أفريقيا برس – السودان. في الوثائقيات التي تتناول حروباً ونزاعات وثورات، يتميّز “الخرطوم” (2025)، لأنس سعيد وراوية الحاج وإبراهيم سنوبي وتيمية أحمد وفيل كوكس، بتجاوزه الاشتغال المعتاد في هذا النوع السينمائي، في أكثر من مستوى، فني ودرامي وبصري، مُتجنّباً التركيز التقليدي على رصد الأهوال والفواجع، والإصغاء أكثر إلى أصوات الناجين منها، وتبيان تأثيرها عليهم، ومحاولتهم تجاوزها، واستكمال الحياة.
الغرض من الفيلم ـ المعروض أولاً في بانوراما الوثائقيات، في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ”مهرجان برلين السينمائي (برليناله)” ـ ومن تصوير الأحداث، تتبّع الفترة التي أعقبت الانقلاب العسكري في السودان عام 2021، وإطاحة ثورة سلمية أنهت 30 عاماً من الديكتاتورية، عبر خمسة أشخاص: لوكين (12 عاماً)، وويلسون (11 عاماً)، وخادمة الله (27 عاماً)، وجواد (39 عاماً)، ومجدي (45 عاماً). لكنْ، بمجرّد اندلاع الحرب بين المليشيات الحاكمة، وانتشار المجاعة، ونزوح الملايين، بات الهروب المخرج الوحيد الآمن لصُنَّاع الفيلم وأبطاله.
بذكاء واضح، أحسن فريق الإخراج استغلال الظروف المعاكسة التي فرضتها الحرب، ودفعت بهم إلى الفرار إلى كينيا ومصر، واستطاعوا بجهدٍ ملحوظ تطويع المستحيلات، والاستفادة من المعوقات، لابتكار طرق مغايرة، سردياً وبصرياً، لاستكمال التصوير، وتنفيذه بمهارة وصدق فنيّين: الاستفادة من المُصوَّر سلفاً، واستخدام المونتاج (يوسف جوبه) لتوظيفه في السياق، والبناء الفيلمي الجديد، وإعادة تجسيد ما كان مُفترضاً تصويره في الواقع، في استديو.
استعان فريق “الخرطوم” بمقاطع التظاهرات والاشتباكات لوضعها في السياق، مُستعيضاً بالتمثيل عن استحالة التصوير الحقيقي. واستخدم الغرافيك بشكلٍ جيد، وتقنيات الكمبيوتر والتلوين، لتنفيذ لقطات وخلفيات خاصة بالمشاهد. هذا كلّه أكسب الفيلم قوامه المتفرّد، وبنيته السردية والبصرية المتميّزة، وتجاوز المعالجة العادية، ونمطية رصد الأحداث وتوثيقها بكاميرا محايدة أو غير متمرّسة، فصار مزيجاً من وجهات نظر انطباعية وواقعية، ورؤى ذاتية وخيالية، أو ذات طابع حلمي. ما جعل التجربة جديدة في الوثائقيات العربية، ومقارنة بالوثائقيات الأخرى ذات الصلة.
المثير للانتباه أنّ إعادة تجسيد ما جرى وتمثيل القصص مع أصحابها، بمشاركة أصحاب قصص أخرى، كانا شديدي التأثير، وبالِغَي الصدق والعفوية، ولهما أثر يفوق الواقع. إذ أتاح هذا للمتفرّج حرية بالغة في تخيّل الوقائع وتصوّرها، لا الاكتفاء بمشاهدتها. كما خلق احتياج أحدهما إلى الآخر، والمشاركة في التجسيد وتنفيذ الأدوار والأفعال المطلوبة، ما يُمكن اعتباره إخراجاً تعاونياً، إذ إنّ كلّ فرد مخرج قصته، من دون حاجة كبيرة إلى توجيهات من وراء الكاميرا. رغم أنّ التوجيهات الإخراجية تصدر بين حين وآخر كاسرة الحائط الرابع للمُحافظة على الإيقاع، أو لضبط الدراما، أو لإيضاح شيءٍ.
توليفة الاشتغال البصري، الجامعة بين أكثر من نوع سينمائي، والاشتغال السردي لتجسيد الوقائع بصدق بالغ، وضبط إيقاع الدراما كي لا تصير ميلودراما، وغيرها من الجوانب الفنية الممزوجة بالموسيقى والأغاني السودانية، كان يُمكنها كلّها ألاّ تنجح، أو تبدو مفتعلة وغريبة للغاية، أو تأخذ “الخرطوم” من سياقه ودراميّته إلى التجريب والتجريد، ما يحول دون تفاعل المتفرّج وأحداثه. لكنْ، ضُبِط إيقاع العناصر كلّها معاً، ونجحت جهود المخرجين الخمسة في طمس الحدود بين الشكل والمضمون، وخلق التناغم والتكامل بين القصص الخمس، رغم أنّ الإخراج لأفرادٍ، معظمهم هواة، وإمكاناتهم محدودة جداً.
بمنتهى الصدق والعفوية، يسرد الأشخاص الخمسة قصصهم المؤثّرة. يُعبّرون بتلقائية عن رؤيتهم للحرب من وجهات نظر وخلفيات عمرية وثقافية وطبقية متباينة:
لوكين وويلسون من الأحياء الفقيرة للخرطوم، لا أهل لهما. يجمعان معاً زجاجات البلاستيك الفارغة لبيعها. يظهران قبل اندلاع الحرب في لقطات حقيقية، أثناء عملهما هذا. في النهاية، يبدو أنّهما بصدد حياة أفضل، بعد التحاقهما بمدرسة في كينيا، وتحقيق حلمهما بارتداء قميصين جديدين. جواد شاب شديد اللطف، من أبناء الثورة. يعيش مع عائلته في مصر. تطوّع في المقاومة. هناك لقطات قديمة تقرّبنا منه أكثر، فندرك أنه من المُخاطرين بحيواتهم لنقل الجرحى والمُصابين والقتلى على درّاجته البخارية. هناك أيضاً بَسْطة الشاي الخاصة بالأرملة الشابة خادمة الله، قبل الحرب. تتنقل الكاميرا بين وجوه الزبائن، وهم يتناقشون في السياسة، ويتبادلون الأحداث اليومية، ويفكّرون في مستقبل بلدٍ بحاجة إلى ثورة حقيقية. نقاش يكشف بإيجاز مدى عراقة البلد، وتنوّع خلفيات، وتعدّد ثقافات، وتباين أعراق. تتساءل خادمة الله، بعد إعادة تجسيد مشهد قتل أحد زبائنها أمام عينيها، عن مصير بقية زبائنها.
أخيراً، هناك مجدي، الموظّف الحكومي الكبير العامل في جهاز بيروقراطي، وسلطة لا يرغب في العمل معها أو الانتماء إليها، لكنّه يعجز عن التمرّد، أو إيجاد بديل. كلّ ما رغبه أنْ يعيش مع أسرته بهدوء وسلام، ومجالسة أصدقاء في مقهى، والحديث عن الحمام الذي يعشق تربيته. وذلك قبل إجباره على الرحيل القسري، بعد فقدانه منزله وممتلكاته.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس