صلاح الدين الجورشي
أفريقيا برس – تونس. قرّرت الحكومة التونسية إلغاء التفرّغ النقابي الذي تمتع به الاتحاد العام للشغل منذ السنوات الأولى للاستقلال. ورغم أن القرار ليس جديداً، إلا أنه يؤشّر على أن العلاقة بين الطرفين قد اقتربت من خط اللاعودة. جاء هذا القرار بعد انعقاد المجلس الوطني للاتحاد، الذي شكل منعرجاً مهماً في علاقة المنظمة النقابية بالسلطة عموماً، وبالرئيس قيس سعيّد تحديداً، والذي اتسم بالغضب والتحدّي والتهديد. فبعد المهادنة وتجنّب التصعيد الاجتماعي خلال السنوات الأربع الماضية، وبعد دعم النقابيين عملية 25 يوليو (2021)، وجدت القيادة النقابية نفسها متّهمة في ذمتها من السلطة وأنصارها، ومقدوحاً في شرعيتها وفي نزاهتها، ومهدّدة بالخلع والمحاسبة.
لم يقف الأمر عند تحدّي الرئيس واتهام السلطة بالوقوف وراء الهجوم على مقرّ الاتحاد، ولم يقع الاكتفاء بالدعوة إلى تنظيم مسيرة احتجاجية يوم 21 أغسطس/ آب الجاري، بل تجاوز الأمر هذا السقف، عندما جرى التغاضي عن الشعارات التي رفعت خلال الهيئة الإدارية ضد قيس سعيّد شخصياً، وبالأخص ترديد القاعة شعار “الاتحاد لا يُهان يا عسّاس (حارس) الطليان”، في إشارة إلى الاتفاقية التي وقّعت مع رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، والتي تقضي بالحدّ من نسبة المهاجرين غير النظاميين إلى إيطاليا، وهو الشعار الذي أغضب الرئاسة، ودفع أنصار السلطة إلى الدعوة إلى محاكمة الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي، ومن معه.
رغم إحجام الاتحاد عن اللجوء إلى الإضراب العام في هذا التوقيت الحسّاس، تاركاً ذلك إلى مرحلة أخرى من تدحرج العلاقة بالسلطة، بقيت ردود الفعل المحتملة لأعلى هرم السلطة عالية ومنذرة بالعواصف. فالمواجهة الأمنية والسياسية بين الطرفين أصبحت وشيكة، حسب عديد المؤشّرات والمعطيات. ولم يعُد مستبعداً أن يُقدم النظام على اعتقال مسؤولين نقابيين في الأسابيع المقبلة بتهم متعدّدة، منها “تسييس العمل النقابي”. وفي ضوء ردود الفعل المحتملة، قد يُشرَع في تفكيك الاتحاد، وإفراغه من العناصر المحتجة والموالية للقيادة الحالية، وقد تنتقل إلى مرحلة التدجين وتنصيب وجوهٍ أخرى تكون مستعدّة لتنفيذ ما ترغب فيه السلطة. وهناك من هيّأ نفسه للقيام بهذا الدور. ورغم أن مراقبين عديدين يستبعدون هذا الاحتمال حالياً، إلا أن تجربة السنوات الأخيرة تثبت أن جميع السيناريوهات واردة.
تعلم القيادة النقابية أن السلطة قادرةٌ على ذلك، فلديها أوراقٌ يمكن استغلالها بشكل تصاعدي أو دفعة واحدة من أجل تحويل هذه المنظّمة الوسيطة إلى ديكور. ومن هذه الأوراق حرمان الاتحاد التمويل القادم من اقتطاع جزءٍ من أجور العمال، ما سيُحدث ضرراً فادحاً بميزانية الاتحاد، ويفرض عليه سياسة الاعتماد على الذات. كذلك في مقدور السلطة استغلال الأزمة الداخلية التي تعصف بالاتحاد، والتي جعلت خمسة من قادته ينسحبون من المكتب التنفيذي، ويلتحقون بما تُسمّى “المعارضة النقابية”. ومن شأن كل هذه الملفات شلّ القيادة الحالية، وجعلها تحت رحمة السلطة، وهو ما جعل بعضهم يذهبون إلى القول إن هذه القيادة قد أخطأت التقدير، وأساءت اختيار توقيت المواجهة.
من الصعب الحكم على نتائج المعركة قبل بدايتها، فكما أن للسلطة أوراقاً للضغط، كذلك لخصومها أوراق مضادّة، فبالرغم من تراجع شعبية النقابات نتيجة أخطائها المتتالية التي أثرت فيها سلباً، لا يزال الاتحاد قادراً على إرباك الحكومات المتعاقبة. وفي حال نجاح القيادة في ترميم صفوف النقابيين، وتأجيل خلافاتهم، فمن شأن ذلك إيجاد حالة اجتماعية وسياسية غير مستقرّة تضعف السلطة وتبتزّها، خصوصاً في الظروف الاقتصادية الحالية، فمن شأن اعتقال النقابيين لأسباب سياسية أن يدفع المنظّمات النقابية العالمية، وفي مقدّمها منظّمة “السيزل”، نحو المساهمة في تعميق عزلة النظام على الصعيد الدولي، ومزيد من إرباكه. وهو ما تنتظره المعارضة أو جزء واسع منها، لتصعيد خطابها ومحاولة عزل السلطة داخلياً وخارجياً.
… أكيدٌ أن تونس تتجه نحو مزيد الانغلاق، إذ مهما كانت نتيجة المواجهة الحالية، فإن الذي يظنّ أنه الرابح في هذه المعركة سيكتشف، في النهاية، أن الجميع خاسرون.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس