كنت أنتظر في صالة المغادرة حين مر بي أحد أصدقائي من أعلام الإدارة في السودان، كان مديراً لإحدى أكبر المؤسسات الشهيرة والآن تحول حديثاً إلى مؤسسة كبيرة وشهيرة أخرى.. جاء يحمل في يده بعض كتب الإدارة لفت نظري واحد منها وعنوانه (الخطة ب)..
خلال تجاذبنا لأطراف الحديث في الشأن العام أبدى الإداري المتميز دهشته من أن المؤسسات العامة والخاصة في السودان لا تضع اعتباراً للخطة “ب”، وأن الفهم السوداني المزمن هو أن الخطة الأولى والأخيرة هي “أ” وأن “ب” هو القدر الذي لا يجب أن يقابل إلا بالتسليم.. وهو ما يناقض تماماً معنى الحديث الشريف “أعقلها وتوكل”.. قلت له في الحقيقة حتى حكومتنا وفي أعلى مستوياتها لا تؤمن حتى بالخطة “أ” فضلاً عن “ب”.. هم يؤمنون فقط بالخطة “زيرو”.. وطبعاً لا أقول الخطة “صفر” لأن الأدب السياسي السوداني مولع ب”الزيرو” من لدن “زيرو عطش” مروراً ب”زيرو كوش” إلى “زيرو فساد”..
دأبت حكومتنا على إعلان أن لديها “خطة اسعافية” أحياناً تحددها ب “200” يوماً وتارة بعام كامل ومرات بستة أشهر.. والحقيقة ليس مهماً مدة “الخطة الاسعافية” بل الأهم أن تعلم حكومتنا أنه من الأساس ليس هناك في علم الإدارة الحديث ما يسمى ب”خطة اسعافية”.. فمن يركب الاسعاف لا يُخطط بل يعالج الأمر الواقع وفق تطوراته وتداعياته.. هل سمعتم يوماً طبيباً يسأل مريضاً ينزف وهو في سيارة الاسعاف ما هي خطتك لتطوير قدراتك؟
ولا أريد تكرار ما ظللت أردده هنا منذ شهور أن على حكومتنا بناء خطة استراتيجية تتفصل إلى خطط متوسطة وأخرى قصيرة هي البرنامج التنفيذي.. والآن يبدو الأمر أكثر إرباكاً – على الأقل بالنسبة لي – إذ قرأت بياناً صادراً من إعلام مجلس الوزراء يتحدث عن “معسكر” لمدة يومين أقيم بضواحي الخرطوم لرئيس وأعضاء مجلس الوزراء.. ومن أريج كلمات البيان تبدو الفكرة لها علاقة بتبني خطة أو موجهات عمل تنجبها الخلوة الشرعية التي يخلو فيها الوزراء لأنفسهم بعيداً عن صخب المكاتب و تداخل الهموم الخاصة و العامة..
ولست أعترض هنا على فكرة “المعسكر” لكني مهموم بسؤال ظللت أطرحه على الحكومة منذ وُلدت قبل أكثر من شهرين.. ماهو الوصف الوظيفي لـ”الوزير”؟
الوزير؛ هل هو ذلك العبقري الملهم صانع خطط وسياسات وزارته؟ فهو بحاجة لمعسكر لاستمطار الخيال والفكرة.. أم هو “المالك” إذا افترضنا أن المديرين والموظفين في الوزارة هم “المقاول” الذي ينفذ سياسات “المالك”.
إذا حدَّقنا ببصر وبصيرة في السؤال، فإن الإجابة الحتمية هي أن الوزير هو مجرد الممثل السياسي والسيادي لـ(مؤسسة) الوزارة التي يشغل حقيبتها.. فعبقريته لا تتمدد أكثر من فهمه الدقيق لموجبات الوصف الوظيفي فلا يتعداه إلى اختصاصات أخرى.
وبهذا الفهم فإن المطلوب بناء المؤسسات قبل الأفراد..المؤسسات تصنع التفكير المؤسسي.. الذي ينجب وطناً قوياً..