مجازر الفاشر وبارا وصمت العالم!

3
مجازر الفاشر وبارا وصمت العالم!
مجازر الفاشر وبارا وصمت العالم!

د. محمد حسن إمام

أفريقيا برس – السودان. في قلب السودان، بين الرماد والدم، تتحدث مدينتا الفاشر وبارا عن مأساة وطن يُذبح ببطء.

لم تعُد الأخبار القادمة من دارفور تحمل سوى رائحة الموت؛ فالمجازر التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع تجاوزت حدود الحرب لتتحول إلى إبادة جماعية ممنهجة.

ومع كل يوم جديد، يسقط مدنيون عُزل، وتُحرق القرى، ويزداد صمت العالم اتساعا حتى يكاد يُصبح تواطؤا.

في زمن تتزاحم فيه المآسي وتضيع فيه القيم بين صخب الحروب والمصالح، يعيش السودان اليوم مأساة تتجاوز حدود المنطق والإنسانية.

مجازر الفاشر وبارا لم تكن مجرد أحداث عابرة في حرب طويلة، بل جرس إنذار يدق أبواب الضمير العالمي، ليذكر العالم بأن الدم السوداني ليس أقل قيمة من غيره.

تقارير الميدان تؤكد أن المليشيا استخدمت أسلحة ثقيلة وقذائف عشوائية ضد المدنيين، مع عمليات نهب ممنهج للمنازل والمحال التجارية، واعتقالات تعسفية واسعة

المجازر.. وجع يتحدى الصمت

في مدينة الفاشر، اختلطت رائحة الدم بتراب الأرض، بعدما ارتُكبت جرائم إبادة بحق المدنيين على يد مليشيا الدعم السريع.كانت المدينة، التي طالما عُرفت بالتسامح والتنوع، مسرحا لمشاهد تقشعر لها الأبدان: أحياء مدمرة، أطفال بلا مأوى، نساء يصرخن في العراء، وشيوخ يُقتلون بدم بارد.

الفاشر.. مدينة تكتب التاريخ بالدم

مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، كانت رمزا للتنوع والحياة، لكنها تحولت اليوم إلى مقبرة مفتوحة.

منذ أسابيع، تشهد المدينة هجمات ممنهجة من مليشيا الدعم السريع استهدفت الأحياء السكنية والمستشفيات والأسواق.

المدنيون يُقتلون داخل بيوتهم، والنساء يتعرضن للاغتصاب الجماعي، والأطفال يُجبرون على النزوح وسط النار.المستشفى الرئيسي في الفاشر خرج عن الخدمة بعد قصفه بالمدفعية، فيما قُطعت الإمدادات الإنسانية عن المدينة تماما، وتكاد تخلو من السكان.

تقارير الميدان تؤكد أن المليشيا استخدمت أسلحة ثقيلة وقذائف عشوائية ضد المدنيين، مع عمليات نهب ممنهج للمنازل والمحال التجارية، واعتقالات تعسفية واسعة.

هذه الجرائم لا تُعبر عن فوضى حرب، بل عن سياسة متعمدة لإبادة السكان وتهجير من تبقى من الأهالي.

بارا لم تسقط عسكريا فقط، بل سقطت إنسانيا أمام عجز العالم. فلا مساعدات وصلت، ولا بعثة أممية تدخلت، ولا صوت ارتفع لوقف المجازر، وكأن المدينة انطفأت من خارطة الوعي الإنساني، تماما كما أرادت آلة الحرب أن تفعل

بارا.. المدينة التي احترقت في صمت

أما مدينة بارا بولاية شمال كردفان، فقد عاشت بدورها أياما من الرعب لا تقل فظاعة. شهدت المدينة اجتياحات مسلحة وعمليات ذبح وقتل ميداني للمدنيين بعد حصار طويل.

اقتحمت المليشيا الأحياء الشرقية والغربية، وأحرقت المنازل بعد نهبها، فيما أُجبر المئات على الفرار إلى المناطق الريفية.تم توثيق مشاهد مروعة لجثث في الشوارع، ونساء يُسحبن من بيوتهن، ومصلين يُقتلون داخل المساجد.

بارا لم تسقط عسكريا فقط، بل سقطت إنسانيا أمام عجز العالم. فلا مساعدات وصلت، ولا بعثة أممية تدخلت، ولا صوت ارتفع لوقف المجازر، وكأن المدينة انطفأت من خارطة الوعي الإنساني، تماما كما أرادت آلة الحرب أن تفعل.

التمويل الإقليمي.. دماء تُشترى وتُباع

ما يحدث في الفاشر وبارا ليس حدثا عابرا؛ إنه نتاج تمويل خارجي منظم يغذي آلة الحرب في السودان. شبكات من المال والسلاح تمتد عبر الحدود تمول هذه الجرائم، بينما الذهب المنهوب من دارفور يُهرَب لشراء الولاءات والمرتزقة.

لقد أصبح الدم السوداني عملة سياسية تُستخدم في صفقات النفوذ بين بعض القوى الإقليمية. هذه الحرب ليست معركة محلية، بل هي صراع مصالح إقليمي ودولي على أرض السودان، والمواطن السوداني هو الخاسر الأكبر.

المرتزقة.. الوجه المظلم للحرب

تزايدت التقارير عن وجود مرتزقة أجانب يقاتلون إلى جانب مليشيا الدعم السريع في دارفور وكردفان، وفق خطوط إمداد معلومة، وما ذكره وزير الدفاع الصومالي أمام برلمان بلاده خيرُ شاهد على نقل المرتزقة عبر مطار بوصاصو في ولاية بونتلاند.

هؤلاء المقاتلون جُلبوا من دول أفريقية مجاورة وغيرها مقابل المال والذهب؛ لا قضية لهم سوى القتال لمن يدفع أكثر. وجودهم زاد من وحشية العمليات، ورفع مستوى الجرائم من انتهاك فردي إلى إبادة منظمة.

لقد تحولت دارفور إلى مختبر لحرب بالوكالة، تختبر فيه بعض الدول أدواتها الجديدة في السيطرة والتوسع عبر الدم السوداني.

ما نراه اليوم: تطهير عرقي في دارفور، ونزوح جماعي لمئات الآلاف من المدنيين، وانهيار كامل للخدمات الإنسانية والطبية، وصمت دولي يُغطي على الجريمة بدلا من وقفها

المجتمع الدولي.. عيون مفتوحة وضمير مغلق

رغم وضوح الأدلة وصور الأقمار الصناعية وشهادات الناجين، لا يزال العالم يلتزم صمتا مريبا. فمجلس الأمن الدولي لم يتحرك بجدية، والمنظمات الأممية تصدر بيانات باهتة عن “القلق العميق”، بينما يتواصل القتل كل يوم.

لم يُفرض حظر أسلحة، ولم تُفتح ممرات إنسانية إلى دارفور، ولم تُفعل أي آلية لحماية المدنيين. إنه عجزٌ أخلاقي وسياسي يعكس انهيار الضمير العالمي أمام جرائم مكتملة الأركان.

حتى بعض الدول التي رفعت شعار “العدالة الإنسانية” في أزمات أخرى، اكتفت هنا بمراقبة المجازر كما لو كانت مشهدا سينمائيا من بعيد. أما الاتحاد الأفريقي، فغارقٌ في اجتماعات بلا جدوى، بينما تتحول قارة بأكملها إلى شاهد على موت مدينة تلو الأخرى.

مأساة السودان بين الداخل والخارج الصامت

الفاشر وبارا ليستا معركتين عسكريتين فحسب، بل رمزا لانهيار المنظومة الإنسانية والسياسية في السودان. من جهة، تقف المليشيا بسلاحها وتمويلها الخارجي تمارس أبشع الجرائم دون خوف من المحاسبة، ومن جهة أخرى، يقف المجتمع الدولي مترددا، عاجزا عن التدخل الفعال أو فرض إرادة العدالة.

النتيجة هي ما نراه اليوم: تطهير عرقي في دارفور، ونزوح جماعي لمئات الآلاف من المدنيين، وانهيار كامل للخدمات الإنسانية والطبية، وصمت دولي يُغطي على الجريمة بدلا من وقفها.

إن ما يجري في السودان، وخاصة في الفاشر وبارا، ليس مجرد حرب أهلية، بل هي حرب ضد الوجود الإنساني ذاته.فحين تُقتل الشعوب أمام الكاميرات دون رادع، ويُكافأ القتلة بالمناصب والدعم، تصبح العدالة كلمة جوفاء، وتتحول الإنسانية إلى شعار منسي.

من تحت الركام، ينهض السودان. إن الأمل ليس شعارا، بل فعل مقاومة. السودان، الذي قاوم الاستعمار والانقسام، سيقاوم هذه الحرب أيضا، وسينهض من بين الرماد ليكتب فجرا جديدا للحرية والعدالة

الفاشر تنزف.. وبارا تبكي بصمت

رغم الألم، ما زال في السودان شعب لا يركع. في كل مدينة تُقصف، هناك أمٌ تُنقذ جريحا، وطبيبٌ يقاوم وسط الدمار، وإعلامي يوثق الحقيقة بهاتف مكسور. السودانيون اليوم لا ينتظرون عطف العالم، بل إيقاظ ضميره.

الفاشر ليست مجرد مدينة، وبارا ليست مجرد ضحية؛ إنهما رمزان لوطن يُقاوم كي لا يُمحى. فمن تحت الرماد، سينهض السودان من جديد – حرا، موحدا، وعصيا على الانكسار.

نحو إيقاظ الضمير العالمي

القضية السودانية اليوم ليست صراعا داخليا، بل امتحانا للإنسانية جمعاء. فكما تحرك العالم لأوكرانيا وغزة، عليه أن يتحرك للسودان. لقد أثبت المثقفون والفنانون والرياضيون أن صوت الإنسان أقوى من صمت المؤسسات، وأن الضمير الحر يمكنه أن يصنع التغيير متى ما توحدت الأصوات من أجل العدالة.

الأمل.. الرسالة الأخيرة

من تحت الركام، ينهض السودان. إن الأمل ليس شعارا، بل فعل مقاومة. السودان، الذي قاوم الاستعمار والانقسام، سيقاوم هذه الحرب أيضا، وسينهض من بين الرماد ليكتب فجرا جديدا للحرية والعدالة.

لن يُهزم السودان، لأن الشعوب لا تُباد بالإبادة، بل تُبعث من جديد بإرادة الحياة. وما المجازر إلا امتحانٌ قاسٍ لصلابة هذا الوطن. وحين يستيقظ الضمير العالمي، سيكتشف أن السودان لم يكن ضحية صراع عابر، بل رمزا لصمود أمة تقاتل من أجل حقها في البقاء.

السودان اليوم بين المجازر والصمت العالمي.. لكنه غدا سيكون عنوانا للكرامة والنهضة الإنسانية

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here