الحرب على إيران و “خلوّ العرش”

2
الحرب على إيران و
الحرب على إيران و "خلوّ العرش"

خالد كرونة، كاتب تونسي

أفريقيا برس – تونس. في عالم تعطبت فيه النخب السياسيّة التي تنتج المعنى وترسم أفق المستقبل، وتركت مكانها لصعاليك “العالم السفلي” و فتيان من التكنوقراط التافهين ممّن “نبتوا” في أعقاب سقوط جدار برلين، وفي عالم تحظى فيه طُغم البنوك ومافيا الميديا بمراكز القرار، نستشعر فعلا الخواء الذي خلفه غياب الأيديولوجيا بعد أن “كبّر عليها أربعا” قصار البصيرة ورقصوا جذلا مبشرين بانصرام زمنها، ولذلك أضحى العالم خلوا من ترساناته الفكرية والأخلاقية، ولذلك أيضا شغل رهط من أمثال ماكرون و ميلوني وترامب مراكز متقدمة من دون أن تكون لأيّ منهم ملكات تؤهلهم لإدارة العالم كما كان الشأن ماضيا مع “زعماء” (بصرف النظر عن مواقفنا منهم) مثل ديغول أو تشرشل أو ستالين أو تيتو..

ولسنا نجد أبلغَ من عبارة “غرامشي” التي ضمنها “دفاتر السجن”.. كان لامعا وهو يخبر عما سماه “خلوّ العرش” وهي عبارة مكثفة تختزل حال تيه الإنسانية في أيامنا.. قال: “تكمن الأزمة على وجه التحديد في حقيقة أنّ (النظام) القديم يحتضر والجديد لا يمكن أن يولد بعد. وفي فترة خلوّ العرش بين النظامين، تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المتوحّشة السقيمة”.

حول أهداف الحرب الكبرى:

من السخف حقّا الاعتقاد أن الكيان “يحب السلام” ويخشى “تهور الفرس” ولذلك يريد منع تطوير برامج إيران النووية ! الحرب على إيران خطوة نحو “شرق جديد” تحت العباءة الأمريكية وبإدارة الشرطي الصهيوني. ما يتم الاشتغال عليه منذ بداية هذه الألفية، هو وضع “سايكس ــــ بيكو” جديد، بعد قرن على سالفه، وأهمّ خصائصه تفتيت الدول وتحويلها إلى كانتونات طائفية بما يسمح لدولة الاحتلال أن تحافظ على تفوقها ويمنحها صدارة التأثير في محيطها الإقليمي. وبدأ تنفيذ المخطط بتفتيت العراق بعد الحملة الأطلسية عليه، ثمّ محاصرة سورية التي انتهوا إلى “ابتلاعها” (مؤقتا) بعد أن فتكوا بليبيا، وأعدّوا الثوب الإبراهيمي زيّا رسميّا لممالك “الاعتدال” الأمريكي..

وكان الطوفان، وما رتبه من عزلة دولية على الكيان، فقد أضحت 139 دولة تعترف بدولة فلسطين وصارت قائمة الدول التي خفضت تمثيلها لدى دولة الاحتلال أو قطعت علاقاتها بالعشرات، وأمسى بعض قادة العدوّ مطلوبين للعدالة الدولية..ولكنّ الأقسى على الكيان، أنه لم يحصد من حرب الإبادة التي شنها منذ ما يزيد عن 600 يوم على غزة وعموم فلسطين غير تقويضِ صورته التي حاول نحتها عقودا باعتباره “واحة ديموقراطية” فريدة في المنطقة وانكشافِ دمويته أمام العالم بأسره، وهو ما أنشأ أكبر موجة إدانة لا سابق لها في جلّ مدن العالم ودشّن عصر سقوط سردية “مظلوميته” بين ملايين الشبان وبخاصة كوادر الغد حول العالم من طلاب الجامعات ومن مناضلي الجمعيات والأحزاب المعادية للهيمنة. وعلى الصعيد الميداني، فشل تماما في تحقيق أيّ من أهداف حربه على غزة، بل على العكس، أُذلّ في مشهديّة “تبادل” الأسرى و اضطرّ إلى تسريح السجينات الفلسطينيات و أطلق سراح عدد من أصحاب المؤبدات والأحكام الثقيلة ( حتى إن كان عاد لاعتقال بعضهم)، وفشل في قصم ظهر المقاومة ولم يتسنّ له غير تحقيق انتصارات تكتيكية على قدر غير قليل من الأهمية عبر حملة الاغتيالات المؤلمة التي طالت رؤوسا قيادية في فلسطين وفي لبنان (ضمن استراتيجية تهدف إلى تحييده وصولا إلى فرض التطبيع عليه)..

وينبغي الإقرار بلا مواربة أنّ إيران لعبت دورا محوريّا منذ أمد بعيد في تعزيز صمود المقاومة في فلسطين وفي لبنان وفي العراق و في اليمن.. ولا يقتصر هذا الدور على الإسناد اللوجيستي بل تعدى ذلك إلى تطوير الكفاءات و “تسريب” التكنولوجيا فضلا عن التدريب والتمويل و المساهمة الفعالة في جهود إعادة الإعمار بعد كل جولة من جولات الصراع الدامي ضدّ الصهيوني والأمريكي.

وينبغي الإقرار أيضا أنها القوة الإقليمية الوحيدة التي لم تتردّد في دعم أهمّ منعطف أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، نعني الطوفان الذي تآمر عليه الغرب والعربان، لذلك أضحى إسقاط النظام و”تلوين” ثورة ضدّه هدفا حيويّا للكيان و لراعيه الأمريكي خاصة بعد أن تمكنوا من إضعاف حزب الله، وبعد أن أخضعوا بالاشتراك مع التركي سورية وسلموها مِزقا إلى الدواعش ضمن مشروع التفتيت والاقتسام.

ويبدو أنّ حكومة العدوّ قدّرت أنّ إحداث تغيير في طهران بات ممكنا في زمن “خلوّ العرش” ولا شكّ أنّ إدارة “ترامب” رحبت بخطة دولة الاحتلال، التي كانت منذ أمد (كما اتضح) قد شيّدت لنفسها نقاط ارتكاز مهمة في الداخل الإيراني، وأقامت شبكات نشطة في جمع المعلومات و تركيب طائرات الدرون الهجومية، وربط الصلات ب”المعارضين” و بخلاياهم المسلحة، فضلا عن الاختراق السيبيرني.. وكانت “الشماعة” جاهزة وهي “البرنامج النووي” ( تماما كما كانت الشماعة أسلحة الدمار الشامل في العراق و قضية الديموقراطية في ليبيا ثم في سورية..الخ) بالتآمر مع رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبتعطيل المفاوضات التي كانت جارية في مسقط العمانيّة.

كان ترامب ينتظر الهدية التي لا يمكن ردّها، خاصة بعد أن علم أن الخطة تقتضي “حصد” كل قيادات الصف الأول من ساسة و علماء و قادة عسكريين وأمنيين. وهو ما سيسمح لاحقا بتوسيع أعضاء “النادي الإبراهيمي ” و إسعاف قطار التطبيع الذي أخرجه الطوفان من مساره وعطل دواليبه، مثلما سيسمح أيضا بمزيد “خنق” الروسي الذي أثخن أوربّا و أفشل حملة “الناتو” التي رعاها البيت الأبيض، وسيكون إسقاط إيران ضربة موجعة في الخاصرة الصينية التي يراها الأمريكي العدوّ الاستراتيجي الألدّ..

من الأهداف إلى الميدان:

كشفت المواجهة خلال 12 يوما أن حسابات الحقل ليست حسابات البيدر. فقد تمكّن الصهاينة من توجيه ضربة قوية إلى “الأمن القومي الإيراني” لا فقط في الهجوم الأول الكبير وقائمة الاغتيالات الطويلة، بل خاصة في التحديات التي خلفتها المواجهة فيما يتصل بالضعف الفادح في منظومات الدفاع الجوي ( رغم تفوق إيران في إسقاط درة تاج سلاح الجو الأمريكي f35 وفق ما ذكرت وكالة أنباء فارس التي أضافت أن ربانا وقع في الأسر ) وهو ما سمح لطيران العدو باستباحة الأجواء الإيرانية والتباهي بذلك بكل صلف. وممّا أبانت عنه المواجهة، حجم الاختراق السيبراني و البشري وما يخلفه من أثر عمليّاتيّ ( أغلب الاغتيالات تمت بطائرات مسيرة انطلقت من إيران) فضلا عن نجاح الصهاينة في زرع خلايا عبر الجغرافية الواسعة للجمهورية لا تعوزها الإمكانيات (تسليح، وسائل اتصال، قدرة مالية) ولا تنقصها كفاءة التدريب العالية التي ظهر أثرها طوال أيام المواجهة.

وفي مقابل ذلك، يمكن التوقف عند نجاحات إيرانية على غاية من الأهمية:

– ترميم منظومة التحكم والسيطرة ( وهي العصب الرئيسي في أي معركة) في وقت وجيز بعد الهجوم الكبير وتجاوز تبعاته الكارثية خلال سويعات ( وخاصة ما قيل إنه خديعة استخبارية أمريكية/ صهيونية) ممّا سمح بالمحافظة على تماسك الجبهة الداخلية و إعادة تشغيل الآلة الدفاعية.

– نجاح إيران في استنزاف قدرات منظومات العدوّ على الصدّ عبر خطة “الإغراق” ورفع الكلفة المادية في الأيام الأولى قبل إدخال السلاح الصاروخي الأكثر فعالية إلى الميدان، وهكذا انكشفت حدود قدرة المحتل رغم الإسناد (الدفاعي) من البحر الأحمر ومن العراق و من الأردن..الخ. لقد أسقطت إيران نهائيا وهم المناعة وخرافة “المدن الآمنة” حين صارت منظومات القبة الحديدية و حالوتس لعبة تتسلى بها صواريخ إيران الذكية الفائقة السرعة.

– نجحت إيران (رغم تواضع الآلة الدعائية وحرب الصور) في أن تتحوّل في عموم الفضائين العربي والإسلامي رمزا لتمريغ أنف الصهيوني في الوحل، بعد أن تسربت صور قليلة جدّا لمدن “العدو” التي باتت لأول مرة منذ إنشائه تشبه عواصمنا حين تستباح فينتشر فيها الخراب، وهذا يستكمل موضوعيّا ما بدأه الطوفان ( نهوض لبنان و اليمن نصرة لغزة) من تحطيم بروباغندا “العربان” التي ظلت تغذي منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما نار الطائفية التي أوهمت لزمن مديد أن الخطر الإيراني أكبر من الخطر الصهيوني (في أجلّ خدمة لقوى الهيمنة ولدولة الاحتلال).

– نجحت إيران (فيما يبدو وحسب تقدير أغلب الخبراء في العالم) في الحفاظ على الجسم الرئيسي على الأقل لمشروعها النووي السلمي رغم هرطقات “ترامب” وتغريداته التي لا تتوقف. و قدمت نفسها قوة سيادية لا تتأخر عن قصف قواعد أمريكية حتى إن كان القصف محدودا ويضطر “ترامب” إلى ابتلاعه حتى لا يتسع الحريق.

– نجحت إيران جزئيّا في إظهار قدرتها على الردع الصاروخي، ( نجاح جزئي تنقصه قدرات الدفاع الجوي) ولكن الأهمّ أنها (تماما مثل المشروع النووي) تمكنت من الحفاظ على قدراتها الباليستية رغم كل ما بذله الصهاينة في عشرات الغارات للحدّ منها.

– نجحت إيران ( خلافا للعدو) في رصّ الصفوف داخليّا و كانت مواقف بعض المعارضين البارزين عنوانا مهمّا وأمارة واضحة على هذا النجاح وهو ما يسمح بالقول إن النظام الإيراني خرج من المواجهة أقوى داخليّا ( في انتظار أن يستوعب قادته الدرس و يغيروا شروط اللعبة السياسية ويوسعوا المشاركة أمام المعارضين الوطنيين بتعزيز دمقرطة الحياة السياسية ).

– نجحت إيران خلال الحرب التي فُرضت عليها في خلق ندوب لا تمحى ضمن نسيج العدوّ الاجتماعي، وعزز صمودُها و أداؤها القتالي حالة التفكك في صفوف الصهاينة، ممّا سيفاقم الهجرة العكسية ( وقد بدأ ذلك فعلا عبر قوارب الفرار و صفوف الهاربين في سيناء).

– عسكريا، نجحت إيران في إثخان العدوّ حين لم تلتفت إلى تخريب الأحياء و المباني المدنية، بل انتقت أهدافا ذات قيمة وجودية بالنسبة إلى العدوّ ( الذي يتكتم حتى الساعة عن حجم الضرر) أي أنها قطعت شريانات التفوق التقني حين دمرت مراكز بحثية عسكرية و قدرات تكنولوجية تتصل بالملاحة الجوية وبمنظومات التحكم في المسيرات و مختبرات “وايزمان” و أهانت العدو حين دمرت مقر ذراعه “الموساد” وقصفت أذرع القوة الجوية في قاعدتي “غاليلوت” و “نيفاتيم”، ولا ينبغي أن نذهل أبدا عن قيمة ما وقع بين أيدي الإيرانيين من آلاف الوثائق السرية التي سيكون لها بالغ الأثر في مستقبل الصراع.

ماذا بعد؟

بالنسبة إلى العدوّ، حرمه الميدان من “تسويق” انتصار على إيران، فالنظام لم يسقط و المشروع النووي سيستمرّ رغم ما قد يكون أصابه من “تخفيض وتيرة”، والقدرة الباليستية تعززت وشهد بها العالم كله، وأرغم نتنياهو (الملاحق دوليا و داخليا) على القبول بوقف مؤقت للقتال ( مجرد “إعلان مبادئ “لا ندري بعد إن كان سيتحول إلى اتفاق نهائي)، وسيواجه العدوّ الآن “انكشاف” ما أخفى من آثار الصواريخ والمسيرات الإيرانية و سيواجه النتائج العملياتية و السياسية لأعطاب منظومات الدفاع التي كان يتباهى بها، وسيواجه مجددا الانقسامات الداخلية ( قد يذهب نتنياهو إلى انتخابات سابقة لأوانها ليتخلص من حلفائه المعرقلين و يحاول استثمار ما فعل ) و سيكون عليه إحصاء الأضرار و ترتيب إعادة الإعمار، ولكن الأهم أنه سيواجه “سؤال غزة” الكبير بعد أن سقط مشروع التهجير و بعد أن فشل العدو في استعادة أي من أسراه ( بغير التبادل) و سيكون مضطرا أن ينزل بالسلم الذي أعده له “ترامب” من شجرة عناده تماما كما أسعفه حين أوقف انهمار الصواريخ على مؤسساته التي كان الغرب جعلها قاعدة التفوق التقني والاستخباري..

سيواجه العدو أيضا (خلافا لبروباغندا ترامب البلهاء) مزيدا من العراقيل أمام قطار التطبيع، فقد رأى العربان (الذين كانوا على وشك الدخول إلى الخيمة الابراهيمية) أن أمريكا عاجزة عن حماية “ربيبها” فكيف بهم رغم أن ممالكهم ظلت دهرا تتوهم أن الأمريكي هو الحامي لعروشهم.

أما إيران، فستكون “فائزة” في القطاف السياسي بعد الحرب إذا ثبتت مشروعها الباليستي و مشروعها النووي وكسرت مخلب الأمريكان ( الوكالة الذرية).. سيكون هذا مناورة سياسية بالغة التعقيد، وينبغي للجمهورية أن تعرف متى تقدم أثمانا و ما هي. ولكن الأهم ألّا يظن أحد أن الحرب قد انتهت.. وهذا يحتم على إيران المسارعة إلى:

– تطوير قدرات الدفاع الجوي ( مكمن الضعف في المنازلة الأخيرة) ويبدو أن القيادة متنبهة إلى هذا وتحاول تجاوز النقص باستقدام مقاتلات و صواريخ أرض جوّ من الصين و الاستعانة بالتجربة الباكستانية.

– تطويق الاختراقات بأقصى سرعة ممكنة وبأنجع السبل ( وهذا تم البدء فيه وفق ما تذيعه إيران)

– استثمار حالة “الوحدة الوطنية ” بتعزيز عناصر القوة وخاصة الانفتاح على القوى المعارضة التي أثبت الواقع أنها تقف على الأرضية الوطنية.

– الاستفادة من نتائج المعركة لإضفاء نجاعة أكبر على أداء الحلفاء و خاصة في اليمن و في لبنان.

– وضع رفع العقوبات على طاولة التفاوض الدولي لتخفيف معاناة الشعب الإيراني التي دامت عقودا وإبعاد السكين قليلا عن الرقبة.

الخلاصة: إيران لم تهزم الصهاينة هزيمة كاملة، ولكنها إذا نجحت في المطبخ السياسي في الذود عن حقوقها في الصناعة الباليستية و إذا نجحت في الحفاظ على مشروعها النووي و التخصيب على أرضها، وإذا نجحت في رفع بعض العقوبات على الأقل، وإذا نجحت في اجتثاث خلايا الجوسسة وفي فتح قنوات حوار مع أطياف سياسية وطنية إيرانية من خارج دائرة الحكم، إذا تم هذا، سيكون انتصارا استراتيجيا مهما و ستكون بوابة إسقاط سايكس بيكو جديد.

في انتظار “تسوية” في غزة بشروط مقبولة ضمن الحد الأدنى الوطني، الأيام حبلى بالجديد، وما خفي الآن سيكون أمام الأعين..

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here