أفريقيا برس – تونس. فتحت زيارة الرئيس قيس سعيد إلى كل من إيران والصين في الآونة الأخيرة، باب التساؤلات عما إذا كانت الدبلوماسية التونسية قد اختارت أن تطرق باب الشرق كضرورة اقتصادية تفرضها أوضاع ماليتها الصعبة أم أنها خطوة جدية لتغيير بوصلة علاقاتها الدولية بالانقلاب على حلفائها التقليديين وتأسيس شراكات جديدة مثمرة مع القوى الصاعدة.
وفي 28 مايو الماضي قام الرئيس سعيد بزيارة مطولة إلى الصين شارك خلالها في منتدى التعاون العربي الصيني، كما اتجهت الأنظار إلى الرئاسة التونسية حين قام سعيد بزيارة إلى إيران هي الأولى في تاريخ البلد منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، للمشاركة في تشييع الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي الذي قتل في حادث تحطم مروحية في مايو الماضي.
وتلت زيارة سعيد إلى إيران إعلان الخارجية التونسية عن إعفاء الإيرانيين من تأشيرة الدخول إلى البلد في خطوة مفاجئة.
إنقاذ اقتصاد متعثر
تباينت أراء المحللين والسياسيين بشأن دوافع هذا الحراك الدبلوماسي الجديد ومدى نجاعة نتائجه على صعيد اقتصادي، وبينما يرى البعض أن من شأن هذا الحراك التشجيع على اقتحام تونس أسواق اقتصادية جديدة بهدف زيادة عدد الشركاء والمستثمرين، والتخلص من سياسة الاقتراض، يستبعد آخرون النجاح في ذلك خاصة وأن الاقتصاد التونسي مرتبط أساسا بالدول الغربية.
ويشير محسن النابتي الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي في حديثه لـ”أفريقيا برس” أن “ما حصل مؤخرا تطور مهم يصب في صالح الدبلوماسية التونسية، فالقمة الثلاثية المغاربية والحضور العربي والقمة مع الصين وتطوير العلاقة مع روسيا وإيران دون التخلي عن الشركاء التقليديين والعمل على تحسين شروط الشراكة معهم أمر حيوي”، مستدركا “ربما الحضور أفريقياً مازال فيه نقص يجب تداركه”. ويرى النابتي أن “تنويع العلاقات وتوازنها سيجعل تونس تستثمر في ميزاتها التفاضلية وهي موقعها الجغرافي، ودورها التاريخي والحضاري، وإمكانياتها البشرية، وهذا سيمكنها من الخروج من الهشاشة إلى الاستقرار وتجاوز أهم عائق وهو عائق التنمية”.
ويتسق رأي النابتي مع رأي القيادي في حركة الشعب أسامة عويدات الذي يشير في حديثه لـ”أفريقيا برس” إلى أن “تنويع العلاقات الخارجية لتونس أمر مفيد للدولة التونسية باعتبار أننا لا يجب أن نبقى محصورين في جانب واحد، فالعالم أرحب خاصة مع التغيرات والتشكلات الدولية الجديدة”.
وأضاف عويدات “كما يجب على تونس أن تستفيد من تموقعها الجغرافي حتى تعرف كيف يمكن لها أن تدخل استثمارات ومشاريع جديدة للبلد والتي سيكون لها أثر كبير على ميزانية الدولة وعلى الطاقة التشغيلية، كما ستساهم في زيادة نسبة النمو، وهو أمر مهم جدا حتى يكون لتونس انطلاقة جديدة خاصة في ظل وضعها الاقتصادي والاجتماعي المتعثر”.
وحول التوجهات الجديدة في السياسة الخارجية قال عويدات “عرفنا في السابق توجه واحدا للسياسة الخارجية وقد أثر ذلك سلبا على الاقتصاد التونسي، لكننا اليوم نحن بحاجة إلى علاقة رابح-رابح في علاقاتنا الدولية لا لعلاقات بمنطق رابح من طرف واحد، وهذا أمر لا يمكننا القبول به باعتبار أن العلاقات الدولية تبنى على أساس المصالح المتبادلة والربح المشترك”.
واتفقت تونس وإيران في فبراير الماضي، على إحياء الاتفاقيات التجارية واللجنة المشتركة بينها، وذلك على خلفية اجتماع جمع السفير التونسي الجديد في إيران، عماد الرحموني، ونائب وزير الصناعة والتعدين والتجارة رئيس منظمة التجارة الإيرانية، مهدي ضيغمي.
وحسب وسائل إعلامية، فإن هناك 18 اتفاقية ومذكرة تفاهم موقعة بين البلدين، فيما توقف العمل على تنفيذ بعض الاتفاقيات منذ 10 سنوات. كما نقلت إذاعة محلية عن رئيسة ديوان وزيرة التجارة وتنمية الصادرات، لمياء عبروق، دعوتها إلى “تفعيل مجلس رجال الأعمال المشترك التونسي- الإيراني والتسويق لجعل تونس بوابة للاستثمار ومحطة لإعادة تصدير المنتجات الإيرانية نحو أفريقيا”.
وبالنسبة للصين فقد أعربت أعقاب زيارة الرئيس سعيد إلى بكين عن استعدادها لدعم تونس في عدة قطاعات لا سيّما منها الصحة والبنية التحتية والطاقة والنقل والبحث العلمي والفلاحة وفي البيئة والانتقال الطاقي والطّاقات المتجدّدة.
ويرى خبراء أن آفاق الزيارة الرئاسية إلى الصين “واعدة” إلا أنها في المقابل خطوة “متأخرة”
ويلفت المحلل السياسي باسل ترجمان في حديثه لـ”أفريقيا برس” إلى أن “العالم أجمع يسير نحو الصين، والحقيقة أن تونس ذهبت متأخرة، حيث نجد أن هنالك دول مثل المغرب والجزائر لها شراكات كبرى مع الصين باعتبارها دولة عظمى والأكبر اقتصادا”
وأضاف ترجمان “ما نراه اليوم هو مساعي لشراكات هدفها تغيير هذا المنوال الذي أصبح عاجزا عن تقديم إضافة للاقتصاد التونسي المرتبط بالاتحاد الأوروبي والأسواق الأوروبية”.
وفي تقدير ترجمان “أصبحت مثل هذه السياسات بمثابة الحبل الذي ربط بعنق الاقتصاد التونسي وصار ضاغطا عليه، وبالتالي تنويع الشراكات خطوة مفيدة كما تسير في إطار توجه عالمي حيث بات هناك وعي دولي بأن مركز الثقل العالمي يتجه نحو الشرق وليس الغرب”.
حلفاء جدد
بالرغم الآمال المعلقة على تحركات الدبلوماسية لإنقاذ الاقتصاد وإنعاش الاستثمار والتخفيف من حدة الأزمة التي تعصف بالبلاد، إلا أن خبراء يقللون من قدرة الحلفاء والشركاء الاقتصاديين الجدد في تحقيق التطلعات المرجوة على اعتبار الارتباط الوثيق للسوق التونسية بالسوق الأوروبية.
ويقول خبراء الاقتصاد؛ أن المبادلات مع الصين تشهد عجزا، فمن مجموع 18 مليار دينار (6 مليارات دولار)، هناك عجز خارجي بقيمة 8 مليارات دينار (2.23 مليار دولار) مع الصين، وفيما تعاني البلد من عجز مع الصين، لها في المقابل فائض مع دول أخرى مثل فرنسا وإيطاليا، حيث أن تونس أنجزت مفاوضات شاملة مع الاتحاد الأوروبي، تشمل الاستثمار وليس المبادلات التجارية فقط.
ويستبعد هؤلاء أن تعوض الصين أو إيران العلاقات التاريخية بين تونس وأوروبا بسبب ضبابية توجهات الدبلوماسية التونسية وتذبذب مواقفها.
ويبين القيادي بحركة النهضة بلقاسم حسن في حديثه مع “أفريقيا برس” أنه “بالرغم من أن تونس تعتبر من البلدان المحسوبة على ما كان يسمى المعسكر الغربي الذي يضم الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ( فرنسا / ألمانيا / إيطاليا / بريطانيا..) في مواجهة المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفياتي سابقا ووريثته اليوم روسيا / الصين..)، فقد كانت لتونس بشكل عام دائما علاقات طيبة مع أغلب الدول، وكان أساس تلك العلاقات هو الاحترام المتبادل والتعاون وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وبالرغم من غلبة كفة العلاقات مع الغرب سياسيا واقتصاديا، حافظت تونس منذ الاستقلال على علاقات تعاون مع العديد من الدول الأخرى”.
واعتبر حسن أن “تدعيم علاقات تونس مع روسيا و الصين و إيران وغيرها من البلدان الشرقية الأوروبية والآسيوية و مع بلدان القارة الإفريقية وبلدان أميركا الجنوبية، توجه مهم على ألا يكون ذلك مدخلا لتورط بلادنا في سياسات المحاور، ولا نعتقد أن تطوير هذه العلاقات سيكون على حساب العلاقات التقليدية لتونس مع البلدان الغربية بالنظر إلى تاريخ وحجم تطور علاقاتنا مع هذه البلدان والشراكة القائمة معها خاصة اقتصاديا”.
وأوضح حسن بالقول “موقفنا من النظام في حركة النهضة وفي جبهة الخلاص الوطني مرتبط برفضنا لانقلاب 25 جويلية وتمسكنا باستعادة المسار الديمقراطي بواسطة النضال الديمقراطي، وليس على أساس سياسات السلطة سواء اقتصاديا أو دبلوماسيا أو غير ذلك”.
وأردف “نحن نعارض سلطة الانقلاب ونتبنى مقاومتها سلميا وديمقراطيا لأننا نعتبرها سلطة بنت شرعيتها على الانقلاب ونسف الشرعية الدستورية التي انتخبت على أساسها، أما فيما يخص السياسات العامة والعلاقات الخارجية وغيرها، فإننا نعتبر ذلك من أسس الدولة ومن مقومات المصلحة الوطنية العليا ومن ركائز التوافق الوطني العريض، وليس لنا في ذلك مزايدات ولا مناكفات، فمصلحة الوطن العليا ومقومات السيادة والتنمية والوحدة الوطنية والاستقرار السياسي هي دأبنا و مرجعيتنا وغايتنا”.
توازنات جديدة
تتساءل أوساط سياسية عن الفرص التي ستجنيها تونس في حال توجهها شرقا لمواجهة ما تعانيه من متاعب اقتصادية، فيما لم تمنحها أوروبا حليفتها التقليدية والتاريخية، الدعم المطلوب على مدى ما عاشته من أزمات خاصة خلال العقد الأخير.
وعلى الرغم من رهان تونس على البحث عن بدائل للخروج من أزمتها إلا أنه من الصعب أن يقدم لها الشرق المزايا التي قدمتها لها أوروبا، وهي متعددة مثل اندماج اليوم العاملة في سوق العمل الأوروبية بسهولة والاندماج العميق في النظام الاقتصادي الغربي، إضافة إلى صعوبة قبول الرئيس سعيد بنظام القروض الصيني الصارم على سبيل المثال، لأن الصين تطلب رهونا مقابل قروضها.
ويعتقد النائب بالبرلمان التونسي عبد السلام الدحماني في حديثه لـ”أفريقيا برس” أن “السياسة الخارجية يجب أن تكون انعكاسا لخيارات واضحة ومحددة، ويبقى هامش المناورة ممكنا باعتبار البعد الدبلوماسي وفي إطار مخاض عالمي ينبئ بولادة توازنات جديدة، وبالنظر إلى انهيار قيم العالم القديم الذي أضحى يتعامل بمنطق الإخضاع والإكراه وتتحكم فيه مصالح اقتصادية ضيقة حيث تجد بعض الدول نفسها تحت سلطة القوى العظمى وغير قادرة على تقرير مصيرها و يتم الاستحواذ على مقدراتها تحت ضغوط متعددة أهمها ضغط القروض”.
وحسب الدحماني فقد “كانت تونس عرضة لسياسات النهب كما أن اقتصادها الهش حكم على سياستها الخارجية بالخضوع، لذلك فإن دور السياسة الخارجية خاصة في إطار البحث عن موقع داخل العالم ينطلق من فهم عميق لطبيعة التحولات وغاياتها، وعليه فإن الموقف الذي تعبر عنه السياسة الخارجية، و بالخصوص فيما يتعلق بالتوجه نحو الشرق مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الجنوبية، إنما يتنزل في أفق أشمل من الضيق السياسي ومكبلاته نحو كسر القبضة المفروضة على العالم”.
وزاد بالدحماني بالقول “بقي أن نقرّ بأن السياسة الخارجية رغم نجاحها وخاصة في ما يتعلق بالتوجه نحو الشرق، ظلت وفي مؤسسة وزارة الخارجية تدقيقا تتعامل بتعثر وعدم وضوح شأنها في ذلك شأن بقية الوزارات دون استثناءات منشدة إلى سلطة خفية تتحكم في الإدارة، وتؤبد مسارها القديم وتتحكم بدورها في كل الممكن السياسي، وعليه فإن السياسة الخارجية يجب أن تواكب الخيارات الإستراتيجية للدولة التونسية وأن تتحرر من السلطة التقليدية الاستعمارية التي يريد البعض مواصلتها واستئنافها بأشكال أخرى”
ويستنتج متابعون أن توجه تونس نحو الشرق تفرضه التوازنات الدولية الجديدة في ظل نظام عالمي يشهد صعود قوى اقتصادية جديدة ومنافسة للمعسكر الغربي.
وأوضح المحلل السياسي منذر ثابت في حديثه لـ”أفريقيا برس” إلى أن “المحور الآسيوي وهو محور المعارضة الذي يتشكل أساسا من روسيا والصين وإيران لا يخص تونس فقط بل جل البلدان بما في ذلك بلدان الخليج العربي تتجه إليه بهدف تنويع الشراكات.. نحن الآن بصدد العودة لعالم ذو قطبين وهما الشرق والغرب”
وبرأي ثابت فإن “تونس تتجه نحو تعديد وتنويع الشركات لكن ليست بصدد تغيير التحالفات الإستراتيجية، الكل يعلم أن تونس لا تزال استراتيجيا ملتزمة لدى حلف الناتو والحلف الأوروبي”.
واستحضر ثابت بالعودة إلى التاريخ أن “الانفتاح على إيران أو تركيا ليس جديدا، حيث شهد ذلك نظام بن علي الذي اختار في سنواته الأخيرة الاتجاه لهذه الدول بهدف خفض الضغط التي تمارسه الدوائر الغربية في علاقة بالمسألة السياسية”.
وخلص ثابت بالقول “واضح أن الهاجس الاقتصادي هو الدافع المركزي لهذا التمشي وليس هذا أمر يخص تونس، كما لا يعني هذا أنه ثمة قطيعة مع المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، لسنا بعد في سياق الانقلاب على التحالفات الإستراتيجية التقليدية لتونس”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس