلا للتشكيك، يفقد المجتمع قدرته على التوافق والعمل الجماعي.

هذا يؤدي إلى نوع من الإحباط السياسي والاجتماعي، ويزيد من عزلة الأفراد داخل دوائرهم المغلقة، حيث يلتقط كل منهم ما يتوافق مع تصوراته دون تحرٍّ للحقائق. في النهاية، نكون أمام مجتمع مفرّق، لا يستند في قراراته إلى منطق أو معلومة صحيحة.

بيانات وإحصاءات

تقرير لمؤسسة “سايت” (SITE Intelligence Group) في 2021 كشف أن أكثر من 30% من المحتوى السياسي على تويتر سابقا في العالم العربي يتم إنشاؤه أو الترويج له عبر حسابات ذباب إلكتروني.

دراسة لـ”مؤسسة بيرسيت” سنة 2022 بينت أن 60% من الشباب العرب يواجهون صعوبة في التمييز بين الأخبار الحقيقية والأخبار الكاذبة على الإنترنت، ما يجعلهم أكثر عرضة لتأثير الذباب الإلكتروني.

الذباب الإلكتروني هو جدار عازل بيننا وبين الحقيقة، ولكنه جدار يمكن أن نهدمه بالوعي والتضامن والعمل المشترك
كيف نواجه الذباب الإلكتروني؟

لا يكفي أن ندرك خطورة هذه الظاهرة، بل يجب أن نتحرك بشكل عملي لمواجهتها.

أولى الخطوات هي نشر الوعي الرقمي بين مستخدمي الإنترنت، خاصة الشباب، من خلال برامج تعليمية توضح كيفية التعرف على الأخبار الزائفة، والتمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة.

الإعلام المستقل له دور كبير أيضا، من خلال تقديم تغطية موضوعية، وتفنيد الأخبار الكاذبة، وإبراز قصص النجاح في مكافحة التضليل الرقمي.

ويجب أن تتبنى المؤسسات الإعلامية إستراتيجيات حديثة، تتعامل مع الذباب الإلكتروني كتهديد حقيقي، لا مجرد ظاهرة جانبية.

على مستوى الأفراد، هناك مسؤولية كبيرة في تحمل النقد الذاتي، والبحث عن الحقيقة، وعدم الانسياق وراء العواطف أو الأخبار التي تثير الفتن دون تدقيق. يجب أن نكون جميعا “مفتشين” عن الحقيقة لا مجرد مستهلكين للمعلومة.

على منصات التواصل الاجتماعي أن تبني آليات فعالة لاكتشاف الحسابات الوهمية والمسيئة، وتفعيل العقوبات المناسبة عليها، بما يضمن بيئة رقمية أكثر أمانا وشفافية
دور الحكومات والمنصات الرقمية

لا يمكن إغفال دور الحكومات والمنصات الرقمية في الحد من هذه الظاهرة… يجب تطوير قوانين واضحة تحاسب كل من يستخدم الذباب الإلكتروني كأداة للتحريض أو التشويه، مع احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير.

من جانبها، على منصات التواصل الاجتماعي أن تبني آليات فعالة لاكتشاف الحسابات الوهمية والمسيئة، وتفعيل العقوبات المناسبة عليها، بما يضمن بيئة رقمية أكثر أمانا وشفافية.

حلول إضافية

إنشاء مراكز “التحقق من الأخبار” الرقمية داخل المؤسسات الإعلامية العربية.

تشجيع التعاون بين الحكومات ومواقع التواصل الكبرى، مثل فيسبوك وتويتر، لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد حسابات الذباب وحذفها سريعا.

تنظيم ورش عمل ومبادرات توعية في المدارس والجامعات لتعزيز الثقافة الرقمية لدى الشباب.

في الختام

الذباب الإلكتروني هو جدار عازل بيننا وبين الحقيقة، ولكنه جدار يمكن أن نهدمه بالوعي والتضامن والعمل المشترك. لا يمكننا تجاهل أن المعركة اليوم ليست فقط بين الحق والباطل، بل بين من يريد إشعال الفتنة عبر الأكاذيب، ومن يريد بناء مستقبل يعتمد على الحقيقة والنقاش الحر.

علينا أن نختار بوعي، وأن نكون جزءا من الحل لا المشكلة… حين نواجه الذباب الإلكتروني بصراحة وشجاعة، نعيد للفضاء الرقمي مكانته كأداة للتنوير لا للتضليل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here