وسام سعادة
أفريقيا برس – تونس. ما بين انهماكات «التطبيع العربي» مع نظام آل الأسد، واشتباكات داحس والغبراء بين عبد الفتاح برهان والجنجويد في السودان، واعتقال نظام أستاذ القانون الدستوري المنتخب للإجهاز على المؤسسات قيس سعيد لرئيس البرلمان المنتخب هو الآخر راشد الغنوشي، يكون الابتعاد عن مرحلة التفاؤل بآفاق الزرع الديمقراطي في البلدان العربية قد بلغ قدراً زمنياً وتجريبياً كافياً للابتعاد عنه بالكلّية.
يفرض نفسه في المقابل التشاؤم. فقد بات هو الشرط الأوّل لوزن الأشياء واستشراف المرحلة. المفارقة أنه يقود الى تفاؤل معرفي : إذ ثمّة مجال للرؤية بشكل أفضل بعد تلاشي المبالغات وانقشاع ما بثّته الحماسة للأحداث الجماهيرية – الانتفاضية من أوهام.
فلا أحد بعد اليوم بات يمكنه الحديث عن «استثناء تونسي» يحافظ فيه هذا البلد الذي افتتح ثورات 2011 على حصته من الربيع العربي رغم انكسار الربيع في البلدان الأخرى، ويمضي قدماً في استكمال عقده الاجتماعي وبلورة مؤسساته الدستورية وتطوير انتفاعه من التداول على السلطة داخلها والفصل بين سلطاتها. قديماً كان السجال ضمن الحركة الاشتراكية العالمية إن كان ثمة مجال لقيام الاشتراكية في بلد واحد دوناً عن سائر البلدان. على غرار ذلك يمكن القول اليوم أنّ التجربة تعلّمنا أن لا قيام للديمقراطية في بلد عربيّ واحد.
لم يعد ميسّراً طمأنة الذات بأن للطغاة جولة وللشعوب جولة، وإن هي إلا عملية تداول على الزمن بين الطغاة وبين الشعوب، وليس هناك من ثمّ ما يمكن فعله سوى تطليق جولة والتأهب لأخرى.
فمثل هذا النَفَس الملحمي سارع للاستنجاد بانتفاضات السودان والجزائر والعراق ولبنان 2018-2019 على أنّها الراوند الثاني لربيع الشعوب. الفكرة التحررية – على ما حسبه أهل الاندفاع – حين تُدهَس في بلد تعود فتنبت في بلد عربي آخر، والحياة كرّ وفرّ.
هذا النفس الملحمي يقوم على المكابرة. فما الذي يمنع الربيع الذي أطيح به في بلدان موجة 2011 بأن لا يُطاح به في بلدان موجة 2018 إن كانت أحابيل وأدوات وشبكات حماية الطغم العسكرية والأمنية والميليشياوية والمالية هي هي، والقوى التي تسعى إلى التفلت من ربقة هذه الطغم وصولاً إلى ابتغاء تفكيكها هي قوى فجّة وهشّة، قليلة الرغبة في أن تبني وعيها السياسي على الوعي التاريخي، ولا تكاد تنتشر بين الملايين حتى تعود وتنزوي في مئات من الكوادر المصدومين بهجران الجماهير لهم، والمستمرين بالنطق باسمها على أمل أن ترجع؟!
والعطب هنا في الامتداح الذاتي لعناصر الوهن وتمجيدها على أنها نسائم حياة. كمثل اندفاع أهل «الثورات» هذه للتفاخر بأن لا حاجة فيهم إلى قادة كاريزميين وتنظيمات هرمية. بدعوى أنّهم سيقعون حينذاك في شرك التماهي مع أنظمة حكم الفرد الواحد الأبدي والحزب الحديديّ.
وقد غاب عنهم هنا أنّ القائد الكاريزمي – الجماهيري لم يعد منذ وقت طويل سمة لقادة الأنظمة. هيهات. الحكم نفسه بات في غنى عن أي شرعية كاريزمية، وعن أي شرعية أيديولوجية. كل ما يلزمه قاعدة اجتماعية «من تحت» مقتنعة أنها ستفتقد للقليل الذي تقتات عليه إن سقط هذا النظام، ونخب «من فوق» خائفة على الكثير الذي لها، ومقتنعة تارة بأنها «عقل» هذا النظام وتارة بأنها «قلبه» أو «ضميره». وما بين الفوق والتحت يتكفل النظام بتأمين الحلقة الوسيطة، بمعية أجهزته الاخضاعية للمجتمع.
أساس الفكرة الشعبوية، أي الزعيم الذي ينجح في تقديم نفسه على أنه «تجسيد» للشعب غير قائم هنا. هل يمكن القول إن قيس سعيد يقدّم مثالاً مضاداً على هذا الصعيد؟ لغته العربية القشيبة لا تكفي وحدها لتقليده صفة الزعيم الكاريزمي. فهذه الشخصية تجد ماهيتها في برودتها. فيما الزعيم الكاريزمي من دم ولحم وعصب… وكهرباء. لكن ظاهرته هي بالفعل تجسيد لحلم أراده الكثيرون عام 2011. الحلم بوصول رئيس مدني، وغير إسلامي في الوقت نفسه، وليست له علاقة عضوية بالنظم السابقة. فكان ما كان، والنتيجة انقضاض على تجربة دستورية بحجة هشاشتها، واستخدام الكثير من الرطانة ضد الفساد والمفسدين، إنما من دون أي مضمون اجتماعي – اقتصادي منحاز على نحو من الجدية والمثابرة الى جانب الطبقات الشعبية.
لا يسع القوى المضادة للأنظمة التسلطية مواجهة أخصامها الشرسين من دون قادة كاريزميين. من دون ابتعاد عن سردية «موت الأيديولوجيات». من دون أفكار تتجاوز النطاق المجتمعي الداخلي الصرف. ومن دون إدراك أن لأي نظام قاعدة اجتماعية من تحت ونخب تسنده من فوق، وأن الإسناد له يقوم على أسباب وحيثيات موضوعية فعلية ولا يختصر بأن هؤلاء «مغرّر بهم» أو «باعوا أنفسهم».
لقد أعتقد معارضون كثر للأنظمة أنهم لعبوا الدور الحاسم في خروج الناس عام 2011. لكن ما جعل الناس تخرج على الطغاة لم يكن وليد النضالات التراكمية. إلا فيما قلّ ودلّ. كان وليد الكبوة الطويلة، ونجاح الأنظمة في عزل الحالات المناوئة لها وشيطنتها في مقابل عدم تمكن معظم هذه الأنظمة من تنظيم عملية تجديد النخبة الحاكمة فيها، ونقلها الى جيل جديد.
ما كانت المشكلة مطروحة عندما كانت وفرة في الانقلابات العسكرية، أو عندما كانت الأحزاب الحاكمة «الثورية» لا تزال تحتفظ ببعض حيوية ونوستالجيا جدية مع فترة البدايات النضالية.
لكن، عندما ضمرت الحيوية في الأحزاب الحاكمة، وتقدّم العمر بالماريشالات، وندرت الانقلابات العسكرية، وبخاصة تلك التي كان يقودها ضباط شبان من صغار الرتب، لم يعد هناك قابلية لتجديد «شباب» هذه الأنظمة إلا بانفجار أزماتها في الشارع، ليظهر من ثمّ أن أزمات الشارع نفسها، فضلا عن التوازن الكارثي لسنوات بين أهل النظام وأهل الثورة عليه هنا، وبين الإسلاميين وبين أخصامهم هناك، كل هذا أعاد منح هذه الأنظمة صعقات كهربائية جديدة.
