الحرب على الفساد في تونس.. نتائج محدودة في مواجهة منظومة معقّدة

7
الحرب على الفساد في تونس.. نتائج محدودة في مواجهة منظومة معقّدة
الحرب على الفساد في تونس.. نتائج محدودة في مواجهة منظومة معقّدة

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. عاشت تونس خلال الأيام الماضية على وقع حالة حزن عارمة بعد وفاة ثلاثة تلاميذ إثر سقوط سور المعهد الثانوي الذي يدرسون فيه في مدينة سيدي بوزيد (جنوب). وفي غمرة الغضب الشعبي جاء خبر وفاة طفل (11 سنة) في مدينة حاسي الفريد الحدودية في حادث حيث لم تتوفر سيارة أو حافلة لنقله إلى المدرسة هو وأترابه فاضطر إلى ركوب شاحنة غير مهيأة لنقل الركاب. وكانت النتيجة انقلابها ووفاته، في حادثة تكررت مرات كثيرة وذهب ضحيتها العشرات من أبناء تونس وشبّانها، وستكّرر هذه الفواجع طالما ظلّ الفساد مستشر في كل مفاصل الدولة، ومازلت اللوبيات المتنفّذة ضاربة في عمق المؤسسات، رغم الحرب التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد ضدّها.

ستعيش تونس على وقع أحزان مماثلة، لأن الشرخ مازال قائما، على حدّ تعبير الإعلامي التونسي سعيد الخزامي الذي لخّص سبب هذا الداء في تدوينة له، مما جاء فيها: “الجدار قبل أن يَسقط، يرتسم عليه الشرخ. والشرخ الذي أُسقط جدار معهد المزونة وحصد أرواح ثلاثة شبان ارتسم مِن زمن بعيد في مدارسنا ومستشفياتنا ومقار إداراتنا بسبب نقص مال الصيانة والترميم لتداول الحكام عندنا على هدر مقدرات البلاد، وتبذير المال العام، والتفريط في الثروات، بل وحتّى قضم القروض، والاستيلاء على الهبات الخارجية، وعَقد الصفقات المغشوشة إلى أن فرغت الخزائن، وضعفت الميزانيات، واعتُمد التقشف، وتآكلت خدْمات التعليم والصحة والنقل العمومية، وعمّ فقر في الجهات”.

في ذات السياق يذهب الناشط السياسي محمد الرشيد، قائلا في تصريح لـ”أفريقيا برس”: “سور معهد المزونة لم تسقطه الرياح بل أسقطه كل مسؤول لم يقم بواجبه.. استهان بالخطر واستكان لمنصبه.. ينتفض إذا جاءه شخص نافذ لكن لا يردّ على مراسلات مدير المعهد الذي وجد نفسه مسائلا نتيجة حادثة كان من أول من حذّر منها ودعا إلى تجنّبها، وتتردد أخبار عن جعله كبش فداء.. وهذا رأس الفساد حيث لا نعالج الأزمة من جذورها بل نبحث عن مسكّن يهدّئ غضب الشارع حتى تمر العاصفة”.

ويقول صهيب المزريقي، القيادي في حركة البعث لـ”أفريقيا برس”: “نحن اليوم أمام عقل فاسد وليس أمام سلوك فاسد والفرق بينهما أن السلوك يمكن الحد منه بقوة القانون أما العقل الفاسد فيستوجب بالضرورة ناشئة وجيل يؤمن بالوطنية وأنه جزء من الدولة وهو ما يجعله يتحمل المسؤولية بالأمانة التاريخية وليس بعقل الغنيمة والربح والاستثراء على حساب الشعب المنهك”. وفي هذا الإطار يتنزل المزريقي حادثة المزونة “المركبة من الناحية التاريخية والمعقدة من جهة التجهيز والفساد والتعطيل الممنهج من قبل الإدارة والفاسدين وقوى الردة التي تشد إلى الوراء”.

شباب في عمر الزهور كانوا على بعد أيام قليلة من اجتياز امتحان البكالوريا وكلهم أمل في مستقبل أفضل، خرجوا من منازلهم قاصدين المعهد متسلّحين بحلم النجاح والانتقال إلى الجامعة فكان الموت سبّاقا، كما هو حال ابن حاسي الفريد الذي كان يتطلّع لاجتياز مناظرة السادسة من التعليم الابتدائي والانتقال إلى مرحلة جديدة..

من المسؤول… الكل يتساءل ويردّد

أصابع الاتهام تتجّه إلى الوزراء والمسؤولين والنظام. مدير معهد المزونة بسيدي بوزيد وجّه عدّة مراسلات لمندوب التربية ينبّه فيها من خطورة الوضع بسبب وضعية السور التي تهدّد سلامة التلاميذ، لكن تأخر الردّ وسقط الجدار. جمعيات كثيرة تحدّثت عن حاسي الفريد ووضعية أبنائها وانعدام أدنى مقومات العيش في هذه المنطقة الحدودية التي يعش أهلها على التهريب وتشهد أعلى نسب انقطاع مبكر عن الدراسة.

من هذه المناطق تبدأ الحرب على الفساد.. من حاسي الفريد والمزّونة ومن العلا (وسط) التي تشهد أعلى نسب انتحار في صفوف الأطفال والمراهقين. وعد الرئيس قيس سعيّد وتوعّد “المفسدين وكل من يعطّل دواليب الدولة”، وهو وعيد كان يثلج صدر التونسيين من قبل لكن اليوم الكل صار يتساءل عن نتائج تلك الحرب وإلى أين وصلت وماذا تحقق في مكافحة النظام للوبيات. وهل ستدفع تونس المزيد من الدماء حتى يتم اجتثاث هؤلاء؟

حرب متشعّبة

“الحرب على الفساد”، شعار رفعه الكثير من المسؤولين في تونس منذ 2011، أبرزهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ومن بعده الرئيس الحالي قيس سعيّد الذي انتخبه التونسيون “لنظافة يده” على حد تعبيرهم، وظلّ شعار الحرب ضد الفساد واللوبيات يتردّد في خطابات الرئيس ويتكرّر في مختلف المناسبات.. لكن طال عهد التونسيين بهذه “الحرب” متشعّبة الأطراف، وهو أمر لا ينكر أحد صعوبته مهما كانت الصلاحيات التي يتمتّع بها الرئيس والنفوذ الذي يملكه… حتى بالقانون يصعب ملاحقة هذه اللوبيات واجتثاث جذورها بما “يعيد للتونسيين ثرواتهم” على حد تعبير قيس سعيّد.

ويؤكّد المتابعون أن الحرب على الفساد ليست حربا تقليدية، بل هي ثقافة ووعي ثم تطبيق للقانون، لافتين إلى أن تونس فشلت في أول خطوة من خطوات هذه الثقافة وهي “التبليغ” حيث لم تنجح إستراتيجية تشجيع المبلّغين بعد أن تم الكشف عن أسماء أشخاص قاموا بالتبليغ عن فاسدين وذلك بعد تعليق عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

ووفق صهيب المزريقي من أول الأسلحة التي يجب الاستعانة بها في الحرب على الفساد ” الإسراع بمراجعة القوانين البالية التي أكل عليها الدهر حتى صارت خاوية وآيلة بدورها للسقوط على رأس المواطن والمسؤول على حد السواء. زد على ذلك تنقيح الفصل 96 من مجلة الأحوال الجزائية الذي يكبل المسؤول عن أي اجتهاد إداري بل ويجعله عرضة للعقوبة”.

عند الوقوف على ما تحقق من الحرب ضد الفساد منذ وصول الرئيس قيس سعيّد إلى الحكم إلى اليوم لا تبدو الحصيلة على قدر ذلك “الوعيد والتهديدات”، وتغيب أرقام واضحة ودقيقة حول ما تحقق خاصة على المستوى الاقتصادي، بل يتضح أن هذه الحرب تتخذ أبعادا سياسية أكثر منها اقتصادية.

وجاءت تونس في المرتبة 92 عالميا على مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، من جملة 180 دولة. وبلغ متوسط مؤشر الفساد في تونس 61.63 نقطة بين عامي 1998 و2024، وبلغ أعلى مستوى له عند 92.00 نقطة في عام 2024، وأدنى مستوى قياسي عند 31.00 نقطة في عام 2001.

وكان الرئيس السابق الباجي قائد السبسي قد سبق قيس سعيد بمشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي يسمح للعديد من رجال الأعمال المتهمين بالفساد بإعادة جزء من أموالهم للدولة في مقابل إسقاط التهم عنهم. ولا يختلف قانون الصلح الجزائي الذي اقترحه قيس سعيد كثيرا عن مشروع الباجي قائد السبسي لا من حيث الفكرة ولا من حيث النتائج التي تحققّت.

على مستوى إنفاذ القانون، تمضي الحرب ضد الفساد قدما ضدّ مسؤولين في مختلف القطاعات، البنكية والرياضية والمالية وغيرها. وبموجب هذه الحرب على الفساد، أو “حرب التحرير” كما وصفها الرئيس قيس سعيّد في عدة خطابات، تم القبض على عدد هام من رجال الأعمال على غرار: محمد فريخة، رئيس شركة سيفاكس للطيران”، الذي صدرت بحقه بطاقة إيداع بالسجن بتهم تتعلق باستغلال نفوذ للحصول على وقود طيران مجانا من شركة حكومية…

ويعتبر كمال اللطيف، الرجل النافذ منذ عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ومروان المبروك، صهر بن علي من أرز رجال الأعمال الذين تم توقيفهم في بداية الحرب ضد الفساد، وغيرهم كثيرون منهم حاتم الشعبوني ورضا شرف الدين…، وقبلهم شفيق الجراية ووديع الرقيق والقائمة تشمل أسماء أخرى منهم وزراء ورؤساء حكومة (يوسف الشاهد وهشام المشيشي) ومسؤولين وإطارات سامية في مؤسسات الدولة، وتعددت الاتهامات بالتهرب الضريبي والجمركي والفساد المالي واستغلال النفوذ.

وأحدث الإيقافات طالت أواخر العام الماضي رئيس النادي الصفاقسي رجل الأعمال عبد العزيز المخلوفي المعروف في قطاع تصدير زيت الزيتون، ضمن حملة شنّها قيس سعيّد في أوج موسم زيت الزيتون وكشفت عن تجاوزات خطيرة في هذا القطاع الحيوي.

وضمن هذه الحرب، تمت مصادرة أصول وتحدّثت تقارير عن مليارات ستدعم اقتصاد البلاد بعد التعهد باستعادة ما يقارب “13.5 مليار دينار تونسي (حوالي 5 مليارات دولار) من الأصول المنهوبة والأموال غير المشروعة من رجال الأعمال الفاسدين” وإعادة استثمارها في مشاريع تنموية – مقابل صلح جزائي مع رجال الأعمال المتورطين، لكن لم تتجاوز عائدات المصالحة سوى 26 مليون دينار (حوالي 7.6 مليون دولار).

وتغيب الأرقام والاحصائيات الرسمية التي توثق لنتائج الحرب عل الفساد، كما لا تتوفر المعطيات الدقيقة التي تدعم النهج الذي يؤكد الرئيس قيس سعيد على المضي قدما فيه.

وكانت منظمة الشفافية الدولية أشارت إلى أن “النهج المتبع في مكافحة الفساد في تونس يفتقر إلى الفعالية مما يقوض التقدم في هذا المجال”. وسبب هذا الفشل وفق أسامة عويدات، القيادي في حركة الشعب، “غياب مؤسسة تعنى بهذا الموضوع”. ويقول عويدات في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: “الحرب على الفساد شعار مرفوع منذ الثورة، واليوم معالجته تتم دون خطة واضحة من الدولة ودون برنامج واضح. يجب أن تكون معالجة الدولة لموضوع الفساد معالجة مؤسساتية لا مجرّد شعارات.. من الضروري وضع خطة واضحة لكل الملفات حتى ترسم الدولة سياساتها العامة بشكل دقيق وبشكل يعطي نتيجة ومردودية”.

ويقدم عويدات كمثال ما يحصل في النقل العمومي الذي يعتبره “بمثابة جريمة كبرى في حق التونسيين، في ظل غياب الخطط والاستراتيجيات والتعامل مع المسألة بشكل تقليدي واعتباطي دون تغيير آليات العمل وهو ما يجعلنا نعيش في نفس الدوامة، فقط شعارات دون إيجاد حل، وتبقى الناس تعاني في وضعيات كارثية، وأنبه وأرفع صيحة فزع خاصة في خطوط النقل العمومي البعيدة في تونس الكبرى نحن نتوقع كارثة في أي لحظة ممكنة بسبب قدم الحافلات وما تشهده من اكتظاظ”.

حرب متشعّبة

تقدر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد خسائر تونس سنويا بسبب الفساد بحوالي 8.4 مليارات دينار (3 مليارات دولار). ويعتبر القطاع العمومي من أكثر القطاعات تأثرا بالفساد والتي تتعقد فيها هذه الحرب وتتشعب حيث تتداخل فيها العديد من العناصر من نقابات واتحاد وبيروقراطية تشرع الأبواب واسعة أمام استشراء الفساد.

لا أحد ينكر أن الرئيس التونسي وضع يده على الداء حين قال إن اللوبيات تُعطّل السير الطبيعي لدواليب الدولة، ويجب مواجهتها بكل السبل. وهي عملية طويلة الأمد وليست مجرد حملة. ويقول النائب بوكبر يحيى لـ”أفريقيا برس”: “الفساد في تونس مستشر منذ القدم ويتأقلم مع كل المتغيرات عبر القوانين الجاري بها العمل ومن خلال الإجراءات الإدارية التي ساهمت ومازالت في تفشي ظاهرة الفساد. فموضوع الأملاك المصادرة والأموال المنهوبة مزال يراوح مكانه ولم يتحقق منه شيء رغم ما يمثله من ملف فساد من أهمية والذي يمس من الدولة التونسية فالكشف فقط عن الفساد سواء لدى رجال أعمال أو بعض اللوبيات لا يكفي بل لابد من أن تتبعه إجراءات جدية للحد من الظاهرة فالمنظومة القديمة مازالت تدافع عن وجودها بكل شراسة سواء عبر شبكة علاقاتها الداخلية أو الخارجية ومازالت قادرة على امتصاص الصدمات التي تأتيها من الحرب التي يشنها النظام ضد الفساد”.

ويشدّد يحيى على أن “وفاة التلاميذ في المزونة رحمهم الله يدخل في خانة الاجراءات الإدارية المعطلة بل القاتلة. ومسؤولية الدولة تكمن في ضرورة إرساء إصلاحات إدارية كبرى تضمن تطبيق القانون والالتزام به مع هامش من الاجتهاد لاتخاذ الموقف المتوجب دون تردد أو خوف وذلك من خلال دقة التعينات التي تشمل المناصب السياسية والإدارية العليا في الدولة مع التحصين بالرقمنة لسرعة تبادل المعلومة واتخاذ القرار بالسرعة المطلوبة لأن الإدارة هي العمود الفقري للدولة والقضاء على الفساد فيها يتطلب تدخل جراحي مهم للتخلص من الخلايا السرطانية وتعويضها بخلايا دفاعات لبناء تونس أخرى”.

في ذات السياق يقول أسامة عويدات: “اليوم رأينا انهيار في المؤسسات التربوية لكن غدا سنرى انهيارات أخرى في قطاعات أخرى، نحن لا نريد لتونس أن تنهار، بل أن يكون هناك إصلاح وهبة لإنقاذ البلاد، ونرى أن السلطة يجب أن تنفتح على المقترحات التي تقدم في علاقة بهذه الملفات، لا يمكن أن نعالجها بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة وبالتالي يجب أن تكون هناك سياسات عامة ترسم لحماية البلاد من الانهيار”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here