إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. انتهت الأزمة التي تصاعدت في الأيام الماضية بين المنظّمة التونسية للأطباء الشبان والحكومة – ممثلة في وزارة الصحة– بتوقيع محضر اتفاق يقضي بإنهاء إضراب الأطباء الشبان وتحقيق أغلب المطالب المتعلقة بالمستحقات وتحسين ظروف العمل، لكن ولئن نجح الأطباء الشبان في انتزاع “مكاسب” فإن المقياس الحقيقي يمكن في مدى التزام الحكومة بتنفيذ الاتفاق فعليا، فالتحدي الأكبر لا يكمن في توقيع محاضر الاتفاق، بل في تجسيدها فعليا بما ينقذ قطاع الصحة العمومية المتهالك، ويضع حدا لنزيف هجرة الأطباء التونسيين.
يعتبر الأطباء الشبان عماد المستشفيات الجامعية وقد كشفت احتجاجاتهم الأخيرة أن الأزمة ليس ظرفية أو مرتبطة فقط بمطالب “مادية” بل إن الوضع ينذر بانهيار منظومة الصحة العمومية في البلاد في ظلّ ارتفاع عدد الأطباء والإطارات الصحية التي غادرت، وستغادر، البلاد، ضمن ظاهرة جماعية تهدّد الأمن الصحي الوطني.
ويعلّق الطبيب التونسي الشاب أحمد بلعربي على ذلك قائلا في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: “حسب تقديري مخرجات جلسة التفاوض بين منظمة الأطباء الشبان ووزارة الصحة ستحدّد نجاحها جدية سلطة الإشراف، ومدى سعي الوزارة في الوصول إلى حلول، نحن كأطباء شبان مقيمين داخليين وخارجيين نناضل لأجل الأجيال القادمة، لا نريد نزيف الهجرة أن يتواصل، لا نريد مواصلة العمل في ظروف سيئة، وهو ما يؤثر سلبا على صحة المواطن”.
واعتبر رمضان بن عمر، الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن “ما حققته منظّمة الأطباء الشبان يبيّن مجددا أن الحقوق تُنتزع انتزاعا ولا تُمنح”، منتقدا، في تصريحات صحفية، “استمرار الخطاب الرسمي في شيطنة الاحتجاجات الاجتماعية وتخوين من يقفون وراءها عبر سرديات المؤامرة والتشكيك”.
وكانت الأزمة على وشك الانفجار بسبب تلويح وزير الشؤون الاجتماعية بإمكانية الاستعانة بأطباء صينيين لتعويض الشغورات، كما أشار في لهجة تهديدية إلى اللجوء للتتبعات القضائية ضد من يواصل التحركات، الأمر الذي اعتبر تهديدا للأطباء المضربين وقمعا لحركة احتجاجية سلمية لأطباء شبان قضوا سنوات كثيرة في الدراسة ويمثلون مستقبل الصحة في تونس وهم يطالبون بظروف عمل جيّدة واحترام حقوقهم.
ويشدّد أحمد بلعربي قائلا في تصريحاته: “نحن نطالب بإصلاح المنظومة الصحية عموما، مع توفير الإمكانيات والتجهيزات لأجل معالجة المرضى، خاصة في المناطق المهمشة، وأيضا في ظل نقص في الأطباء، ولا ندري هل أن سياسة الدولة تحتم عليها عدم زيادة الطلبة في كليات الطب بسبب طاقة الاستيعاب في المؤسسات”، لافتا إلى أن “الأوضاع المتردية من أسباب هجرة الأطباء التونسيين، بل إن من يشتغل بمستشفى العمومي يجد نفسه مجبرا على مغادرتها للحفاظ على صحته النفسية”.
أعاد الإضراب الأخيرة للأطباء الشبان تسليط الضوء على حالة الوهن التي يعيشها قطاع الصحة في تونس، والذي يقول خبراء إنه يؤدي إلى أزمتين الأولى ارتفاع نزيف هجرة الأطباء والثانية ارتفاع عدد الوفيات بين المرضى التونسيين نتيجة فترات الانتظار التي أصبحت طويلة جدّا وهو أمر خطير خاصة بالنسبة لمرضى السرطان الذين يحتاجون إلى العلاج الكيميائي والذي لا يكاد يتوفر إلى في مستشفى “صالح عزيز للأورام” بالعاصمة، أو هناك طريق القطاع الصحي الخاص الذي لا يقدر عليه كل التونسيين.
وشهدت تونس في السنوات الأخيرة أكبر موجة لهجرة الأطباء، ووصل الأمر إلى حد عدم توفر أطباء اختصاص في كثير من المستشفيات خاصة في المناطق الداخلية. وهناك مستشفيات لم يعد فيها سوى طبيب أو طبيبين يغطيان أحيانا أكثر من قسم حيوي في نفس الوقت، وأغلب هؤلاء الأطباء هم المتدربين. وضاعف من هذه الأزمة هجرة الإطارات شبه الطبية خاصة نحو ألمانيا.
ووفق أرقام عمادة الأطباء التونسيين، تفقد تونس سنويا بين 1.300 و1.500 طبيب، وهو رقم يفوق حتى أعداد خريجي كليات الطب سنويا. وأغلب هؤلاء الأطباء شباب درس على مدى سنوات على حساب الدولة لكنه اليوم مضطر للبحث عن فرص عمل أفضل بعيدا عن الظروف المهنية الصعبة وضعف الأجر ونقص المعدات والضغط الإداري على المستشفيات في بلد تعتبر كلية الطب فيه من أعرق الكليّات على مستوى العالم.
ويؤكد المحلل التونسي منذ ثابت في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: الموضوع أخطر من أن يكون قضية قطاعية أو مشكل خاص، الموضوع يتعلق بهجرة الأدمغة بصفة عامة، بين مهندسين وأطباء، تقريبا سنويا يغادر تونس حوالي 1500 طبيب من الأطباء الشبان، هذا الأمر يتهدد قطاعين أساسيين في تونس وهما الهندسة والطب”.
ويضيف ثابت: “الأطباء يعانون من عدة مشاكل عدة منها ندرة التجهيزات، ومسألة الاعتداءات على الإطار الطبي وشبه الطبي من قبل مواطنين في حين أن المفروض أن تكون المؤسسات الصحية تحت رقابة الشرطة، ثم هناك مسألة الأجور المتدنية”.
لكن، رغم الظروف الصعبة إلا أن هناك أطباء مثل أحمد بلعربي يفضلون البقاء في تونس والعمل في منظومة الصحة العمومية، لافتا إلى أن “إمكانية إنقاذ القطاع ممكن لكن حين يأخذ كلّ ذي حقّ حقه”.
ويضيف بلعربي: “شخصيا أريد أن أعمل في بلدي، لا أريد مغادرتها، أنا ابن المرفق العمومي وأؤمن به وببلدي لكن نريد التشجيع والحفاظ على معنوياتنا والتماشي مع أهدافنا في الحياة نريد أن نلمسه على أرض الواقع، حتى لا نلجأ للهجرة”.
وتلتزم المنظمة التونسية للأطباء الشبان بالدفاع عن حقوق الأطباء المتخرجين حديثا والمتدربين وتمثيلهم وحمايتهم ودعمهم في مطالبتهم بظروف عمل كريمة وتحسين نظام الرعاية الصحية وتقدير جهودهم وضمان وصول عادل للموارد الطبية.
خلال احتجاجاتهم أمام المسرح البلدي بالعاصمة رفع الأطباء الشبان شعارا لخّص كل الأزمة، وهو “لن نبقى أسرى مستشفيات متهالكة ومرتبات مذلة”، ليتضح أن أزمة الأطباء الشبان ليست سوى الوجه الظاهر لنزيف عميق ومتواصل في قطاع الصحة العمومية في تونس وعلى الدولة بكل هياكلها أن تتدخل لإنعاش هذا القطاع ضمن معركة وجودية لا تنفصل عن حماية “الأمن القومي”، ولوقف نزيف الهجرة من جهة، وتفادي تسليع قطاع الصحة وتحويله إلى امتياز لا يحصل عليه إلا من يستطيع دفع الثمن في المصحات الخاص، فـ” “تفكك المنظومة الصحية العمومية بسبب العجز المالي وإشكالية التمويل تصب فيس صالح القطاع الخاص”، وفق منذر ثابت.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس