منير الشرفي لـ”أفريقيا برس”: مدنية الدولة مكسب شعبي، لكن دستور 2022 تراجع عنها

58
منير الشرفي: مدنية الدولة مكسب شعبي، لكن دستور 2022 تراجع عنها
منير الشرفي: مدنية الدولة مكسب شعبي، لكن دستور 2022 تراجع عنها

آمنة جبران

أفريقيا برس – تونس. تعد تونس من الدول التي نادت بتكريس مدنية الدولة منذ استقلالها، حيث حرصت على تكريس الحريات العامة والفردية عبر ترسانة من القوانين في هذا المجال، كما قامت بخطوات إصلاحية جريئة لحماية حقوق المرأة مثل منع تعدد الزوجات وفق ما تنص عليه مجلة الأحوال الشخصية التي ساهمت في تحديث المجتمع.

وظل هاجس النخب طيلة الفترات السياسية المختلفة التي عاشتها البلاد، هو كيفية الحفاظ على هذه المكاسب وبشكل خاص بعد اندلاع ثورة يناير 2011، غير أن القلق بشأن التضييق على الحريات وتهديد أهم مبادئ مدنية الدولة عاد إلى الواجهة منذ انطلاق مسار 25 جويلية.

وفي حواره مع “أفريقيا برس”، أشار منير الشرفي، رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة، أنه “رغم ما تمثله مدنية الدولة من مكسب شعبي، إلا أنه وقع التراجع عنها في دستور 2022 والتنكر لها في فصلين مهمين”، لافتا إلى أن “تغييب الإسلام السياسي، شيء إيجابي، إلا أن هذا التغييب أتى بشكل أمني وليس عقائدي وسياسي”.

ورأى أن “الإرادة السياسية يجب أن تتوفر حتى يُصبح المواطن مدنيّا بطبعه ولا يقبل بغير الدولة المدنية، وهو هدف مازال يتطلّب فترة طويلة من الزمن لتحقيقه”، وفق تقديره.

ومنير الشرفي هو رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة، وهو مناضل سابق صلب اليسار التونسي وعرف السجون عندما كان طالبا، وقد تولى في منتصف التسعينات الأمانة العامة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهو من مؤسسي القطب الديمقراطي الحداثي سنة 2011، والتحالف المدني الذي ضمّ 11 حزبا، وهو متحصل على الأستاذية في الصحافة وعلوم الإخبار وشهادة الدراسات المعمّقة في العلوم السياسية.

بصفتك رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة، ما هي الإخلالات والتجاوزات التي مست مدنية الدولة حسب تقديركم منذ انطلاق مسار 25 جويلية؟

في البداية، لا بدّ من التذكير بأن الدولة المدنية هي التي تفصل تماما بين الدين، الذي هو شأن خاص ومُقدّس ومُطلق، وبين السياسة التي هي شأن عام ونسبي. والخلط بينهما يضرّ بالإثنيْن معا. فتسييس الدين ينجرّ عنه المتاجرة به وجعله وسيلة للاستيلاء على السلطة وعلى مؤسساتها باسم المقدسات، كما أن أسلمة السياسة هي محاولة لإضفاء نوع من القدسية على العمل السياسي.

والفصل الحقيقي بين الديني والسياسي يتطلّب بالأساس:

أولا: عدم الخلط بينهما من قبل السلطة القائمة. وأذكر هنا على سبيل المثال الاحتفال بعيد الاستقلال في أحد الجوامع، والحال أن عيد الاستقلال هو مناسبة سياسية بامتياز ولا دخل للجوامع فيها. فهل يُمكن مثلا أن نتصوّر احتفال رئيس فرنسا بذكرى 14 جويلية في كنيسة؟

ثانيا: قيام السلطة بمنع أي نشاط يتمّ فيه هذا الخلط. والحال أن السلطة الحالية لم تمنع حزب التحرير الذي يعمل على فرض الدين على السياسة، كما لم تُغلق مقر جمعية علماء المسلمين، المعروفة ب”وكر القرضاوي” والمُصنّفة إرهابية في عديد الدول، وهي مدرسة تُعلّم تلاميذها انتهاك القوانين الوضعية التونسية باسم الدين، وخاصة منها حقوق المرأة.

كيف تقيّم المشهد الحقوقي في تونس منذ انطلاق مسار 25 جويلية؟

المرسوم 115 والمرسوم 116 اللذان يُنظّمان العمل في مجاليْ الإعلام، المكتوب والسمعي البصري، قام بإعدادهما عدد من الخبراء المُحنّكين في مجال الاتصال بُعيْد الثورة. وكانا نصّيْن مُتميّزيْن تقدّميّيْن فتحا آفاقا رحبة أمام الإعلام الحر المسؤول، ممّا جعل مجال الاتصال وحرية التعبير في تونس يُمكن اعتبارهما المكسب الأهم، إن لم نقل الوحيد، للثورة. إلى أن جاء المرسوم 54، وهو مرسوم يكفي أن نذكر بشأنه أنه يحتوي على كلمة “سجن” 18 مرّة. في حين أن سلب الحرية الجسدية للمواطن لم يعد يُمارس في الدول الديمقراطية إلّا في حالات الجرائم المادّيّة الخطيرة.

لماذا اعتبرتم أن دستور 2022 تنكر لمدنية الدولة، وقد قلتم إنه يحتاج إلى مراجعات ليصبح متماشيا مع المبادئ العامة لحقوق الإنسان ومفهوم الدولة المدنية ومع النظام الديمقراطي، أي الفصول التي تستدعي المراجعة حسب تقديركم؟

بخصوص دستور 2022، فلقد تنكّر فعلا للصبغة المدنية للدولة التونسية، وذلك في مناسبتيْن على غاية من الأهميّة:

أولا: حذف الفصل الثاني من دستور 2014 الذي ينصّ صراحة على أن تونس دولة مدنيّة. وهو فصل تمّ فرضه من قبل الشعب التونسي إثر اعتصام الرحيل في أوت 2013، بعد نشر الصيغة الأولى للدستور في غرة جوان 2013 التي حاولت حركة النهضة وأتباعها إضفاء الصبغة الدينية على الدولة من خلالها. فمدنية الدولة هي إذن مكسب شعبي هام تمّ التراجع عنه مع الأسف في دستور 2022.

ثانيا: ينص الفصل الخامس من دستور 2022 على أن “تونس جزء من الأمة الإسلاميّة، وعلى الدّولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الاسلام الحنيف…”. وهو نصّ يفرض على مؤسسات الدولة تطبيق علوية الدين على القوانين والأوامر والقرارات وما إلى ذلك من الإجراءات اليومية. وهو نصّ يُؤسس بوضوح للدولة الدينية.

ما رأيك في الجدل الذي أثاره مقترح لتعديل مجلة الأحوال الشخصية في تونس المتعلق بتعدد الزوجات، هل يعد ذلك ضربا للحقوق المدنية بالبلاد، وكيف يمكن الحفاظ على مثل هذه المكاسب؟

هناك فعلا جدل أُثير هذه الأيام حول إمكانية تعديل مجلة الأحوال الشخصية والعودة إلى تعدد الزوجات. لكن يبدو لي أن هناك مغالطة في الموضوع وفي طريقة طرحه. فالرأي المُتداول هو أن بيت الحكمة أثارت الموضوع بقصد المطالبة بتعديل المجلة، والحال أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد حوار في بيت الحكمة يتضمّن مقارنة علمية ونظرية بين مجلة الأحوال الشخصية التونسية وقوانين الأحوال الشخصية في كل من إيران والمغرب. ولا أعتقد البتّة أن النيّة في هذه المقارنة تتّجه نحو محاولة إدخال تعديلات على مجلتنا. فهل يُمكن أن نُصدّق أن عبد المجيد الشرفي وسناء ين عاشور، وهما مُشاركان في هذا الحوار، أن يُطالبا بتعدد الزوجات في تونس؟

لكن، وفي الأثناء، الأكيد هو أن بعض الأصوات الرجعية والمُتخلفة علت هذه المدّة، واغتنمت فرصة هذا الحوار، لتُطالب بمراجعة مجلة الأحوال الشخصية التونسية في الاتّجاه الإسلاموي المُتطرّف. وأنا أعتقد جازما أن مثل هذا الأصوات لن تجد أيّ صدى لدى عامة التونسيين المُلقّحين منذ قرابة السبعين سنة ضد المبادئ المتخلفة مثل تعدد الزوجات. أما العمل على الحفاظ على هذه المكاسب فهو واجب كافة التونسيين الغيّرين على وطنهم، كل من موقعه.

لماذا مازال مفهوم مدنية الدولة غير واضح لدى التونسيين رغم ترسانة القوانين التي سنتها الدولة في هذا المجال منذ استقلالها؟

الدولة المدنية ليست فقط الدولة التي تفصل بوضوح بين الديني والسياسي، وإنما هي أيضا الدولة الديمقراطية التي تحترم الحريات الفردية والجماعية وحرية الضمير والمُعتقد، وتلتزم بالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان وبقيم الجمهورية. ولم نشاهد منذ الاستقلال، وفي مختلف مراحل الدولة، سلطة تحترم كل هذه المبادئ والقيم بشكل كامل وواضح، باستثناء بعض الفترات التي خطت فيها البلاد بعض الخطوات، كثيرا ما كانت محتشمة ومحدودة.

المشكلة تكمن في أن تونس لم تشهد سلطة سياسية، على مرّ العقود، مقتنعة بمجمل هذه المبادئ، وتعمل بجدية، لا على تطبيقها فحسب، وإنما أيضا على تثقيف المواطن في ذلك الاتجاه وتربية الناشئة عليه حتى نسموَ بشعبنا إلى مستوى الشعوب المُتقدّمة.

فالمسألة إذن مُرتبطة بالإرادة السياسية التي يجب أن تتوفر حتى يُصبح المواطن مدنيّا بطبعه ولا يقبل بغير الدولة المدنية. وهو هدف قد يتطلّب فترة طويلة من الزمن لتحقيقه، وما علينا، سلطة ونخبة، إلا أن نفرض السير في هذا الاتّجاه.

قبل 2019 كانت المعارك السياسية في البلاد بين القوى التقدمية وأخرى الإسلامية المحافظة، هل تعتقد أن غياب مثل هذه المعارك اليوم يعكس تراجع الديمقراطية بشكل لافت في تونس، وانتهاء دور الأحزاب وبقية الأجسام الوسيطة؟

الشعار الذي رفعه الديمقراطيون التقدميّون في تونس منذ السنوات السبعين هو المطالبة ب”دولة القانون والمؤسسات”. ويعني ذلك أن تقوم كل مؤسسة بدورها، لا أكثر ولا أقل. والمؤسسات ليست فقط التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإنما تتضمّن أيضا الأحزاب والمنظمات والجمعيات الخ… وتغييب جزء من المؤسسات هو تغييب لبعض ركائز الدولة الديمقراطية المدنية التي لا تستقيم إلا بتواجد جميعها، على اختلافها.

أما بخصوص تغييب الإسلام السياسي، وهو شيء إيجابي، فإن ما نلاحظه هو أن هذا التغييب أتى بشكل أمني وليس عقائدي وسياسي. ممّا يُفيد إمكانية مواصلة وجود ما يُسمّونه بالخلايا النائمة التي يمكن أن تستيقظ في أي وقت إذا أُمرت بذلك. ولا ننسى مقولة بورقيبة الشهيرة في شأنهم بأنهم “ما يصفاوش”.

والحل الصحيح والجذري في اعتقادي هو التوعية الواسعة وبثّ ثقافة المدنية والتقدمية بكل الوسائل المُتاحة، وخاصة التربوية والإعلامية. ولكننا نرى مع الأسف مواصلة بعض الأساتذة في التعليم الثانوي بثّ إيديولوجياتهم المتطرفة داخل أقسام الدراسة دون مساءلة، كما نرى في بعض البرامج الإذاعية والتلفزية مُنشّطين يبثّون خطابا مُتخلفا ورجعيا ويمنحون الكلمة للمنادين بالسحر والشعوذة، في حين أن دور الإعلام الإذاعي والتلفزي هو عكس ذلك تماما.

حذرت من أنه رغم انتهاء حكم الإسلام السياسي إلا أن المخاوف من التراجع عن مدنية الدولة لا تزال قائمة. فهل ستزيد هذه المخاوف مع إمكانية عودة المقاتلين والإرهابيين إلى تونس بعد سقوط نظام بشار الأسد مؤخرا؟

طبعا. فالتونسيّون الذين تمّ إرسالهم إلى سوريا هم بالأساس مُتطرّفون وإرهابيّون. وبعد أن قضت منظمة داعش حاجتها بهم، فإنهم أصبحوا غير مرغوب فيهم في سوريا اليوم. وقد يتمّ ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية في القريب العاجل.

هذه المشكلة خطيرة جدا وعويصة. فمن الناحية القانونية الصرفة وتطبيقا لمبادئ حقوق الإنسان، لا يُمكن منع أي مواطن تونسي من دخول بلاده. وعليه فإنه لا يمكن رفضهم في الحدود. غير أن التعاطي الأمني البحت قد لا يكون كافيا، خاصّة وأن تونس لا تملك ملفاتهم القضائية ولا نعرف بالضبط التهم المُوجّهة إلى كل فرد منهم. كما أننا لا نعرف ما إذا كانت عودتهم مُرتبطة، وربما مشروطة، بمواصلة “الجهاد” في تونس أم لا. لذلك لابد من التعامل معهم بكل حذر، بشكل يأخذ في الاعتبار الجوانب السياسية والاجتماعية والنفسانية.

ونحن نقترح تشكيل لجنة موسعة خاصة بهذا الموضوع الخطير والحساس، يُشارك فيها أمنيّون وعسكريّون وسياسيّون، لا من السلطة القائمة فحسب، وإنما أيضا بتشريك بعض الأحزاب والجمعيات، لأن الموضوع لا يُشكل خطرا على السلطة فقط، وإنما على الدولة التونسية وعلى الشعب التونسي برمته.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here