أفريقيا برس – تونس. تجسيدا لأسطورة وصول الفينيقيين إلى السواحل التونسية قبل 30 قرنا، شهد ميناء مدينة بنزرت (شمال) محاكاة لهذه الرحلة التاريخية، حيث أعاد عدد من الشباب تجسيد الموكب الحافل لوصول الفينيقيين إلى بلادهم، في مشهد أعاد الذاكرة إلى تاريخ بعيد.
وظهر الشباب التونسي بملابس فينيقية محاكاة لواقع المدينة قديما، حيث كانت تسيطر عليها الحضارة الفينيقية لغًة، ولباسًا، ومأكلا.
وجاءت هذه المحاكاة على وقع “شهر التراث” في دورته الـ34 والذي تنظمه ولاية بنزرت، وشهد فعالية بعنوان “عودة الفينيقيين”.
وتضمنت هذه الفعالية، مشهدان رئيسيان وهما “البحار بعل حنو” و”نعمات”، واستعرضا تفاصيل الحياة الفينيقية في لتاريخ القديم للمدينة.
وتعتبر مدينة بنزرت أو “هيبوأكرا” من أقدم المدن الفينيقية إذ تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وتحتوي على حوالي 40 موقعا أثريا فينيقيا، وفق المصادر التونسية الرسمية.
الأساطير الفينيقية في تونس
وتقول الأساطير القديمة إن “عليسة – أليسا” (شخصية أسطورية عرفت بأنها ابنة ملك صور ومؤسسة قرطاج وملكتها الأولى) هربت من مدينة صور اللبنانية بعد مقتل زوجها على يد شقيقها، وأسست مدينة فينيقية على شاطئ شمال تونس، أسمتها قرطاج عام 814 ق. م.
واستمرت الحضارة الفينيقية في قرطاج حتى سقوطها على يد الرومان سنة 146 ق. م، وفق الأسطورة ذاتها.
لكن قبل هذه الأسطورة، يعتبر التونسيون أن وصول الفينيقيين إلى بلادهم بدأ من مدينة “أوتيكا” على بعد نحو 35 كلم، شرق بنزرت سنة 1100 ق. م، حين جاؤوا إليها للتجارة.
وفي محاولة لتقريب التاريخ للجيل التونسي الجديد، قالت الباحثة في اللغات والحضارات القديمة، خولة بنور، إنه “تم الاعتماد على أساليب امتزاج الفن بالعلم للوصول إلى مشهد تقريبي للتاريخ”.
وأضافت بنور: “خلال فعالية عودة الفينيقيين، قَرّبنا المعلومات للناس من خلال مشهدي (بعل حنو ها ملاحو) و(نعمات)”.
وبينت أن “ملاحو” هي كلمة فينيقية تعني البحار، مشيرة إلى وجودها أيضا في اللغة الأكادية.
وأوضحت بنور، أن “الكلمة رمز للبحر وقدوم الفينيقيين منه، وتأسيس قرطاج، التي بتأسيسها ولدت إمبراطورية تجارية بحرية كبيرة”.
وأما “نعمات” فهي تعني باللغة الفينيقية “الطعام”، وفق بنور.
وتابعت: “باستخدام هذه الكلمة أردنا التركيز على حبة القمح حيث نقترب بالفعل من موسم حصاده. والكلمة جزء من تراثنا الغذائي”.
وحول رحلة وصول الفينيقيين إلى تونس، لفتت بنور، إلى أنه بجانب ارتباط الفينيقيين بالبحر إلا أنهم كانوا وراء دخول “الأشجار المدجنة” إلى تونس.
والأشجار المدجنة هي الأشجار البرية الي تم تأهيلها وتعديلها للاستهلاك البشري عبر تناول ثمارها.
وقالت: “أتى الفينيقيون من بلاد كنعان (لساحل السوري- اللبناني- الفلسطيني) وحملوا معهم الأشجار المدجنة ونشروها خاصة في غرب البحر الأبيض المتوسط ليستهلكها الإنسان”.
ونوهت إلى أن “أول أرض أنتجت القمح المدجن كانت بلاد الشام وبالتحديد منطقة الجليل (شمالي فلسطين التاريخية)”.
وأفادت بأن الأرض السورية الكنعانية “كانت مهد الأشجار المثمرة”.
وأشارت إلى أن أولى معاصر زيت الزيتون البدائية “وجدت في أوغاريت رأس الشمرة (مدينة اللاذقية شمال غربي سوريا)”.
وريثة كنعان
وعلى خلفية رحلة الفينيقيين من بلاد كنعان إلى تونس، رأت بنور أن مدينة قرطاج التونسية باتت “وريثة بلاد كنعان وامتدادا لها”، إضافة إلى وصفها بأنها “ملكة البحر وسيدة الأرض في غرب البحر المتوسط”.
وحول الأثر الذي لعبته قرطاج في العالم، تحدثت بنور عن “موسوعة ماغون الزراعية” التي ألفها القائد العسكري والعالم الزراعي ماغون القرطاجي، الذي اهتم بالفلاحة في وقت السلم في قرطاج وكتب موسوعة من 28 مجلدا عن الفلاحة.
وبشهادة مؤرخين عالميين، يعد ماغون، أبرز علماء الفلاحة القدامى.
وأوضحت بنور: “أبدع لنا العلامة ماغون الموسوعة الزراعية التي احتفظت بها روما بعد احتلال قرطاج، وقامت بترجمتها، وكانت أساس تطوير الزراعة”.
أصول فينيقية لبنزرت
وفي سياق متصل، كشفت بنور عن شواهد تاريخية عدة في ولاية بنزرت تبرز أصولها الفينيقية.
وأردفت: “عثرنا على قبور بداخلها فخاريات وأدوات مصنوعة من العاج والبلور، فضلا عن الحلي”.
ولفتت إلى أن هذه الشواهد وجدت في مناطق مختلفة من ولاية بنزرت، بينها “هنشير بني نافع” و”كاب زبيب” و”ماطر”.
وتابعت أنه في “كاب زبيب” تم العثور على آثار وخزانات مياه، وأفران لصنع الفخار، وغالبيتها شواهد تعود إلى الفترة ما بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد.
كما أبرزت بنور، وجود موقع فينيقي متميز في بنزرت وهو مدينة “أوتيك” أو كما تسمى “المدينة العتيقة”.
وتابعت: “كان للمدينة ميناء على البحر، ولكن بفعل طمي وادي مجردة الذي يصب فيها، ابتعدت الآن عن البحر واندثر الميناء”.
وتشير الوثائق التونسية إلى أن “أوتيكا” تعد واحدة من أوائل المصارف التجارية الفينيقية، باعتبار أن تأسيسها قد يعود الى حوالي عام 1101 قبل الميلاد، أنشأت في سياق الأنشطة التجارية للفينيقيين القادمين من صور.
الشواهد أكثر من المصدر
وبدوره، أبرز فتحي الدريدي، موظف في مندوبية الثقافة ببنزرت (حكومية) أهمية فعاليات التذكير بالأصول الفينيقية للمدينة، انطلاقا من أن “المصادر شحيحة بينما الاعتماد يكون أكثر على اللُقى والشواهد الأثرية”.
وأوضح الدريدي، وهو باحث جامعي، أنه في بنزرت “هناك مواقع مثل مقبرة بن نافع، وسيدي يحي، وماطر، وكاب زبيب، تشير جميعها إلى وجود فينيقيّ بوني”.
واعتبر أن هدف فعالية “عودة الفينيقيين” هو محاكاة الحياة اليومية الدينية والتجارية والاقتصادية للفينيقيين.
و”الفترة البونية” أو “البونيقية” هي امتداد لحضارة الفينيقيين في تونس، وتشير عادة إلى سكان قرطاج الذين أسسوا مملكتهم في غرب البحر الأبيض المتوسط، وخاصة في شمال إفريقيا، حيث طوّروا هوية ثقافية وسياسية مميزة.
– لباس “تونيكا” الفينيقي
ومن جهتها، تحدثت حنان الطرودي، مسؤولة التنشيط الثقافي في مندوبية الثقافة ببنزرت عن لباس “تونيكا” الذي ظهر به الشباب التونسي في فعالية “عودة الفينيقيين”.
وقالت الطرودي إن هذا الزي “مستوحى من التماثيل والحفريات التي تعود للفترة البونية، ويتكون من قماش يشد بحزام في الوسط، وفوقه رداء يربط على الرأس”.
وسبق وأشرفت الطرودي، على ورشة لتقديم اللباس الفينيقي “تونيكا”، لافتة إلى هناك ملابس تقليدية تونسية الآن تشبه هذا اللباس و”لعلها مستلهمة من اللباس الفينيقي”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس