عندما ينضم أحمد صواب إلى معتقلي الرأي في تونس

1
عندما ينضم أحمد صواب إلى معتقلي الرأي في تونس
عندما ينضم أحمد صواب إلى معتقلي الرأي في تونس

سالم لبيض

أفريقيا برس – تونس. أحمد صواب (70 عاماً)، المحامي والقاضي الإداري السابق، هو ممن انضموا أخيراً إلى معتقلي الرأي في تونس، وقد لا يكون الأخير. أصدر في حقّه قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب يوم 23 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) بطاقةَ إيداع في السجن، بعدما داهمت مجموعة من أعوان الأمن (صباح 21 من الشهر نفسه) منزله، وفتّشوه، وحجزوا هاتفه وحاسوبه الشخصيَّين، وهواتف أفراد عائلته.

جاء الاعتقال على خلفية ما صرّح به صواب حول الأحكام الصادرة يوم 18 إبريل، في ما يُعرف بقضية “التآمر على أمن الدولة” في حقّ معارضين تونسيين مدنيين، لا ارتباطات عسكرية أو أمنية لديهم، أغلبهم ينتمون إلى أسلاك المحاماة وعالم الأعمال والتدريس والبحث الجامعي والإعلام، وكلّهم تقريباً يشتغلون بالسياسة علناً في أحزاب، أو مستقلّون، ومن بينهم قادة أحزاب وعدد مهمّ من الوزراء والنواب السابقين، إضافة إلى مديرَي ديوان رئيس الجمهورية في فترة حكم الرئيس السابق الباجي قائد السبسي وخلفه قيس سعيّد.

بلغت هذه الأحكام مجتمعةً ما يناهز 900 سنة سجناً. وحسب صواب، تشوب هذه الأحكام خروقات شكلية جوهرية، معتبراً أن هذه المحاكمة تشكّل فضيحةً ومهزلةً، وذلك في تصريحه لوسائل الإعلام المحلّية، قائلاً: “أؤكّد مزيداً من الغرائب، أنا كنت قاضياًَ وأنا الآن محامٍ لي اطلاع على كثير من القانون المقارن، ومطّلع كذلك على محاكمات التآمر القديمة، ولم أشهد البتّة ما رأيته اليوم”. وأضاف صواب في التصريح: “هذه المحاكمة مهزلة قضائية وفضيحة قضائية، والقضاء التونسي يعيش وضع الدمار الشامل، وهو غير بعيد ممّا تعيشه غزّة من دمار شامل”. وهو قولٌ لا يخلو من رمزية ومقارنة، وإن “السكاكين ليست على المعتقلين، السكاكين على رئيس الدائرة الذي سيحكم الآن كثيراً من الملفّات (برشا دوسيات)”، مومئاً بحركة من يده على رقبته، في إشارة إلى الضغوط المسلّطة على القضاة.

وتبعاً لتلك التصريحات، قرّرت الوكالة العامّة لدى محكمة الاستئناف بتونس اعتقال صواب، وفتح بحث تحقيقي في حقّه، وفق تصريح للناطقة الرسمية للقطب القضائي لمكافحة الإرهاب لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، في إثر تداول مقطع فيديو يظهر فيه المحامي أحمد صواب بصدد تقديم تصريح من أمام مقرّ دار المحامي بتاريخ 19 إبريل 2025، مصرّحاً باللهجة العامّية التونسية بعبارة “السكاكين موش على المعتقلين، السكاكين على رئيس الدائرة اللي باش يحكم توا برشة دوسيات”، متولياً القيام بإشارة الذبح باستعمال اليد على مستوى الرقبة، وذلك من أجل “جملة تهم إرهابية وجرائم حقّ عام مرتبطة بها كالتهديد بارتكاب جرائم إرهابية بهدف إرغام شخص على القيام بفعل أو الامتناع عنه، وتعريض حياة شخص مشمول بالحماية للخطر والتهديد بما يوجب عقاباً جنائياً”.

انتشر فيديو تصريحات صواب بصورة واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي عشية اعتقاله، مصحوباً بحملة تحريضية من أنصار الرئيس قيس سعيّد وموالاته وأعضاء تنسيقياته ومحلّياته، تجرّم تلك التصريحات، وتدين صاحبها وتصمه بالدوعشة والإرهاب، متهمة إياه بتهديد القاضي الذي أصدر الأحكام بالذبح، ما يوجب اعتقاله وإيداعه السجن، الأمر الذي جعل من عملية الاعتقال تمثّل استجابةً مباشرةً من السلطة السياسية لتلك الحملة الفيسبوكية الواسعة.

في رسالة له من داخل سجنه بالمرناقية، نشرها موقع صحيفة المغرب ومواقع أخرى عديدة حقوقية وغير حقوقية، علّق صواب على حملة الشيطنة التي طاولته وإنطاق أقواله غير ما تنطق به، وإخراجها عن طابعها المجازي “ما ظننت يوماً أنّ أجهزة نظاميّة تتحرّك تحت وطأة حملة شيطنة وافتراء من عصابة بالكاد تفكّ الخطّ، ولا تميّز بين الأدوات البلاغيّة وأدوات الحراثة، ولا طاقة لها على التمييز بين الخطاب التقريري الوصفي المباشر وخطاب يستعمل المجاز والاستعارة والتضادّ والإيحاء والتهكّم”. وعن اتهامه بالإرهاب، تساءل صواب: هل للسلطة التي احتكرت حرية التصرّف في كلّ شيء أن تحتكر أيضاً اختيارنا لقناعاتنا وتموقعنا حضارياً وفكرياً وسياسياً؟ هل لها أن تختار إرهابيّيها على مزاجها؟

جدّد اعتقال أحمد صواب، وإحالته على القضاء بموجب قانون الإرهاب لسنة 2015، النقاش بشكل واسع في الفضاء العام التونسي الافتراضي والسياسي والمدني، حول هذا القانون الذي بات يُستخدم من السلطة الحاكمة في تونس لتصفية خصومها ومعارضيها، فمن الحيف أن تحاكم شخصية عامّة مدنية، تولّى صاحبها ممارسة مهنة القضاء الإداري عشرات السنين، وكان من مؤسّسي اتحاد القضاة الإداريين ورئيسه الشرفي (نقابة قضاة المحكمة الإدارية)، والتحق بالمحاماة بعد تقاعده سنة 2017، وله مواقف تجاه القضايا العامّة ومسائل السلطة والانتقال الديمقراطي في تونس، بالقانون نفسه والتهم نفسها التي حوكم (ويحاكم) بها أفراد ومجموعات وتنظيمات إرهابية، حملوا السلاح ضدّ الدولة وتورّطوا في القتل والذبح والاعتداءات والتفجيرات والاغتيالات، على غرار “أنصار الشريعة” و”القاعدة” و”داعش”.

يخطئ من يعتقد أن اعتقال صواب مردّه التصريح الذي أدلى به بعد خروجه من قاعة المحكمة في قضية التآمر على أمن الدولة، فذلك التصريح كان مجرّد تعلّة، والقادح الذي تم التقاطه واستغلاله من السلطة الحاكمة لإسكات خصم عنيد نبّه يوم 18 يونيو/ حزيران 2021 إلى أن الرئيس قيس سعيّد له نيّة الانقلاب بالقول: “هناك أمران مستجدّان في خطاب سعيّد خلال لقائه الأخير مع رؤساء الحكومات، الأوّل يتعلّق بنية واضحة في قلب نظام الحكم عبر تعليق الدستور (2014) أو إلغائه، والثاني عن كيفية المرور لتطبيق هذه النيّة الذي قد يتمّ إمّا من خلال تفعيل الفصل 80 أو قائداً للقوات المسلّحة العسكرية والمدنية”، وهو ما وقع فعلاً. ولذلك، رفض صواب (قطعياً) “الانقلاب الرئاسي” ليوم 25 يوليو/ تموز (2021)، وما نتج منه من تشريعات، خاصّة الأمر الرئاسي عدد “117” ودستور سنة 2022، متسائلاً في تصريح له لصحيفة الشارع المغاربي، يوم 19 أغسطس/ آب 2022، أي بعد يوم واحد من نشر الدستور في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية)، هل يمثّل الرئيس سعيّد سلطةً تأسيسيةً “يفعّل الفصل 80 ويضع دستوراً جديداً”؟… “هذا لا يسمّى سلطة تأسيسية، هذا انقلاب وتحيّل وانحراف، وحده نصّب نفسه كلّ شيء، هل هذا ينطبق عليه عبارة سلطة تأسيسية؟”. وقد كان آنذاك يردّ على ما نسبه سعيّد إلى نفسه بأنه يمثّل سلطةً تأسيسيةً تعطيه الأهلية والأحقّية في وضع دستور يعرضه على الاستفتاء.

وفي إحدى الإذاعات المحلّية (الديوان أف أم) قبل سنة، اعتبر صواب أن ما قام به سعيّد يوم 25 يوليو (2021) هو انقلاب، وهو نسخة مطابقة للأصل من انقلاب نابليون الثالث في فرنسا، وقال إن سعيّد نكّل بالقضاة التونسيين، وإن بوادر الفاشية بدأت تظهر في تونس بعد عودة الاستبداد والدكتاتورية. وفي ما يتعلّق بالانتخابات الرئاسية لسنة 2024، التي جدّد فيها الرئيس سعيّد ولايته الرئاسية، قال صواب (17 يوليو/ تموز 2024)، “إن الشروط الدنيا للمنافسة النزيهة والقواعد الواضحة والمنصفة غير مجودة”، وذلك تعليقاً على رفض الهيئة المستقلّة للانتخابات تنفيذ الأحكام التي أصدرتها المحكمة الإدارية، ومن بينها إعادة ثلاثة مترشّحين (عبد اللطيف المكّي وعماد الدايمي ومنذر الزنايدي) إلى السباق الرئاسي.

ورغم انتمائه اليساري واستقلاليته، وعدم تحزّبه، لقي اعتقال أحمد صواب، والاحتفاظ به على ذمّة التحقيق، وإحالته بموجب قانون الإرهاب وغسل الأموال، تعاطفاً واسعاً في صفحات التواصل الاجتماعي، وإجماعاً من مختلف القوى السياسية والمدنية، في ظلّ واقع الصراع والتشظي والانقسام الحادّ الذي تعيشه تلك القوى، خاصّة بعد استفراد الرئيس سعيّد بالسلطة سنة 2021.

أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل بياناً عبّر فيه عن تضامنه مع أحمد صواب، ودعا إلى الإفراج عنه وإسقاط الدعوى ضدّه، واعتبار تهمة الإرهاب الموجّهة إليه متهافتةً، ولا يمكن أن تنطبق عليه البتّة، وهو المعروف بنضاله المدني والقانوني، وتباينه الجوهري مع التطرّف والإرهاب. وعبّرت حركة النهضة الإسلامية عن تضامنها مع صواب، ودعت إلى إطلاق سراحه، وقالت إنه “يدفع ثمن مواقفه المشرّفة في الدفاع عن دولة القانون واستقلالية القضاء”. ودان حزب العمّال (الشيوعي) ما سمّاه “الاعتقال التعسّفي الذي يمثّل إمعاناً في سياسة القمع والانتقام الممنهجة التي تتبعها سلطة الانقلاب”، مطالباً بإطلاق سراح أحمد صواب فوراً من دون قيد أو شرط، وبالكفّ عن هرسلة المحامين وضمان حقّهم في الحصانة.

ويعود هذا الإجماع حول صواب من مختلف قوى المعارضة السياسية والمدنية، على تناقضها وصراعاتها المزمنة، إلى قدرة الرجل على السموّ والارتفاع عن تلك الصراعات ذات الطبيعة الأيديولوجية الصرفة المستبطنة أحقاداً تاريخية، والدفاع عن الحقوق والحرّيات العامّة والفردية، والمطالبة بها لمن يختلف معه في الرأي والعقيدة والأيديولوجيا، قبل من يتماهى معه ويتّفق. ولعلّ تطوعه وانتماءه إلى هيئة الدفاع في قضية التآمر على الدولة، التي ينتمي إليها محامون إسلاميون وغير إسلاميين، والوقوف جنباً إلى جنب معهم في قاعات المحكمة وفي أثناء تنظيم الندوات الصحافية للدفاع عن متهمين من مختلف الحساسيات السياسية التونسية (إسلاميون ولائكيون ويساريون ودستوريون)، تعكس مدى تحرّر صواب من تأثير الأيديولوجيا وصراعاتها ومناكفاتها القاتلة، وهذا ما يفسّر ردّة الفعل السريعة من الشارع التونسي بتنظيم مسيرة شعبية بشوارع العاصمة ضمّت مختلف قوى الطيف السياسي والشبابي، في يوم اعتقاله، ووقفة احتجاجية واسعة أمام مقرّ النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين (25 إبريل)، تلتها مسيرة اتجهت إلى شارع الحبيب بورقيبة، رُفعت فيها صور عديدين من معتقلي السياسة والرأي والإعلام والتدوين، القابعين في سجن المرناقية وغيره من السجون التونسية، وكان منهم أخيراً المحامي أحمد صواب.

ستظلّ صورة صواب، في أثناء التحقيق معه وهو مكبّل اليدين بالأصفاد، التي لفّت العالم بسرعة البرق ونشرتها وسائل التواصل الاجتماعي والصحف العالمية ومواقعها وصفحاتها الافتراضية، عنوان انهيار القيم وأخلاقيات السياسة، ونكوص حادّ عن المبادئ والمسارات الديمقراطية والحرّيات العامّة والفردية التي جاءت بها الثورة التونسية، بعدما ناضلت من أجلها أجيال من النُخب الفكرية والسياسية والنقابية الوطنية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here