فقط في سوريا نجح النظام في توريث الابن طغيان أبيه. وهذا ما فتح في الجمهوريات الأخرى شهوة التوريث دون امتلاك الشروط نفسها. بخاصة في مصر، البلد الذي احتار فيه العسكر بين «أبوية» حسني مبارك عليهم وبين إيثاره توريث أحد ولديه الحكم. وابن العسكري «مدني». في سوريا، السمة الممليشة والحزبية كما الطائفية للنظام سمحت بعسكرة سريعة للطبيب ابن الرئيس. في البلدان العربية الأخرى، تأمن عنصر من هذا وغابت العناصر الأخرى. بما في ذلك في الحالة اليمنية، الذي كان ابن الرئيس فيها على رأس الحرس الجمهوري. وقريبة منها الحالة الليبية. في الوقت نفسه، هذا الاختلاف بين سوريا وبقية البلدان له حدوده أيضاً. فالمسألة لا تتصل بتوريث شخص واحد فحسب، بل بتجديد النخبة الحاكمة، وهذا لم يحصل في سوريا عام 2000، وانما في إثر الانسحاب من لبنان وتداعياته، ثم الثورة والحرب الأهلية وما إليهما.
لقد تمكن التسلّط العربي من خنق ليس فقط «براعم» ديمقراطية، وإنما حركات جماهيرية مليونية هادرة.
ولا يمكن التقليل هنا من أهمية الدعم الذي تلقته عملية إعادة ترميم الأنظمة التسلطية الجمهورية العربية من الخارج، من اليمين العربي الملكي. لكن على الأقل، هذا اليمين الملكيّ كان واضحاً من الأساس: إنه غير مقتنع بالديمقراطية أصلا وفصلاً، ويعاملها معاملته في السابق لشعارات الاشتراكية. كذلك لا يجدر إهمال تزامن الخيبة العربية الحالية من انتظارات الربيع، مع خفوت سحر الفكرة الديمقراطية على الصعيد العالمي، بما في ذلك سحبها من التداول الغربي عندما يتعلق الأمر بالبلدان العربية، وطمسها تحت سابع أرض في تقارير المنظمات الدولية حول المنطقة العربية، هذا بعد أن جرى التطرف في ابتذالها والترويج لها بشكل «تربوي» مفتعل، وخلعها على أي كان، وسحب صفتها من أي كان، وبعد أن تصدعت، في بلدان الغرب نفسها عقود المزاوجة القائمة بين الديمقراطية (المصدر الشعبي للحكم وتجديد من يتولاه ومراقبته، لكن كذلك الرصيد الاقتصادي – الاجتماعي لأي حياة ديمقراطية) وبين الليبرالية (حقوق الفرد المقوننة، على قاعدة أن المساواة القانونية هي وحدها الممكنة وكل مساواة أخرى مجرد لغو).
التشاؤم السياسي يمكنه أن يفتح المجال للتفاؤل معرفة ومناقشة بما كانت الحماسة والعنجهية تستبعدانه عندما كان المدّ الجماهيري خلاقاً وحيوياً. في الوقت نفسه لهذا التفاؤل المعرفي المقرون بالتشاؤم السياسي قيمة عملية، سياسية في نهاية المطاف: ذلك أنه في مقابل كل الأوهام التي تبدّدت حول ما «يستطيعه الشعب»، فإن ما تعتاش عليه أنظمة التسلّط في المنطقة العربية اليوم، هو وهم الرجعة بالزمن الى ما قبل 2011. الزمن لا يسير في خطوط مستقيمة، أبداً. لكنه، لا يرجع الى الوراء إلا في سرابه. ما لم تحله الأنظمة العربية قبل 2011 من مشكلات لا يمكنها أن تحله اليوم. ما حصل ان الانتفاضات عليها أعطتها – حين لم تتمكن من حسم الصراع – مادة لإعادة تجديد نخبها كأنظمة ولم تعطها القدرة على أن تكون معاصرة لزمان هذا الكوكب وتحدياته المعاصرة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس